قطاع الطّاقة في تونس .. ثروات منسيّة
قطاع الطاقة في تونس هو أحد الدّعائم الأساسية لميزانية الدولة، إذ شهد على إمتداد السنوات الأخيرة تراجعا ملحوظا بنسبة 6 بالمائة سنويا، وانخفض الإنتاج الوطني ، وهو ما أثّر سلبا على التوازنات الماليّة للبلاد، كما أثار هذا التراجع حفيظة المجتمع التّونسي بكل عناصره وطُرحت العديد من التساؤلات في ما يحوم حول القطاع من فساد وتجاوزات، مما ساهم في اندلاع العديد من الإعتصامات والإحتجاجات الشعبيّة من أبرزها نذكر حملة "وينو البترول" في ماي 2015، التي تهدف للكشف عن حقيقة الثّروات البترولية المنهوبة في البلاد وعن أسباب تراجع الإنتاج في السّنوات الأخيرة.
في هذا السياق، نشرت دائرة المحاسبات في ديسمبر 2012، تقريرا متكوّنا من 40 صفحة، يتمحور حول سوء الإدارة في قطاع الطاقة، وكشفت عن وجود مافيا تستفيد من الموارد الطاقيّة على حساب المصلحة العامّة. وبعد عثور لجنة التحقيق الوطنية حول الفساد والإختلاس على وثائق في مكتب الرّئيس المخلوع زين العابدين بن علي ، أعلنت عن وجود شبكات متورّطة في ممارسات مشبوهة في قطاع الطاقة في علاقة مع المؤسّسات العموميّة وهذا بالتّواطئ مع مؤسّسات أجنبيّة.
وساهم الفصل 13 من الدّستور في قطاع الطّاقة والّذي يشير إلى أنّ " الثروات الطبيعية ملك للشعب التونسي، تمارس الدولة السيادة عليها باسمه. وتُعرض عقود الاستثمار المتعلقة بها على اللجنة المختصة بمجلس نواب الشعب وتُعرض الاتفاقيات التي تبرم في شأنها على المجلس للموافقة " في خلق العديد من المشاكل والصراعات داخل هذا القطاع ، إذ لم يحدد هذا الفصل الطبيعة الإدارية لقرارات إسناد رخص البحث أو التمديد فيها أو تجديدها، وقرار عرض التراخيص والعقود للتّنقيب والإستكشاف على مجلس النّواب للمصادقة عليها، وهو ما أثّر سلبا على عمل الوزارة المعنيّة بالطاقة والمستثمر، نظرا لتأخّر المجلس في النّظر في هذه العقود، ممّا دفع بالمستثمر إلى المغادرة للاستثمار في بلد آخر. ونذكر أنّ هذه السلطات المعنية كانت قادرة في السابق على تحفيز المستثمرين على حفر 20 بئرا في السنة، و بعد إدراج هذا الفصل بالدستور لم تنجح في تحفيزهم سنتي 2015 و 2016 على حفر أيّ بئر، في ما يخص رخص التّنقيب فكان عددها 53 قبل 2011 وأصبحت 26 بعد 2014 .
كما تراجعت الإستثمارات في الإستكشاف من حوالي 400 مليون دولار سنة 2010 إلى87 مليون دولار سنة 2017 وذلك أساسا بسبب عدم منح التراخيص الخاصة بالاستكشاف ما بين سنتي 2014 و2016.
وأثّر ذلك على الميزان التجاري الذي تجاوز عجزه 19 مليار دينار خلال سنة 2018 (تدهور الميزان الطاقي يساهم بنسبة 65 بالمائة من تفاقم العجز التجاري).
كما تراجع إنتاج الغـاز الطبيعي بنسبة 15 بالمائة (إحصائيات 2016)، وفي المقابل تطوّر الاستهلاك الوطني من المواد الطاقية وتمّ تسجيل زيادة في الطلب على الطاقة الأولية بنسبة 1.5 بالمائة وارتفاع في استهلاك الكهرباء بنسبة 0.7 بالمائة وتقلّص الإنتاج المحلي للنفط بنسبة 40 بالمائة.
كلّ هذه التّداعيات والتناقضات في قطاع الطاقة، زادت من تفاقم الأزمة وعمّقتها إلى أن قرّر رئيس الحكومة يوسف الشاهد في 31 أوت 2018، بعد تفطّنه لوجود ملف فساد داخل وزارة الطاقة، التخلّي عن الوزراة وإلحاقها بوزراة الصناعة والمؤسّسات الصغرى والمتوسّطة تحت إشراف سليم الفرياني، ودعا إلى تشكيل لجنة خبراء لدى رئاسة الحكومة لإعادة هيكلة الوزارة ومراجعة إعادة هيكلة قطاع الطاقة، أيضا جاء هذا القرار على خلفيّة السماح لمستثمر تونسي باستغلال حقل نفط والبحث عن البترول دون رخصة.
وبالتّالي تمّت إقالة كل من وزير الطاقة والمناجم والطاقات المتجدّدة خالد قدور، أيضا كاتب الدولة للمناجم هاشم الحميدي، وتمّت إقالة المدير العام للمحروقات الهادي الهريشي والمدير العام للشركة التّونسيّة للأنشطة البتروليّة المنصف المطوسي والمدير العام للشؤون القانونيّة بوزارة الطاقة محسن المنصوري.
لم يشهد قطاع الطاقة أي تغيّيرات على المستوى الإيجابي في 2019، إذ تبلغ الطاقة الإنتاجية الحالية من البترول 38 ألف برميل في اليوم بعدما كانت حوالي 70 ألف برميل في اليوم سنة 2015، و يبلغ إنتاج الغاز حاليا حوالي 40 ألف طن يوميّا. في ما يخص إسناد الرّخص الإستكشاف والبحث لم يتم منح أي رخصة وقد تقلّصت إلى 29 رخصة مقارنة بـ 37 رخصة سنة 2015، إذ انتهت صلاحية 22 رخصة ولم يقع تجديدها وتخلّى 13 مستثمر عن رخصهم، وتراجع عدد آبار التطوير من 19 بئر سنة 2010 إلى صفر سنة 2017 وبالتالي بلغت نسبة نجاح الآبار في تونس 15بالمائة في الصحراء و 7 بالمائة في الشمال. بالإضافة إلى وصول مبلغ الاستثمار الجملي لإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجدّدة مليارا دولار، وهنا مثّل العجز الطاقي 6 مليار دينار أي بنسبة 21.6 بالمائة من العجز الكلّي لميزانية الدولة.
وقد عبّر كمال بالناصر الخبير الدولي في مجال الطاقة وزير الصناعة و الطاقة و المناجم الأسبق ، عن رأيه في هذا القطاع قائلا إنّ وضع الطاقة في تونس كارثي وإنّ تواصل العجز في القطاع سيؤدي بالضرورة إلى توقف إنتاج النفط في تونس بعد 10 سنوات من الآن نظرا إلى إنعدام الإستكشافات النّفطيّة الجديدة. وكان بالناصر من الّذين ندّدوا بقرار تخلي رئيس الحكومة عن وزارة الطاقة وشدّد على كفاءة وزير الطاقة خالد قدور، واصفا إجراء الحكومة بالمتسرّع وإنّ يوسف الشاهد بهذا القرار قد قام بقطع رأس وزارة الطّاقة.
كما أشار في تصريحاته الإعلاميّة، إلى أن القطاع يشهد أقصى درجات العجز في الإنتاج، ووضّح إن تونس الآن في حاجة إلى 5 ملايين طن من المحروقات في حين أن العرض المتوفر لا يتجاوز مليوني طن أي في حدود 40 بالمائة من حاجياتها، مضيفا أنّ 26 بالمائة من العجز التجاري سببه العجز الطاقي.
وبيّن بالناصر أن الوزارة تعمل على مشروع غاز "حقل نوّارة" في الجنوب التونسي الّذي كانت ستنطلق أشغاله في 2017 ومن الممكن أنها ستنطلق في 2020، ويجب التكثيف والعودة للإستكشاف والإنتاج في المحروقات.
ومن بين البوادر الطيّبة على حد تصريحات وزير الصناعة سليم الفرياني خلال الجلسة العامّة بالبرلمان يوم 21 ماي 2019، قال يوجد في تونس حوالي 50 حقل من المحروقات لم يتم الكشف عنهم بعد، ودعا رئاسة الحكومة إلى تشجيع الإستقطاب للمستثمرين الأجانب للبحث عن المحروقات خاصة وأن العملية تتكلّف أكثر من 3 و 5 مليون دينار. كما أكد أن مشروع نقل غاز الجنوب "مشروع غاز نوارة" أدرك مرحلته النهائية وأنه سيمكن من تغطية 50 بالمائة من حاجيات تونس( 2,7 مليار متر مكعب من الغاز) و17 بالمائة من حاجيات الشركة التونسية للكهرباء والغاز وسيقلص بنسبة 30 بالمائة من واردات تونس من الغاز الطبيعي.
قطاع الطاقّة هو المحرّك الأساسي لإقتصاد البلاد ويجب على الدّولة أن تستفيق من غفوتها وعلى الأطراف المسؤولة عن هذا القطاع أن تتعامل بكل جديّة في إتّخاذ التدابير اللاّزمة وتعمل على تنفيذها لا أن تتركها حبرا على ورق للتّحسين والزيادة في الإنتاج الطاقي وبالتالي الحد من تراجع الميزان التّجاري وتدهوره.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires