ماذا يحدث في دار المعلمين العليا؟ أسئلة وأجوبة عن تُهم اعتداءات جنسية
اليوميُّ في دار المعلمين العليا، مُختلف قليلا، لطبيعة التكوين الأدبي والنقدي الذي يفكك اللغة والأخلاق والقيم المُثلى. الجميع هُنا في القرجاني- طلبة وأساتذة- في حالة سؤال دائمة، عن الوجوه الأخرى غير المنطوق بها في قصائد "شارل بودلير"، عن مقاصد أخرى للشواهد غفل عنها ابن يعيش في "شرح المفصل"، وأحيانا، عن إتهامات أخرى .. غير إتهامات "ايميل زولا" !
خارج قاعات الفلسفة والأدب الفرنسي القديم، تعيش "الإيكول" كما يدعوها أبنائها منذ أسابيع على وقع سؤال ثقيل-مُقلق. في شهر نوفمبر المنقضي، أدلت شابتان بشهادتين في مجموعة "أنا زادة" المغلقة على الفايسوك عن أستاذ جامعيّ يزاول التدريس بدار المعلمين العليا، تمّ توصيفه في كلا الروايتين بالـ"متحرش". تتالت الشهادات التي اتفقت على التوصيف ذاته، ليُقرر مجموعة من الطلبة يوم 2 ديسمبر 2019، تنظيم وقفة احتجاجية اتخذ لها الطلبة شعار "المتحرش مايقريش" تجريما للتحرش في الوسط الجامعيّ ومطالبة بالتحقيق مع الاستاذ. في المقابل قرر هذا الأخير التوجه الى القضاء بتهمة الثلب والافتراء بالباطل، ليتحول الجدل من فُتات أحاديث خافتة في ساحة المعهد الى قضية رأي عام قررت بيزنس نيوز أن تبحث لها عن بعض الأجوبة.
تقاطعات : أربع نساء، سردية واحدة
اتصلنا بالمكلفات بادارة حملة "أنا زادة"، ليُخبرننا أن بعض الشهادات الواردة في المجموعة ممنوعة من الاستغلال الاعلامي لأن صاحباتها اشترطن ذلك. المجموعة كما تصفها احدى مؤسسات الحملة هي "فضاء أمن لمشاركة قصص الضحايا مع التحرش والاعتداءات الجنسية". احتراما لعضوات الحملة، بحثنا عن شهادات علنية متعلقة بحادثة دار المعلمين العليا، لنقع على شهادة أستاذة جامعية فرنسية أكدت أنها كانت من زملاء الاستاذ كما سندعوه. أكدت في شهادتها، أنه اتهم سابقا بالاغتصاب والاعتداء الجنسي حين كان يعد الدكتوراه في جامعة ليون وتم اغلاق الملف دون استدعائها كشاهدة، وتابعت أنها لا تستغرب شهادات طالباته، وأن سوابقه تعود الى سنة 2009. بحثا عن مزيد من التفاصيل، التقينا ايمان (اسم مستعار)، طالبة بدار المعلمين العليا نفضل عدم ذكر اسمها كاملا. تقول ايمان لبيزنس نيوز "كان يتظاهر بأن أربطة حذائه انفكت، لينحني في وضعية تسمح له بالنظر الى فخذيّ هذه عن قرب أو لمس ساقيّ تلك، كان يمرر يده على وجوهنا وأكتافنا وشعورنا حين يمرّ بين الطاولات شارحا الدرس، كلامه يختنق ايحاءات جنسية، أصر في أكثر من مرة على وصف دقيق جدا لممارسات جنسية لا علاقة لها باطار الدرس.." في البداية، وصفت ايمان التصرفات اليومية للاستاذ التي شددت أنه يدرس أغلب الاقسام موادا رئيسية مدة حصصها تتجاوز الثلاث ساعات. بعد دقائق استجمعت فيها شتاتها لتأتمن بيزنس نيوز على نقل تفاصيل شخصية، روت تجربتها الخاصة.
"أصر على أن أرسل له طلبا على فايسبوك، وصار يتابعني حتى أنه علم تاريخ ميلادي. يوم عيد ميلادي، اعترضني في القسم قائلا "ايجا نبوسك"، ثم قبلني بطريقة غير ملائمة، لم تكن قبلة عادية، أصر على ان يقترب على قدر الامكان مني حتى يحتك بجسدي، واختار مكانا قريبا من شفاهي.. لم يكن الأمر صدفة أو تدافعا، أصر على مكان القبلة وظللت لأيام أتسائل، لما قد يقبل استاذ طالبته بذلك الشكل الحميمي دون أن يكون بينهما علاقة أو تواصل سابق ؟ كنت شاهدة على حادثة غريبة.. هذا الأستاذ أرغم زميلة في قسم العربية على نزع حذائها في القسم لنشاهد ساقيها، كان مهووسا بالسيقان، وحين فعلت ذلك صاح أمام بقية القسم "عندك + 4 في الامتحان الجاي".. أي عاقل قد يفعل ذلك" تتسائل ايمان، في تأثر جليّ ونبرة قرف، وهي تسترجع ماشهدته، وفق روايتها.
