جيوبوليتيكا الحراك الجزائري: دراسة في فهم ما يجري
هذا النص هو ملخّص لدراسة معمقة للباحث السياسي مهدي تاج باللغة الفرنسية تنشرها بيزنس نيوز للمساهمة في فهم ما يجري بالجزائر وما يحيط بها وما يمكن أن يجري في ظلّ واقع متحرّك.
لا شك في أن ما تشهده الجزائر من أحداث غير مسبوقة من حيث أهميتها، ستساهم في رسم ملامح جزائر الغد وإعادة تشكيل الخارطة المغاربية والمتوسطية والساحلية.
لذلك لا بد للقارئ من فهم دقيق لما يجري، حتى لا تغمره سيول الأخبار وتسارع الأحداث المتأتية من هناك والتي ستشكل بلا أدنى شك قطيعة حقيقية في السيرورة التاريخية للجزائر وللمنطقة برمتها.
فمن البديهي أنه سيكون ثمة بالنسبة إلى الجزائريين ما قبل 22 فيفري 2019 وما بعده .. وملامح المستقبل بدت تلوح تدريجيا وتتجلى أمام أعيننا من زوايا مختلفة لتظهر لنا الحقيقة وسط الأدوار المعقدة للأطراف الفاعلة في الداخل والخارج.. صحيح أن تسارع الأحداث وتغير المعطيات بشكل تصاعدي، قد تراوغ أكبر الخبراء والمحللين .. لكن مع ذلك لا بد من نظرة فوقية جيوسياسية للأحداث والتحديات القائمة.
يتميز العالم اليوم بتسارع مجنون للأحداث التاريخية، هذا العالم بصدد تحولات وتغيرات عميقة ومتسارعة، وهو يشهد حالة من عدم الإستقرار والأحداث غير المتوقعة، مما يفاقم من التهديدات والمخاطر التي تشكلها النزاعات وعمليات التصعيد.
فالعولمة وهذا لا يختلف فيه إثنان، ما انفكت تثير الإنتقادات والرفض، باعتبارها حطمت كل آليات امتصاص الصدمات التي كانت تتيح في السابق إمكانية تحقيق شيء من التعديل على هذا الكون.. فنحن بصدد عيش ثورة استراتيجية كبرى تتمثل في انخرام وعدم توازن النظام الدولي، مع بروز الأنظمة أو الفوضى البديلة. وفي هذا السياق نواكب إلى عودة منطق القوة مع تنامي واحتدام التنافس بين القوى الغربية التي ترمي إلى الحفاظ على الولايات المتحدة كمحرك للتحولات الكونية، وفقا لما تراه تلك القوى، وبين القوى الصاعدة الساعية إلى إرساء عالم متعدد الأقطاب (الصين، روسيا، الهند، فينيزويلا...) وبالتالي فإن بلدا مثل الجزائر على غرار بلدان أخرى من بينها فينيزويلا، سيجد نفسه في قلب صراع القوة هذا.. فالمخاطر المتصلة بحدوث نزاعات أصبحت هامة أكثر فأكثر.
بموازاة ذلك نجد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي (البريكست) وانتخاب دونالد ترامب، رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، وتصاعد اليمين المتطرف خاصة في أوروبا .. كلها أحداث تعكس التحركات والتحولات العميقة التي يشهدها العالم ومحاولة لتقويض النموذج المهيمن والذي تمثله العولمة. لذلك نلاحظ عودة بقوة للتاريخ والجغرافيا وللإنسان .. باختصار عودة للجيوسياسة المحلية.
من هذا المنطلق فإن النظام الكوني على الطريقة الغربية يواجه أزمة في الديمقراطية مع ثورة الشعوب العميقة ضد الأنظمة العميقة.. هذه العولمة أنتجت في حقيقة الأمر نظاما عميقا قضى على القواعد المتعارف عليها وعلى المشاريع الجماعية والوطنية، للنهوض في المقابل بالسلطة والمال.. هذه المنظومة بحكم تركيبتها وأهدافها لم تتوان في التعامل مع الأنظمة المافيوزية والتنظيمات الإجرامية .. في المقابل تمارس الشعوب نوعا من الضغط على حكامها حتى تعطى لهم الأولوية في إدارة شؤون المدينة .. هذه الحركية والديناميكية الجيوسياسية تساعد على فهم ظاهرة السترات الصفراء في فرنسا وانتفاضة الشعب الجزائري الذي لم يعد يطالب فحسب برحيل الرئيس بوتفليقة وإنما بتفكيك النظام الجزائري برمته، هذا النظام الموروث عن حرب التحرير، وبجمهورية ثانية.. لذلك فإن الشعوب العميقة التي لا يقع تشريكها في القرارات، تجد نفسها مستعدة لقلب الطاولة وشن ما يعتبره بعض المحللين ب"الحرب الأهلية الكونية".
في هذا العالم "الصغير"، فإن أي رجة، مهما كانت بعيدة، لا يمكن تجاهلها من قبل السلطات التونسية، فما بالك بزلزال يهز أركان الجزائر الشقيقة على حدودنا الغربية، مع حالة الفوضى التي تعرفها ليبيا على حدودنا الشرقية؟.. وبما أن استقرار تونس وديمومة مسارها الديمقراطي مرتبطان جدا بالإستقرار في الجزائر، فإن الأحداث التي تعرفها الجزائر تشكل مسألة حياة أو موت ليس فقط للشعب الجزائري الشقيق بل للشعب التونسي ولتونس بصفة عامة.
الحراك الذي اندلع في الجزائر يوم 22 فيفري 2019 سيطبع بلا شك التاريخ الحديث والمعاصر للجزائر ليمثل قطيعة مع التاريخ الجزائري لما بعد الإستقلال ..ملايين الجزائريين يتظاهرون سلميا منذ ستة أسابيع في العاصمة وكبرى المدن وفي سائر البلاد للمطالبة في البداية بسحب ترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة، ثم رفض خارطة الطريق التي اقترحها هذا الأخير يوم 11 مارس 2019 تلتها رسالة يوم 18 مارس.. لكن الجزائريين الذين تضاعفت أعدادهم شيئا فشيئا في الشوارع، لم يتراجعوا رافضين أن يتم التلاعب بهم من قبل نظام يحتضر كل ما يبحث عنه هو إنقاذ ماء الوجه أمام حركة احتجاجية لم يقدر في البدء حجمها الحقيقي.. المطالب الشعبية والجماهيرية كانت واضحة وفي اتجاه واحد وهي سقوط النظام برمّته وليس فقط رأس النظام ممثلا في بوتفليقة.
كان الحراك يقوى من أسبوع لآخر، رافضا كل المبادرات التي اقترحها النظام .. يوم 26 مارس 2019 انفصل قايد صالح، قائد أركان الجيش ونائب وزير الدفاع عن شق بوتفليقة داعيا إلى تطبيق المادة 102 من الدستور الجزائري والتي تخول للمجلس الدستوري معاينة حالة عجز الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أو الإستقالة .. كان قايد صالح يتطلع إلى ربح مزيد من الوقت وتقسيم الشارع الجزائري وتحييد منافسيه وإعادة القيادة العليا للجيش في صميم اللعبة السياسية في دور الحكم القريب من الشعب والتحكم بالتالي في المسار الإنتقالي والتغطية على الإنشقاقات التي تهز المؤسسة العسكرية .. في نهاية الأمر فإن قايد صالح من خلال التضحية بالرئيس بوتفليقة وبشخصيات أخرى من رموز النظام، كان يأمل في الحفاظ على هذا النظام ذاته.. فالرهان كان يتمثل في الحفاظ على النظام الحقيقي في أشكال أخرى، مع تفادي رؤية تلك الإحتجاجات تتطور إلى مسار ثوري لا يمكن التحكم فيه.
رد الشارع الجزائري لم يتأخر كثيرا .. في مسيرة 29 مارس خرج المحتجون رافعين شعارا واحدا وبصوت واحد هو رفض مقترح قايد صالح الذي رأى الجزائريون أن فخ نصب لهم لتمكين النظام من الحفاظ على موقعه مع تغيير في الوجوه والأسماء.. لكن الشعب قال كلمته "بوتفليقة ارحل ومعك قايد صالح" .. "الشعب يريد تطبيق المادة 7 من الدستور" والتي تنص على أن الإرادة للشعب هو من يقرر مستقبله ومصيره .. لكن الجنرال قايد صالح لم يرم المنديل ليظهر أمام الملأ في بيان قوي بتاريخ 30 مارس، مؤكدا أن الحل الوحيد للخروج من الأزمة هو ما كان اقترحه قبل أسبوع من اللجوء إلى المادة 102 من الدستور .. لكن أمام تواصل رفض الشارع الجزائري لكل هذه المناورات، كان أخيرا للجزائريين ما خرجوا لأجله إلى الشوارع وهو إعلان عبد العزيز بوتفليقة أستقالته من منصب رئيس الجمهورية فورا.
(ملخص للنص الأصلي بالفرنسية )
تعليقك
Commentaires