مأزق الجبهة المتجددّ : من هو مرشحها للرئاسيات؟
باريس، 12 جانفي 2019، 7 من مرشحي اليسار الفرنسي يجتمعون -ببذلاتهم الأنيقة وبسلاحِ الحُجّـة أسفل حلوقهم- على منصة واحدة في مناظرة مُتلفزة تابعها الملايين حول العالم، لإختيار مرشح اليسار لرئاسيات فرنسا. لليسار الفرنسيّ صراعاته، ومواقفه المختلفة حدّ التناقض رغم الكيان الإيديولجيّ الذي يجمعه، إلا أنّ المثال الفرنسيّ أبى أن يظهر للعالم الإختلاف في ثوبه المتشنجّ البدائي، بـل الإختلاف الذي يُثري الديمقراطية ويجمع يساريين من أجيال مختلفة، ليدافع كلّ عن نفسه وبرنامجه الإنتخابي أمام الملأ.
تونس، 4 مارس 2019، حزب الوطنييّن الديمقراطيين الموحد ينشر بيان لجنته المركزيّة ليعلن أنّ منجي الرحوي، النائب في مجلس الشعب عن الجبهة الشعبية، هو مرشّح الوطد للإنتخابات الرئاسية 2019. جملة يتيمة واحدة، كانت كفيلة بإشعال الجدل التاريخي عن زعامة الجبهة، والصراع القديم-الجديد بين الوطد وحزب العمال، الذي علمنــا أنه ينوي تزكية الزعيم الأوحد حمة الهمامي، الأمين العام للحزب، الناطق الرسمي للجبهة، مرشح رئاسيات 2014، اليساري الأخير الذي يبدو أن حزب العمال لايملك عنه بديـلاً.
لنعترف في البدء، أن عزلة اليسار عن واقع متغيّر سببها أنه يواجه العصر بفلسفة ثابتة. وللأمانة فإن الصراعات التي تشتت اليسار التونسي من الداخل فتجعله هشّا من الخارج يكاد يخسر كل معركة إنتخابية يخوضها، ليست خاصية المثال التونسي وحده، إذ أنه ليس بمعزل عن اليسار العالمي الذي يشهد نفس التشتت والإنقسام، مرورا باليونان، إلى إسبانيا، الى فرنسا وصولا الى الأمثلة العربية كالأردن ولبنان. إلا أن فرادة اليسار التونسي تتمثل في هذا الصراع الضارب في التاريخ بين الوطد وحزب العمال، إختلاف في المرجعيات الفكرية جعلهما ألــّد/الأصدقاء، يدوران في نفس الحلقة الإديولوجية إلا أن حزب العمال ينتمي لأقصى اليسار بينما يصنف الوطد نفسه ضمن العائلة اليسارية الوسطية.
الجبهة الشعبية ورغم أنها أمل اليساريين في "الحزب اليساري الكبير" ، حلم شكري بلعيد للتوحيد، ما انفكّت تخيب آمال أبناء اليسار، وخاصة الجيل الفتيّ الذي يبدو أن لا فرصة له في الحلم بطموح سياسيّ، أمام ذوبان الأحزاب في شخصيات مؤسسها فيكاد تماهي الزعيم والحزب ينسينا أن وراء صورة حضرته بدائل أخرى ممكنة، حتّى نصبح غير قادرين عن الفصل بين الحزب وزعيمه.
حرب كلامية، عادت إلى واجهة أحداث اليسار القليلة والنادرة، بين أنصار حزب العمال وأنصار الوطد، كلّ يناصر زعيمه وقائده، ويذكر لنا خصاله وإنجازاته، بينما اتخذت النخبة-الحكيمة منزلة بين المنزلتين، ليعلن لنا أحد أعضاء المكتب السياسي لحزب العمال أن حزبه سيتجه للآلية القانونية في النظام الداخلي للجبهة لفضّ النزاع. أخبرنا مصدرنا، أن المجلس المركزي المنتخب للجبهة والذي يبلغ 52 عضو يمثلون أحزاب الجبهة، سيناقش الأمر في جلسة مغلقة إن قرر حزب العمال ترشيح حمة الهمامي أو عمار عمروسيّة وظل الوطد متمسكا بترشيح الرحوي، مؤكدا أن الرؤية ستتضّح مع نهاية مارس. اتصلنا كذلك بعضو من حزب الوطنيين الديمقراطيين، ليخبرنا بدوره أن فرضية التنازع بين الرحوي والهمامي دارجة للغاية ومن المتوقع حدوثها، وبينما ينص القانون الداخلي على اللجوء للمجلس المركزي، فالحقيقة أن إتخاذ القرار سيتم عبر نقاشات جانبية بين أحزاب الجبهة لكسب تزكيتهم لمرشح واحد منحصرا طبعا بين شيخ اليسار حمة الهمامي الذي يبلغ من العمر 67 سنة وبين الوجه الجديد نسبيا الذي عرفه التونسييون في التأسيسي سنة 2011 والذي يبلغ من العمر 54 سنة دون أي مجال لمزاحمات أخرى لنقل من وجه نسائي أو وجه شاب ..
بالتالي، وفي كلتا الحالتين سيتم إتخاذ القرار في مكتب مغلق، بعيدا عن الأنظار. مثل هذه الممارسة التقليدية العقيمة ستجر الجبهة من ساحة المعارضة المناهضة للديكتاتورية الى مناقضة نفسها ومبادئ الشفافية التي تدافع عنها بشراسة. لن يكون لمرشح اختير في دائرة مضيقة أي شرعية انتخابية لأن فعل ترشحه سيكون امتدادا لسياسة القرارات المسقطة التي ينفر منها التونسيون ويتشدق معارضو الجبهة بمحاربتها. ستقع الجبهة في مأزق الفعل ونقيضه فاسحة المجال لأحزب أخرى أكثر ديمقراطية وربما أقل عمرا وأقل تجربة في التغلب عليها بنفس سلاحها.
المتمعن في تاريخ اليسار التونسي يرى أنه مرتبط ارتباطا وثيقا باليسار الفرنسي فميلاد أغلب قادة ومنظري اليسار التونسي كان في الجامعة الفرنسية وفي رحاب اليسار الطلابي الفرنسي. فاليسار التونسي متعدد الأطروحات والزعامات هو توأم ذلك اليسار الذي بدأ في الأعوام الأخيرة يتحرر اتصاليا ويقيم مراجاعاته النقدية وينخرط في الثورة المعلوماتية ليصبح ميلونشون أكثر سياسيي فرنسا اعتمادا على اتصال القرب ووسائل التواصل الاجتماعي وليضرب لنا مرشحو الحزب الاشتراكي الفرنسي المثال عبر مناظرة تلفزية يتقارعون فيها بالحجة والبرهان. فهل حان الوقت للجبهة الشعبية أن تنسج على المنوال ذاته ؟
لم لا يستغل الجبهويين فرصة الاختلاف الصحي هذه ليكون الاستثناء في الساحة السياسية والحزب الوحيد الذي يجعل عملية اختيار مرشحه علنية عبر الية التصويت الداخلي و تراقبها منظمة من منظمات المجتمع المدني ليجعل من الشفافية تقليدا سياسيا وطنيا لبقية الأحزاب وللمحطات الانتخابية القادمة ؟
لم لا نرى حمة الهمامي والمنجي الرحوي في مناظرة تلفزية وجها لوجه كل يقدم مشروعه ورؤيته السياسية بصفة مباشرة لجمهور الناخبين ليقوموا فيما بعد بالتصويت للشخصية الأمثل والأنسب لتمثيل اليسار التونسي استناسا بالمثال الفرنسي الأقرب لنا تاريخا ومرجعية؟
سيكون ذلك رد اعتبار لليسار التونسي وخطوة اتصالية هامة تتنزل في سياق التجديد وبرهانا على فرادة الاستثناء الديمقراطي التونسي الذي يحتاجا نفسا جديدا منعشا لساحته السياسية المتكررة والفوضوية. ولعل هذا التقليد يمر الى المناظرة بين المترشحين النهائيين للرئاسة كما هو الحال في أغلب الديمقراطيات سيكون اعادة لثقة التونسي في الحياة السياسية بعد أن قاطع 33 بالمائة من التونسيين الانتخابات البلدية 2018.
عبير سعيدي قاسمي
تعليقك
Commentaires