ايمان أصرت في شهادتها على أن طلبة المعهد لا يحرجهم الحديث عن الجنس والجنسانية، لكن هذا الأستاذ على حد تعبيرها كان يحول أي موضوع الى موضوع جنسي. وتابعت، أن زملائها يوافقونها على مغالاته في الحديث المستمر عن الشهوانية والجنس، بمناسبة أو دونها. وواصلت، أنه دائم الحديث عن نفسه وانجازاته، وهي طريقة يستعملها لاستدراج الطالبات المفتونات به. "ايجا نعطيك كتاب، نعطيك فيلم باهي تتفرج فيه. هكذا كان يدعوهن لمكتبه بعد ان يغادر الادريون الجامعة. مكتبه، حيث يسرق قبلة أو حضنا في اطار محادثة ودية قد لا تدرك البعض منهن أنها استغلال لسلطته كأستاذ للمواد الرئيسة التي يعتمد عليها النجاح. كان دائما يذكرنا أنه قادر بكلمة منه على طرد من شاء، وكان ذلك يخلق مزاجا من الخوف تذعن له البعض من الزميلات.."
طالبة أخرى، سندعوها مريم، شاركت بيزنس نيوز بحادثة لها مع الأستاذ. تقول مريم "في فترة راحة بين الساعات، دخلت للقاعة لأمد غرضا من حقيبتي، لأجد الأستاذ يعبث بمحتوياتها باحثا عن وشاحي. حين وجده، قام بشمه، وحين تفطن لوجودي في القاعة استمر بشمّه موجها نظراته لي بطريقة أخافتني ثم قال " تعرف..ريتحك بنينة من غير دخان". أزعجني قوله ذالك وطريقته غير الملائمة، مامن داع ليدور حوار كهذا بين استاذ وطالبته داخل قاعة الدرس!".
بحثا عن الموضوعية التي قد تًضيعها الشاهادات العاطفية، التقت بيزنس نيوز ايناس (اسم مستعار)، طالبة أخرى في المعهد لم تتعرض للتحرش لكننا طلبنا منها وصفا لحصة عادية يؤمنها الأستاذ. تقول أنه يعتمد على الحركات وعلى يديه في التواصل، ويتحرك في ارجاء القاعة مقتربا من الطلبة قدر الامكان. تقول أنه يمزح كثيرا، ولا يعتمد على درس معد مسبقا بل يكون الدرس عبر الارتجال والحديث. تلك هي طريقته. تتفق ثلاثتهن على أنه لم يتم تقديم شكاية الى القضاء لأن معظم الضحايا خائفات، من استعصاء وجود قرينة على التحرش والاعتداء الجنسي، من نظرة المجتمع "الذكوري"، ومن تهديد مستقبلهن الأكاديمي. كلهن كذلك، اشتركن في اعلام بيزنس نيوز بالتغير المفاجئ في موقف مدير جامعة تونس الحبيب سيدهم من القضية، الذي كان في صفهن ثم تغير موقفه، ووصف الشكوى التي قدمنها للجامعة بالفارغة وغير المستندة على حجج منتقدا مقاطعتهن للدروس. وطبعا، للجميع حقّ الرد.
ألف باء العدالة : المتهم بريء حتى تثبت ادانته
قرينة البراءة أساس المحاكمة العادلة، رغم أنه مامن محاكمة حقيقية تُجرى الان وفق رأي الاستاذ سوى "المحاكمات الفايسبوكية" التي يعتبرها حملة مفتعلة ضده. بيزنس نيوز اتصلت بالأستاذ محل الجدل، والذي لم يرفض الحديث عن المسألة وكان حريصا على مدنا بكل الاجابات لكل الاسئلة، أستاذ جامعي، مترجم، اعلامي، زوج وأب في أواخر الثلاثينات، يتحدث بثقة وألفاظ راقية ومُنتقاة. بداية، أكد رفضه المطلق للعنف من اي نوع بما فيه الجنسيّ. ثم أوضح الأستاذ لبيزنس نيوز بعد حديث مطول عن مسيرته المهنية والأكاديمة -التي قد تُخلف حقدا أو غيرة ما فيما أوحى لنا بطريقة غير مباشرة- أن مايتعرض له هو حملة ممنهجة يدفعها ضريبة لنجاحاته المتعددة، وضريبة للجو العام في تونس من الديمقراطية المضادة التي جعلت من الجمييع ثوريين ونسويين، على حد تعبيره.
خلال الحديث معه، شدد في أكثر من فرصة أنه شخص منفتح خال من العقد والحواجز ويتعامل على ذلك الاساس مع جميع طلبته ذكورا واناثا بطريقة مرحة حتى يسهل المعلومة والدرس.
يقول " التونسي بطبعه شخصية يقوم تواصلها على اللمس، التواصل الحسي والحركي طريقة مألوفة لدى جميع التونسيين. أرى أنه من النفاق، أن ُندينها ونجرمها ونحولها لسياق جنسي وايحاءات وقتما شئنا. تلك هي طريقتي مع الجميع دون استثناء، الطلبة يريدون أستاذا يشبههم و يتحدث لغتهم. تربيت على الكتف بعد اجابة موفقة، هذا تواصل، خال من أي دلالة جنسية.. تونس ليست داعش "
هكذا فسّر الاستاذ لبيزنس نيوز، طريقته في التعامل مع الطلبة التي تختلف عن الاستاذ الكلاسيكي الذي قلّ ما غادر مكتبه. وتابع، "التحرشُ فيه استغلال للسلطة وهرسلة، اتحدى أيا كان أن يثبت أنني ارتكبت ذلك. أنا متمسك في حقي بالمقاضاة ضد كل من يحاول تشويهي وأحضى بمساندة واسعة. أولُ المساندين هم زوجتي وزملائي. الان، القضاء هو الفيصل ولم يتقدم اي كان بشكاية ضدي الى حد الساعة.. ادّعوا انهم قدموا تقارير للإدارة منذ سنة 2017 وحين ذهبت للاطلاع عليها علمت انه لم يتم تقديم اي تقرير أو وثيقة أو ملف.. لا شيء.."
عندما تحدّث الأستاذ بفخر عن تجارب اعلامية ، دفعنا الفضول الى صورة أكبر عن الرجل. اطلعت بيزنس نيوز على تسجيلات لحصص تعود لسنة 2017 وهكذا بدا ; سلس الكلام لا يتملّكه التردد، ولم يعتريه رهابُ الكاميرا أو تخنهُ الألفاظ المحددة التي استعملها كأدوات تحليل. مالفت انتباهنا هو الاعتماد الواضح في التنشيط على لغة الجسد، على يديه اللتان قد ترسمان سؤالا دون حاجة للحديث، والتزاوج في حديثه بين العربية السليمة والفرنسية التي يستغلها للشرح او التأكيد. طيلة نصف ساعة ارتجل الرجل كلامه متحدثا عن عالم الرواية باديا في مكانه الطبيعيّ، محور الاهتمام.
موقف الادارة خير الأمور.. فتح تحقيق
" يوم 7 نوفمبر2019، قدمت مجموعة من الطالبات الى الادارة لتقديم شكوى بعنوان التحرش الجنسي ضد أستاذ في دار المعلمين العليا. مباشرة، قمت باعلام رئيس الجامعة." هكذا استهل عثمان الحسناوي، مدير دار المعلمين العليا شهادته لبيزنس نيوز، التي اختار أن يرتبها وفق التسلسل الزمني. وواصل، أن رئيس جامعة تونس الحبيب سيدهم استقبل الطالبات يوم 11 نوفمبر واستمع لهن، ثم طلبا ملفا في الغرض ليتسنى له متابعة القضية. يوم 12 نوفمبر قدمن تقريرهن وفي ذات اليوم هاتف رئيس الجامعة الاستاذ محل النظر وأعلمه بوجود شكوى تحرش ضده من قبل عدد من الشابات. اثر ذلك، قدم الأستاذ اجابته على الاتهامات ضده مُرفقا اياها بشاهادات تسانده.
" رئيس الجامعة، جمّع التقريرين والشهادات المضمنة بها وأرسلها الى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. لاحقا، أعلمنا الحبيب سيدهم رئيس جامعة تونس أن تقرير الطالبات منقوص من شهادات دقيقة وطلب منهن اعادة كتابة تقرير ثان أكثر وضوحا وهو بالفعل ما حدث وقدّمن تقريهن النهائي يوم 11 ديسمبر."
