اليوسفيين – البورقيبيين : هل تُـنصب المشانق، للتّاريخ؟
الوعيُ بالتاريخ الوطني، ليس فعلا ذاتيا أو إنطباعيّا حتّى يكون لكلّ "مُـعسكر" تاريخه الخاص، أو تاريخهُ الموازي. تاريـخُـنا- التونسيّ ظل الى وقت قريبٍ مشتركًا نستلهمُ منه، إلى أن أصبحت هوايات البعض إجتثاث التاريخ وإستدعاءه إلى محاكمات وهميّـة، ثم تنصب له أعواد المشانق دُون أن يتكـرّم صوتُ الإتهامِ بمنحه حقّ الترافع! أيّ المقاربات القانونيّة-الشاذة يتبناها هؤلاء، في القرن 21؟
انطلقت صبيحة أمس بالدائرة الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بتونس، محاكمة المتورطين في اغتيال صالح بن يوسف سنة 1961. محاولة، لوأد ذاكرة وميلاد ذاكرة أخرى تنتصر لثأر قديم واستحضارمستمر للصراع اليوسفي-البورقيبي في حاضرنا لا يخلو بدوره من الصراعات. محامي الدفاع عن اليوسفيين عفيف بن يوسف زعم أن الادانة ثابتة (لا ندري حسب أي مشرع-أو أي قانون) من خلال "البحث" على ستة أشخاص هم الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية الأول، وحسن بن عبد العزيز الورداني، والبشير زرق العيون، وعبدالله بن مبروك الورداني، ومحمد بن خليفة محرز، وحميدة بنتربوت. الى حد الان، قد تعتقد أنها محاولة تعميم لانتقام شخصي فحسب. أخشى أن اليوسفيين قد يخيبون ظنك. لم يكتفي هذا "البحث" باتهامات لشخصيات وطنية، ليتجاوز ذلك الى اتهام صريح لمؤسسات الدولة التي يبدو أنها حسب رواية المعسكر اليوسفي مشاركة في اغتيال قائدهم. اذن بالاضافة الى محاكمة التاريخ، ينوي الباحثون عن العدالة، محاكمة الدولة التونسية برمتها، محاكمة رئاسة الجمهورية والحرس الرئاسي ووزارة الداخلية ووزارة الشؤون الخارجية وسفارة تونس بألمانيا.. هذه المؤسسات أيضا كتب لها- للأسف أن تحاسب بعد ستين سنة من ارسائها على عملية اغتيال شاركت في تنفيذها حسب "بحث" ما.
وان ظننت أن الأمر يتوقف عند حدودنا الجغرافية المتواضغة، فأنت مخطئ! يتجاوز ''البحث" قارتنا، الى القارة الأروبية التي شاركت كذلك في المؤامرة. فقد صرح محامي الدفاع عفيف بن يوسف أن البحث أثبت.. سكوت ألمانيا على الجريمة! ولم تكتف ألمانيا –سامحها الله- بالسكوت. فقد تجرأت على عدم تتبع المتهمين ومحاكمتهم رغم التعرف عليهم، ورغم وقوع الجريمة فوق أراضيها. هي اذن محاكمة القرن بالنسبة الى هؤلاء.
نجل صالح بن يوسف، لطفي بن يوسف، قدم من الولايات المتحدة الأمريكية الى تونس لمتابعة المحاكمة. صرح بن يوسف الابن أن مطلب العائلة، هو اعتراف الدولة التونسية بانها ارتكبت "جريمة دولة" وتقديم إعتذارها لعائلة الضحية.. " ان موضوع التاريخ ليس ما يريده الانسان بل تصورنا لما يريد " جملة أوردها الروائي الروسي تولستي في أحد نصوصه، ولم يعلم، أننا سنستلهم منها بعد عقود صورة، لمحاولة احد ما اسقاط رغباته على التاريخ بأكمله حتى يتماشى مع مصالحه الضيقة.
كل من بورقيبة وبن صالح، أحب تونس على طريقته وكل منهما مناضل وطني كانت له رؤيته الخاصة، وصراعهما كان حول السلطة و الزعامة. صراع انتهى، وكل من يريد اسقاط خلاف تاريخي على واقعنا الراهن، واهم. الغاية من "البحث" و"المحاكمة" ليس الانصاف ولا كشف الحقيقة. هو محاولة اعادة كتابة التاريخ واغتيال رموزه، ومزيد من التفرقة والتقسيم في صفوف التونسيين، وتسجيل حسابات سياسية قبل موعد انتخلبي حاسم.
جلد التاريخ والمحاولات الجاهدة لتزييفه والانتقام منه، لم يمكن أن يكون من سمات الباحثين عن الحقيقة- والكرامة. ولايمكن لمحاكمات الموتى، أن تكون محاكمات حقيقة وعادلة. لكن يبقى هنا أنه من الضروري أن نشير الى أن هذا لا يعني بأي حال أن يتحول التاريخ الى حجر مقدس لا يراجع ولا ينقد، ولا يعني أن بورقيبة لم يرتكب أخطاء، ولا يمنح الحق لاستغلال هذه المحاكمة عكسيا في خطابات التظلم واستجاد الرأفة في الانتخابات القادمة من قبل من يدعوون أنهم دساترة يريدون ارساء "جمهورية ثالثة".
المنصف المرزوقي عبر –طبعا- عن تأييده لهذه المحاكمة بهدف كشف الحقيقة عن "حقبة مظلمة من تاريخ تونس من حق الشعب معرفتها وانصاف الشهداء'' انصاف يبدو أن الرجل يوجهه انتقائيا. لم نر المرزوقي يتحدث يوما عن انصاف شكري بالعيد أو البراهمي. لم نر الرئيس الأسبق يتحدث يوما عن محاكمة العريض، عن أحداث الرش بسليانة، عن تبييض الترويكا للارهاب، أو غيرها من الأحداث قصيرة العمر والتي حدثت في عهدته وحين كان يملك السلطة التنفيذية. حقبة يعتقد المرزوقي أنها كانت "مضيئة" ومرت دون اغتيالات سياسية ودون ارهاب ودون جرائم منظمة.
من جهة أخرى، اثار خبر المحاكمة حفيظة العديد من الفاعلين السياسيين. وفيما حاول بعضهم توظيف الحادثة سياسيا مثل عبير موسيالتي خيل لها أن المحاكمة "إستهداف للصعود الواضح للحزب الدستورى الحر''.. جاء في تعليق رئيس حركة مشروع تونس محسن مرزوق أنّ محاكمة قتلة بن يوسف المقصود بها محاكمة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة لدوافع سياسية تخريبية تهدف لزرع الفتن وتغذية الأحقاد، معتبرا أنّ الدولة التونسية أعادت الاعتبار لبن يوسف في عهد بن علي، متهما هيئة الحقيقة و الكرامة بالقيام بأنشطة تخريبية.
القيادي بحركة تحيا تونس سليم العزابي قالأن حزبه يتفهم رغبة عائلة الزعيم صالح بن يوسف الكشف عن حقيقة ملابسات الإغتيال كاملة، لكنهم يلفتون نظر التونسيين لخطورة إستغلال هذه القضية لإفشال المصالحة الوطنية الشاملة والعدالة الإنتقالية، التي تتَطلّب إستكمال مسارها على أسسٍ سليمة، والتي نعتبرها الوسيلة الوحيدة لبناء مستقبل يمكّن أبناء الشعب من التّعايش في كنف الوحدة الوطنية.
من جهته إعتبر القيادي بحزب البديل فوزي اللومي أنّ تونس تتعرض لعملية تخريب سياسي ممنهج آخر فصولها ''الزج بالقضاء في هذه المهزلة من خلال ما اطلق عليه بمحاكمة قتلة صالح بن يوسف''، معتبرا أنّ هذا الأمر سيزيد في إرباك القضاء وإرباك الوضع السياسي.
النضج السياسي يقتضي دوما النظر إلى التجارب التاريخية عبر الاستدراكات ومباشرة المراجعات، وخصوصا النقد. الفريق الذي يعتقد أن التاريخ مقدس مخطئ بقدر الفريق الذي يسعى لتكذيب التاريخ. المطلوب هو القليل- فقط القليل- من الموضوعية. الشأن الوطني أكبر من أن نتعامل معه بعاطفة، لأننا بذلك لا نترك مجالا للحقيقة وقد نساهم حتى بسكوتنا في تزوير التاريخ للأجيال القادمة. الطبقة السياسية الحالية تتعامل مع التاريخ بطريقتين، بين تقديس التاريخ و بين تحطيم التاريخ واغتيال رموزه وشخصياته الأول يرفض النقد والاصلاح والتعلم من أخطاء الماضي والثاني ينوي التزييف بكل وقاحة. وكلاهما يحاول توظيف هذه المحاكمة لصالحه، ولنذكر ان المدافعي عن بورقيبة الان لم يدافعوا عنه تحت نير نظام بن علي.
تعليقك
Commentaires