الهيئات الدستورية في تونس أظهرت محدوديتها
للهيئات الدستورية المستقلة مهام وصلاحيات بارزة وغايات نبيلة كانت الركيزة الأساسية عند صياغتها والتفكير في إحداث هذه الهيئات التي تضطلع بدور السلطة المضادة في بلد عاش مصدوما تحت وطأة نطام مستبد، لذلك يعد وجودها أمرا شبه حيوي وضروري في سياق انتقال سياسي يهدف إلى إرساء دولة ديمقراطية .. وإذا كان قيامها على الصعيد السياسي ومن ناحية اجتماعية واقتصادية وتشريعية لا لبس فيه، فإن المسألة تقتضي مراجعة وإعادة نظر من زاوية نفسية وبسيكولوجية ..
فهيئة الحقيقة والكرامة مثلا ما انفكت تسيل منذ سنوات حبر عديد الملاحظين والصحفيين بصفة خاصة.. إذ أن محاولة إدانة التجاوزات الواضحة والجلية وتحميل سهام بن سدرين، رئيسة الهيئة المسؤولية في علاقة بالأكاذيب التي تروجها، دفع ثمنها البعض. تقرير التدقيق الداخلي الذي أنجزته دائرة المحاسبات حول تصرف الهيئة وحساباتها كشف مؤخرا سنوات من سوء التصرف طالما تم التنبيه إليها وأقل ما يقال عن الحصيلة إنها مذهلة.
مسلسل هيئة الحقيقة والكرامة مازال متواصلا ويبدو أن حلقاته الأخيرة لم تكتب بعد .. فالتقرير الصادم الذي نشرته دائرة المحاسبات يوم 27 مارس 2019 كان له وقع الصاعقة، بين معطيات شخصية مكشوفة وملفات ضائعة وآلاف الدنانير من المصاريف غير المبررة وانتدابات خارج إطار المناظرات واقتناءات مشبوهة وطلبات عروض غير قانونية وفواتير مفقودة وإجراءات مرتجلة وحواسيب غير موجودة وهو كذلك مصير إحدى السيارات .. ما يفرض التساؤل عما إذا كانت أصيبت البلاد بالعمى في الوقت الذي كانت فيه هيئة مستقلة تتصرف في ملايين الدنانير دون إدراك بما ستفعل بتلك المبالغ.
في حقيقة الأمر لا أحد كان مصابا بالعمى ولكن لا وجود لمن كان يقدر أو يرغب في التحرك وإيقاف هذا النزيف. فحالة هيئة الحقيقة والكرامة إذا ما تمعنا فيها عن قرب، تعكس بجلاء الوضع المزري الذي تتخبط فيه البلاد وهو ما يكشف بوضوح فشل الهيئات المستقلة التي تم تركيزها إبان الثورة.
فقد بات جليا للعيان أن هيئة الحقيقة والكرامة ينخرها الفساد وهي التي أحدثت حتى تساهم في الكشف عن الحقيقة وتعويض ضحايا النظام السابق وإذا بها تصبح عبءا على خزينة الدولة من خلال تبذير المال العام، بين سيارات فخمة ومصاريف عقيمة بلا جدوى وصلت حد ضياع ملفات عدد من الضحايا كان يفترض بالهيئة أن تمثلهم .. فالهيئة التي تحمل الحقيقة إسما وشعارا غرقت في طوفان من الأكاذيب وصارت عنوانا للألاعيب والفضائح، لكن هذه الهيئة ليست حالة معزولة للأسف الشديد.
بدورها ما زالت الهيئة العليا المستقلة للإتصال السمعي والبصري (الهايكا) تتخبط عاجزة عن القيام بدورها على أكمل وجه ألا وهو تعديل المشهد الإعلامي .. فهي المكلفة بالسهر على حماية الجمهور المتلقي وعلى ضمان حرية الإتصال وجودة المعلومة وممارسة حرية التعبير والتعددية الإعلامية واحترام أخلاقيات المهنة وقواعد الإنتاج السمعي البصري في تونس، تجد صعوبة كبرى في القيام بالمهمة التي بعثت لأجلها.. أفضل دليل على ذلك نوعية البرامج والتجاوزات العديدة التي تأتيها قنواتنا الإذاعية والتلفزية، وهو واقع ملموس يغنينا عن أي وثيقة أو تقرير.
جهود الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب والرامية إلى تجميع شهادات الضحايا وبث ثقافة اللاعنف وإنارة سبيل هياكل للدولة في مجال مكافحة التعذيب، لا جدوى يذكر لها.. فمازالت منظمات المجتمع المدني تسجل حالات التعذيب وتدين ممارسات لم تتغير مقارنة بفترة النظام السابق.
الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات لم تشذ بدورها عن القاعدة فهي أيضا نالت نصيبها من الفشل، رغم بعض النجاحات النسبية التي تحققت بجهد جهيد.. فالهيئة راكمت المواعيد المؤجلة والإستقالات والإقالات ومختلف أشكال التعطيل وهي ما زالت تتخبط إلى اليوم بالرغم من كونها كانت مطالبة بتحقيق ما دفع بالتونسيين إلى قلب النظام السابق.
فلو أردنا التدقيق والتمحيص في الوضعية الحالية سنكتشف دونما عناء أو جهد كبيرين، أن الأطر القانونية والسياسية والإقتصادية وحتى الإجتماعية لهذه الهيئات واضحة وجلية .. فالجميع يدرك كيف ولماذا تم إحداثها ولأية غاية ووفقا لأي إطار تشريعي، لكن لا أحد يعلم إلى غاية اليوم لماذا فشلت. وإذا سلمنا بأن كل شيء على ما يرام من الناحية السياسية والإقتصادية والإجتماعية والتشريعية، لا يبقى أمامنا سوى العامل البشري، بما يعنيه ذلك من أن الطبقة الحاكمة وأصحاب القرار الحاليين قد يكونون هم سبب هذا الفشل.
فمنذ قرون، نبّه المفكرون أمثال أرسطو وأفلاطون ومكيافيل ومونتسكيو، إلى العلاقة الوثيقة التي تربط بين السياسة وعلم النفس، راسمين ملامح ما سيعرف لاحقا بعلم النفس السياسي والذي أبجديات أن سلوكيات مجتمع ما وبالتالي قادته، مرتبطة بعوامل ثقافية محددة ومميزة جدا، تؤثر في نهاية المطاف بشكل مباشر على السياسة في منطقة ما.. وهو ما قد يفسّر فشل عديد الهيئات الوطنية وخاصة المشرفون عليها، في تحقيق الأهداف التي بعثت لأجلها تلك المؤسسات.
وبالتالي علينا القيام بتحليل نفسي وسلوكي لفهم وتفسير عدم نجاعة هياكل ومؤسسات كل شيء كان يؤهلها لأن تنجح .. وهنا يأتي دور علم النفس السياسي. صحيح أن السياسية هي المرآة العاكسة للمجتمع وأن القادة السياسيين التونسيين سيكونون حتما نتاج واقعهم الإجتماعي..
فمجتمع لديه استعداد فطري للتعامل والتطبيع مع الفساد بأشكاله، سيكون من الصعب عليه إنتاج سياسيين نزهاء .. مونتسكيو مثلا ربط الديمقراطية بالفضيلة وهو ما يعكس لنا إلى أي حد تتدخل طباع الأفراد وبالتالي السلوك السائد في المجتمع، في صياغة ملامح السياسة في بلد ما. فالفضيلة السياسية مثلما عرّفها فيلسوف التنوير تحيلنا إلى حب الوطن وتحقيق المساواة. لذلك فإن معاناة هيئاتنا ومؤسساتنا من نقص التشبع بهذه القيم والمثل، يفسر حالة الإنهاك والإرهاق التي انتابت مسارنا الإنتقالي.
(ترجمة عن النص الأصلي بالفرنسية)
تعليقك
Commentaires