بعد مقدمة أولى لوضعنا في اطار الأحداث، علق مدير دار المعلمين "المسألة تتجاوز ادارتي دار المعلمين وجامعة تونس. لا يمكنهما مُسائلة الاستاذ او اتخاذ اجراءات عقابية في حقه. هذا حصريا، من صلاحيات وزارة التعليم العالي. أظن أن الاجراءات ستأخذ وقتا طويلا للتثبت حتى تكون موضوعية ولاتظلم أيّا من الطرفين. نحن كادارة، ليس لنا سلطة على الاستاذ ولا نملك الية تفقدية. لذلك لا يمكننا معرفة ماذا يحصل داخل الدرس. بيد أنني أملك اليات تدخل بيداغوجية لتطويق المسألة على المدى القصير، جلست مع الاستاذ ونصحته بالتدريس بطريقة عادية في الفترة القادمة دون أحاديث جانبية، حتى انني نصحته بأن يتجنب النظر مباشرة لأعين الطالبات حتى لا يُساء فهم النوايا."
من شهادة مدير دار المعلمين ومن شهادة الطالبات، علمنا أن جامعة تونس عينت أخصاء نفسيين للقاء الشابات والحديث معهن وضم شهادات المختصين النفسيين الى الملف الذي أُرسل سالفا الى وزارة التعليم.
هوامش
لمزيد التأطير القانوني الموضوعي لهذا الجدل، كان علينا الاستعانة باللّسان القانوني لتفسر العواقب العدلية للتحرش.
اثباتُ التحرش أو الاعتداء الجنسي من الأسئلة النسوية الحارقة العالقة في الفضاء العام أو الخاص التي تحدث فيه الاعتداءات التي عادة ماتكون بين المعتدي والضحية دون شاهد، دون أثر جسدي، وبالتالي تكون الشهادة عارية من الحجّة. من أجل ذلك، كانت مفهوم التحرش محل تحيين مستمر ليشمل أفعالا أوسع، تضم اللمس غير المرغوب فيه، التواصل الإلكتروني الجنسي غير المرغوب فيه، والدعابات الجنسية غير المرغوب في سماعها، الأسئلة الشخصية عن الحياة الجنسية، القيام بحركات جنسية باليدين، النظر إلى الشخص الآخر بطريقة قد تجعله غير مرتاح، تحويل حديث عادي إلى حديث جنسي، مناداة الشخص الآخر بألقاب قد تكون مزعجة بالنسبة إليه وسؤال الشخص الآخر عن رغباته الجنسية." في القانون التونسي، يتضمن قانون مكافحة العنف ضد المرأة في فصله 226 تعريفا للتحرش هو " كل اعتداء على الغير بالأفعال أو الإشارات أو الأقوال تتضمن إيحاءات جنسية تنال من كرامته أو تخدش حياءه وذلك بغاية حمله على الاستجابة لرغبات المعتدي أو رغبات غيره الجنسية أو بممارسة ضغط خطير عليه من شأنها إضعاف قدرته على التصدي لتلك الضغوط. ويكون العقاب مضاعفا اذا إذا كانت للفاعل سلطة على الضحية أو استغل نفوذ وظيفه." أما عقاب هذه الجريمة، فهو السجن مدة عامين وخطية قدرها خمسة آلاف دينار. الى جانب صعوبة الثبات، تحيط هذه الجريمة في الفكر الجمعي التونسي مفاهيم مغلوطة عن التحرش تصل الى غاية لوم الضحية وامطارها بأسئلة ساذجة تستبطن تواطئها في الفعل، "ماذا كانت ترتدي وأين كانت الحادثة، ولم لم تقاوم..". معظم الضحايا، لا تُبلغن مباشرة عن الاعتداء، وقد لا تبلغن بالمرة خوفا من الوصم الاجتماعي بدرجة أولى، وفي أغلب الحالات يكون المتحرش من الدوائر الشخصية أو المهنية أو الاكاديمة للضحية.
قد تكون هوليود المثال الحيّ على أن أقصر طريق لوضع رجل في السجن أو اغتيال مسيرته المهنية، اتهامه بالتحرش : جريمة يصعب إثباتها.. لكنها تُهمة، يسهل توجيهها. وبينما يُصر الأستاذ على حقه في التقاضي ضد ما يدعوه بالدعاوي الكيدية الهادفة لتشوييه، في الجناح الاخر من "الايكول"، مئات التواقيع التي جُمعت، عشرات المساندات من جمعيات ومنظمات حقوقية، تقف طالبات دار المعلمين العليا الان على خطّ النار. لا مجال للتراجع، بعد تذليل- كسر الصّمت الذي غشّى هذه القضية طويلا وأخفاها عن مسامع الميديا والراي العام.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires