قراءة في كتاب صادق الحمامي- ديمقراطية مشهديّة
في مُؤلّف جديد صادر عن دار نشر محمد علي الحامّي، يُمكنّنا الجامعيّ الصادق الحمامي من اضاءات حول الأسئلة التي تُؤرقنا بشأن ثالوث الميديا والاتصّال والسياسة، في 311 صفحة، تناول فيها بالنقد، الشرح والاستنتاج موضوعة التحولات الكبرى في الاعلام والسياسة خلال العشرية الأخيرة، مؤرخا بذلك علاقة التأثير والتأثر بين المجالين المُتقاطعين على ضوء ديمقراطيّة وليدة نستكشفُ أدواتها- مُثقلين بإرث من تعامل مضطرب للصحافة التقليدية الجافة مع السياسة تحت نير الأنظمة الأحادية السابقة.
عاصر الكاتب هذه التحوّلات لحظيّا وجمّع أوراقهُ البحثية على فترة زمنية طويلة حتّى يتمكن من نشر تشخيص ذا مصداقيّة يليه تقييم وتوصيات في فصول ثمانية يجمعها خيط ناظم هو مُساءلة التجربة بعين الخبير، لا المُتلقيّ، رغم أنّه حاول جاهدا أن ينأى عن انطباعيّة رجل الاعلام ونخبويّة الأكادميّ.
إضافة نوعية للمدونة التونسية راهنت على استهداف الجمهور الأعرض ولكنّ تخصصّها ولغتها التقنية جعلاها مُؤلفا موجها، مرّ على العديد من المسائل شرحا وايضاحا، دون إجابات شافية أحيانا ولكن بأسلوب تفكريّ يتطوّر خلال الفقرات فينطلق من عرض للمعلومة أو تعريف لمفهوم ثم يطرحُ سؤالا ففرضيات فاستنتاجات عامة، وهذه المنهجية تدفعُ القارئ بدوره للتفكير في اجاباته الخاصّة، ولا ترميه بمسلمات جاهزة تحبسه في براديغم وحيد وتمنعهُ من استكشاف بقيّة الزوايا.
قد لا يطرحُ الحمامي كلّ الأسئلة لكنه يطرحُ الأسئلة الجيدة. منهجيا، هذا الكتاب هو دراسة/بحث دعاها الكاتب بـ'تحقيق' في الديمقراطية ولكننا لا نوافقه كليّا على تصنيف المؤلف ضمن هذا السجل لأننا عبر "ديمقراطية مشهدية، الميديا والاتصال والسياسة" لا نحققّ في الديمقراطية من منظور خاص بل نجمعُ معارفنا الجديدة حولها عنها بينما يستوجب التحقيق في الديمقراطية نظرة من داخل الظاهرة عوض عن استقراء مُختصّ، مهمّ ولكنّه منقوص. الكتاب لا يجيبُ على سؤال 'ماذا' ولكنّه يجيبُ على سؤال 'كيف' من كرسيّ الشاهد على الصيرورة التي أوصلتنا الى لحظة "الآن" بكلّ تجلياتها (التي مرّ عليها الكاتب بصفة برقية وأمثلة قليلة، ونتفهم ذلك لأنّ غرابة ما جاء بعد 25 جويلية يستحق كتابا بمفرده) أي كيف وصلنا الى هذه العلاقة بين الاعلام والسياسة وليس لماذا نملكُ هذه العلاقة الفريدة، وكلاهما مهمّان بذات القدر.
جامعا بين التفسير والتأويل أخذنا الحمامي في رحلة عن تاريخ الصحافة، دون أن يسقط في فخّ السرد وتعديد الأزمات، مشيرا في أول الفصول الى الإشكالية الكبرى لعدم توفر معرفة شافية عن الموضوع، وافتقارنا الى بحث علمي ناجز ومتنوّع ومدعوم. ما نلومه على الدكتور الصادق الحمامي، هو عدم تعمقّه في الحديث عن أزمة الجامعة التونسية التي لا تنتج معرفة وتستهلكُ بصفة بليدة معرفة غيرها وهذا أصل الداء. ولا نعلم، لم لم يأت الحمامي على تجربة معهد الصحافة وعلوم الأخبار؟ كيف يمكننا أن نتحدث طويلا عن الميديا والصحافة دون أن نشير اشادة أو نقدا للكلية الوحيدة التي تدرس الصحافة في الجمهورية التونسية؟ ان كنا نسلم بوجود أزمة معرفة في أولى أسطر الكتاب فيجبُ أن ننطلق -قبل كلّ شيء- من البداية. البداية بما هي تكوين ذو جودة رديئة، وغير محيّن، وغير كاف، وغير ناجع. نتفهّم العاطفة التي تجمع كلّ من مروا بمعهد الصحافة بأسطورته، ونتفهم أنّ الانتماء يشوّه الموضوعية، لكنّه من غير العادل أن لا يتضمن هذا المؤلف الممتاز ذكرا لأزمة معهد الصحافة وفشله في صناعة الصحفيين، وكيف تحوّل الى فقاعة معزولة عن الواقع والممارسة، وكيف يضطّر خريجوه الى تعلّم المهارات من الصفر ما ان غادروه، بشهادة لم يعد أربابُ المؤسسات الصحفية يولونها أيّ اعتبار.
الكتاب، هو من المؤلفات القليلة التي جاءت على ذكر أزمة الصحافة الورقية بطريقة معمقّة. فقد اتجهت المؤلفات ذات الصلة بالاعلام في السنوات الأخيرة للبحث في مسائل الاعلام السمعيّ البصري، ومن المفيد جدّا، منحُ صاحبة الجلالة على الأقل 3 صفحات من حيز الكتاب لمعالجة الأزمة النسقية والهيكلية التي أصابت الصحافة الورقية في مقتل، وهي أزمة نعلم أنّ الكاتب لم يبخل على الإشارة لها في مقالاته السابقة لما يوليها من أهمية. عرّفنا الحمامي كذلك الى مقاربات جديدة، مستعينا بمؤلفات مهمة خاصة من المدارس الأوروبية والانقليزية (لمؤلفين أغلبهم رجال، ولكن تلك مسألة أخرى...)، كما منحنا الحمامي كلمات معربة للمصطلحات الكبرى للصحافة الجديدة وهي خطوة جديرة بالاشادة حتّى نتمكن من تبني المفهوم في لغتنا واستخدامنا اليومي لنستطيع التفكير به بشكل أفضل فنحنُ "نفكر عبر اللغة" ولا يمكننا أن ننكر أنّ التفكير بلغة أخرى ثم الاستنتاج باللغة العربية لا ينتج معرفة ذات جودة، وعادة ما تكون النتيجة مثيرة للالتباس. كما ضمّن الكاتب في اخر المُؤلف جدولا للمفاهيم التي ذكرها بلغة أخرى، بالإضافة الى احاطة مؤلفه بكبرى النظريات في الاتصال (يوجين هابرماس) مما يجعل هذا الكتاب مرجعا تأسيسيا مفيدا لطلبة الصحافة والصحفيين الشبان.
يُفرّق الحمامي بين مفاهيم الاعلام، الصحافة، الميديا، الميديا الجديدة رافعا الالتباس عن هذه المصطلحات المتشابكة، كما يمنحنا تحليلا متكاملا لظاهرة "الكرونيكور" دون أن يقع في فخّ اطلاق أحكام انطباعيّة على هذه 'البيرسونا' المثيرة للجدل، ومفرقّا بين مفهوم الكرونيكور وسُلطته الجديدة وبين مفهوم الخبير المُغيّب. كما يولي الكاتب حيزا من الفصل الثالث لنقد بنيويّ لتلفزيون الترفيه مع لمحة تاريخيّة عن كيفية وصولنا الى الرداءة الراهنة وخضوع التلفزيون لمنطق السوق وسطوة المستشهرين مما خلق مشهدا اعلاميّا رديئا وغير متوازن، وما يجعلُ شهادة الحمامي مهمة أنه لا ينطلق من استنتاج ذاتي ليُطلق حكما (نقول، نعيش في زمن تلفزيون القمامة، ثم ننطلق في جلد غير موضوعي لإعلام العار) بل يفسر الكاتب أسباب الظاهرة موزعا المسؤوليات في خلق الرداءة التي لا ينسبها للإعلاميين فقط كما هو معهود في المقالات والورقات البحثية التي تناولت الموضوع.
في حديثه عن التجارب الجديدة للصحافة التونسية، غابت عن ذهن الكاتب تجارب عديدة جديرة بالذكر، وتجارب أخرى وجب التحذير منها. ذكر الحمامي الصحافة الاستقصائية بما هي مبتكر صحفي جديد لكنّه حصر التجربة في ثلاثية انكيفادا، نواة، والكتيبة مع أنّ العديد من وسائل الاعلام الأخرى لها مساهمات هامة في تجربة الاستقصاء، ولم يذكر بعض التجارب التي تتدعّي انها تنتمي لمدونة الاستقصاء: الحقائق الأربع، برنامج تلفزي على قناة خاصة لا علاقة لهُ بالاستقصاء لكنه ينطبع كأولى الأمثلة عن هذه الصحافة في ذهن التونسي. كيف يكون إعادة سرد الأحداث وإعادة تمثيلها واستهداف عاطفة المتلقي عملا صحفيا استقصائيا جادّا؟ غاب عن الكاتب ذكر الأطروحة وأطروحتها المضادة، فحتى نعلم ماهو الاستقصاء، علينا أن نعلم أيضا ما الذي لا يمثّل استقصاءا، وما الذي لا يجب أن يسقط فيه الصحفي الجادّ الذي يريد أن يمارس هذا الجنس الصحفي الهام.
غاب عن ذهن المؤلف كذلك، أن يذكر أداة مهمة في تقاطع صحافة الجودة، السياسة، والديمقراطية : صحافة التثبت من الأخبار الزائفة (fact checking) والتي تعتبر من أهم الأدوات الحديثة في التثبت من ادعاءات السياسيين واقوالهم ولبيزنس نيوز تجربة رائدة في هذا المجال عبر منصة BN CHECK خلال الحملات الانتخابية 2019 والمناظرات التلفزية بين المترشحين، كما ساهمت في تكذيب العديد من الاشاعات والمعلومات المغلوطة والمضللة والزائفة بما تشكله من خطر على الرأي العام.
أشار الحمامي كذلك الى آليات التعديل والتعديل الذاتي، وإلى أخلاقيات المهنة و المواثيق الصحفيّة، ولكنّه قد ظلم العديد من وسائل الاعلام الجادة والتي تسعى لتأسيس صحافة جودة، فليست موزاييك، شمس، التلفزة والإذاعة الوطنيان وحدها التجارب الممتازة في وضع ميثاق صحفيّ ; ببحث وحيد على الانترنت يمكننا أن نجد عشرات المؤسسات التي تنشر في أسفل مواقعها ميثاقها الصحفي، ولمحة عن خطّها التحريري ومبادئها العامة.
يلوم المؤلف على بعض وسائل الاعلام أنها أصبحت في وقت ما جزء من العملية الانتخابية أو أنها روجت لمرشحين ما، ويفترض الكاتب أنّها بذلك حادت عن دورها. افتراض فيه الكثير من التحامل على وسائل الاعلام التونسية، لأنّ تجاوز التصور الرومانسي الطوباوي لمهنة الصحافة، يفترض أيضا تجاوز دورها التقليدي، وتجاوز التزام وسائل الاعلام بالحياد المُتخاذل والصفر موقف العقيم، خاصة في أوقات تفترضُ فيها المصلحة الوطنية تبنيّ وسائل الاعلام لمواقف واضحة- ضدّ الخطر الذي يمكن أن تمثله الوثوقية والشعبوية والرجعية. على كلّ حال، هنا في بيزنس نيوز، لا نخفي، أننا في صفّ العلمانية والعدالة وفق ما ضمنّاه بوضوح في ميثاقنا التحريري الذي غاب عن الدكتور الحمامي، وحين اقتضى الأمر أن "نؤثر في السياسية "، أثرّنا، وقد يكون ذلك جزءا مفيدا في الإجابة عن السؤال الرئيسي الذي يطرحه الكتاب : ماذا فعلت السياسة بالميديا وماذا فعلت الميديا بالسياسة؟
بسّط الحمامي في الفصل السادس من كتابه، أحد المفاهيم الفلسفية الهامة، المجال العمومي، وكم سررنا حين جمع الحمامي كانط وهابرماس في صفحة واحدة، مما يحيل مرة أخرى لأهمية الكتاب كنص مرجعيّ ينطلق من المفهوم ليحلل الظاهرة، نظرا لشحّ المراجع التي تناولت المجال العمومي رغم أهمية المفهوم وكونه حجر الزاوية في العديد من الأطروحات الحديثة.
ما الذي نؤاخذه على الحماميّ اذا، رغم انّه نجح في استدعاء مسألة الانتقال الديمقراطي وعلاقتها بالاعلام ؟ أنه لم يتطرق الى قضية الحريّات ! الحريات ليست بمعزل عن الفلك الذي يدور فيه النصّ وكان يمكنها أن تكون كلمة دلالية ضمن الكلمات المفاتيح تعكسُ اهتمام الصادق الحمامي الحداثيّ التقدمي الذي نعرفه، بكيفية تناول الحريات في الاعلام خلال العشرية الأخيرة، يهمنا أن نعرف نظرتهُ حول تناول الاعلام لمسائل حرية الضمير والمساواة والحريات الفردية وكيف تغيّر هذا التناول عبر مختلف المراحل السياسية.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires