هل تتمرد النقابات الأمنية على الدولة ؟
أوت 2020، تقدمت محامية بشكوى قضائية ضد مديرمركز أمني، بعد احتجازها وتعنيفها. يوم المُحاكمة، اقتحم عشرات الأمنيين المسلحين مقر المحكمة الابتدائية بن عروس للضغط على قاضي التحقيق ودفعه إلى الإفراج عن زميلهم. هذا ما يعنيهُ الاستقواء على الدولة، ومثال بسيط على تغوّل النقابات الأمنية القادرة على اقتحام مؤسسة عدلية واشهار الأسلحة في وجوه المُحامين الذين عُنفت زميلتهم وسُحلت في "مركز أمن". ليست هذه الحادثة المُخيفة الأولى التي رفعت علامات الاستفهام بشأن العمل النقابي للقوات الحاملة للسلاح، وأثارت الخشية من وقوع الأمن الوطني، تحت طائلة التوظيف الحزبي والتجاذب السياسي حيث وصل الأمر بالنقابات الأمنية الى رفع شعار "ديقاج" بوجه الرؤساء الثلاث في ثكنة العوينة سنة 2013..
السلوك العدائي ذاته لم يتغير في أول أسابيع 2021 : تعنيف، هرسلة، مطاردات، اقتحام مقرات السكن ليلا دون أذون، نشر معطيات شخصية، تشهير، تحريض، تكفير، تهديد... والقائمة تطول مما اقترفته النقابات في أيام قليلة كردّة فعل "عادية" وفق العميد جمال الجربوعي الناطق الرسمي باسم الاتحاد الوطني لنقابات قوات الأمن التونسي، سببها هو الاستفزاز لقوات الأمن الذين كانوا بحاجة لـ"مُتنفس" بعد ضبط النفس.
لا اعتذار، ولا توضيحات في خطاب ممثل احدى النقابات في حواره لاذاعة موزاييك الذي اعتبر شعارات النقابيين في المسيرات التي استهدفوا فيها الاعلام والناشطين واليساريين وكفّروا من يشاؤون وهددوهم علنا (مسيرة الأمنيين في صفاقس) انفلاتا حذّر منه سابقا وأمر عادي نظرا لما مرّ به الأمنيين من "ضغط". وفق الجربوعي اذا، فان الأمني الذين من واجبه حفظ الأمن العام له الحقّ في استهداف المواطنين عبر خطابات التحريض والتهديد ضدهم لأنه لم يعد قادرا على احتواء غضبه!
نظرة سريعة واحدة على صفحات النقابات الأمنية على فايسبوك، كفيلة بايضاح خطورة الخطاب المتطرف والعنيف للأمنيين في احتجاجاتهم واصرارهم على وصم المحتجين واهانتهم في بياناتهم وتجريمهم، ونشر صورهم والتشهير بهم. "ممارسات فردية" يقول العميد جمال الجربوعي، مواصلا أن الأمنيين لم يعنفوا أي مواطن في الاحتجاجات الأخيرة رغم عشرات مقاطع الفيديو التي وثقت اعتداءات جسدية وتوجيه عبوات الغاز للمنازل واهانة المواطنين بألفاظ مشينة والاعتقالات العشوائية بعد كلّ مظاهرة. في تعليق على وفاة الشاب هيكل الراشدي بعبوة غاز استهدفت رأسه علّق العميد ببساطة " هل أنا المسؤول اذا رميت عبوة غاز في السماء وأصابت رأس مواطن فمات؟".
اذا كانت وزارة الدّاخليّة تضمّ اكثر من 83 ألف عون وإطار أمني (احصائيات غير محينة) فان المنخرطين بمختلف النقابات الأمنيّة تجاوز25 ألف منخرط، وقد يكون العدد أكبر بكثير.الراحل الباجي قائد السبسي هو من سمح للأمنيين بحق العمل النقابي في عهدة حكومته وفق صدر المرسوم 42 المؤرخ في 25 ماي 2011، و الذي ينصّ في فصله الحادي عشر على أنّ " لأعوان الأمن الداخلي الحق في ممارسة العمل النقابي، ولهم لهذا الغرض تكوين نقابات مهنية مستقلة عن سائر النقابات المهنية واتحاداتها". هددت النقابات الأمنية برفع الحماية الأمنية عن نواب البرلمان ورؤساء الأحزاب الممثلة في مجلس نواب الشعب، والان تهدد بتعنيف كل من ينزل يوم 6 فيفري للاحتجاج في شارع الحبيب بورقيبة واصفة المحتجين بـ"شرذمة من الخارجين عن القانون"! المكتب التنفيذي لنقابة أعوان وإطارات إقليم الأمن الوطني بتونس،أعلن عن تعليق تأمين كافة الأنشطة الثقافية والرياضية لآخر هذا الأسبوع، أي أن الأمني أصبح اليوم يهدد وطنه بأنه لن يحميه- وهي مهمته الوحيدة- في حال عدم تنفيذ مطالبه. البيان المثير للجدل ذاته دعا لتطبيق القانون على المحتجين يوم السبت 6 فيفري القادم دون أي تهاون معلنا منع الاحتجاج بشارع الحبيب بورقيبة في اليوم ذاته..
هل تفرض النقابات املاءاتها على الدولة وتهدد بالانسحاب؟ هل نصّبت نفسها مكان وزارة الداخلية وتمردت على الدولة لتعلن أنه من الممنوع الاحتجاج في شارع الحبيب بورقيبة الذي احتج به الأمنيين نفسهم أمس؟؟ أسئلة كثيرة تطرحها تصرفات النقابات الأمنية التي تمثل جزءا من الأمن الوطني الذي عُهد اليه بحماية البلاد والالتزام بالانضباط...
التيار الديمقراطي انتقد ما وصفه بتصاعد الردود الأمنية العنيفة على الاحتجاجات الاجتماعية مؤكدا أن خطابات بعض النقابات الأمنية تعتبر تمردا على الدولة. الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أكدت أن التجاوزات التي تقوم بها بعض النقابات الأمنية وصفحاتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي خطيرة وأصبحت تمثل تهديدا حقيقيا لأبسط حقوق الإنسان وللحريات المواطنية ومسّا من السلم الأهلي ومرتكزات الدولة المدنية حيث شكلت النقابات جهاز مواز للجهاز الرسمي لوزارة الداخلية عبر السطو على الدور الموكول للمسؤولين الأمنيين الرسميين و ترويج خطاب مواز في وسائل الإعلام الرسمية، وتجاوز الدور الإجتماعي للنقابات نحو التدخل السافر في العملية السياسية، ومخالفة القوانين الداخلية لقوات الأمن ومخالفة القانون والدستور والدعوة في بيانات منشورة للعموم وموثقة للتمرد والعصيان وذلك بالدعوة لعدم تأمين مرافق عمومية وكذلك بدعوة منظوريها إلى عدم المثول أمام العدالة وهو ما يعتبر خرقا لمبدإ علوية القانون وتفصّيا من العقاب.
رغم أن الفضل 19 من الدستور ينصّ على أن" الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التامّ"، و الفصل 23 من الدستور ينص على أنّ الدولة مطالبة بأن تحمي "كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد وتمنع التعذيب المعنوي والمادي" فإن سلوك النقابات الأمنية هو تماما عكس المبدأ الدستوري وخرق فادح له من اضراب عن العمل والتدخل في قرارات وزارة الداخلية والتهجم على المواطنين دون احترام لا لمبدأ الحياد ولا لمبدأ الحريات واحترام الحركة الجسدية وحقوق الانسان. هذه الممارسات هي تعبيرة عن استهداف واستضعاف الدولة وتهديد وحدتها وسياداتها وأمن مواطنيها.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires