من الرقاب إلى صفاقس : عن التساهل المفزع مع البيدوفيليا
أسابيعٌ قليلة مرّت على حادثة أطفال مدرسة الرقاب، على هبّتنا كرأي عامٍ عاقلٍ إلى إدانة إغتصاب الأطفال من قبل إرهابييّن قروسطييّن، أسابيعٌ قليلة يبدُو أنّها أزاحت الحادثة من ذاكرتنا القصيرةِ، حتّى أعادتها إلى الواجهةِ فاجعةُ الإعتداء الجنسيّ على 20 تلميذًا في ولاية صفاقس من قبل مُعلمهّم التقدميّ-اللّطيف، الذي لا يُـطيلُ لحيتهُ ولا يُقصّر بِنطاله.
630 حالة إعتداء جنسي على الأطفال سنويا، هي آخر الأرقامِ التي نشرتها وزارة المرأة والطفولة، هي الحالات التي تمّ الإشعار بها فقط دُون أضعاف ذلك الرقم مما يحدث في الخفاء. أسبوع أسود للطفولةِ التونسيّة، لم يستوعب التونسيون بعد فاجعة وفاة 13 رضيع في مستشفى الرابطة بسبب إهمال طبيّ، تتالت التصريحاتُ إثره والكلّ يلوّح بنصف الحقيقةِ ويجهل-أو يتجاهل نصفها الثاني، حتّى هزّ الرأي العام تصريح ممثل محاكم صفاقس القاضي مراد التركي: الثلاثاء 12 مارس 2019، بطاقة إيداع في السجن تصدر في حقّ "معلّم" بتهمِ التحرش والمفاحشة والإغتصاب لتلاميذه القـصّر.
هذه المرّة، لم يحدث الفعل الشنيع خارج التاريخ، في تاريخ هامشي موازٍ يظنّ الإرهابيون أنه التقويمُ الأصح، ولم يحدث في محشد لتفريخ الإرهاب بعيدا عن أنظار الدولة، الإعتداء الجنسي على الأطفال البالغ عددهم 20 طفلا (17 من الإناث و 3 من الذكور) حدث في مدرسة عموميّة من قبل مدرّس مؤهل من الدولة التونسيّة.
إن استطعنا في حادثة الرقاب توزيع اللّوم على أهالي الأطفال الذين رموا بهم إلى المجهولْ، هذه المرة لمن سنوجّه اللوم؟ في مرحلةٍ أولى، تم إصدار بطاقتي إيداع خلف القضبان، سبقهما إستنكار شعبي هائل، لكن يبدو أن مسار التدارك والمحاسبة، قد ينتهي في دائرة المرحلة الأولى. تطبيع مجتمعي خطير مع ظاهرة البيدوفيليا يبدأ بالرفض والاستنكار وتقديم المشتبه بهم للعدالة، وينتهي بالتواطئ غير المقصود مع الجرم، إما بذريعة تجنب الفضيحة والعار حماية لمستقبل هؤلاء الأطفال، أو للعوائق الاجرائية اثناء المحاكمة مثل غياب أدلة الادانة في حالات الإعتداء الجنسي. خلال الثلاث السنوات الماضية، تلقت مندوبيات حماية الطفولة 773 إشعارا بتعرض أطفال لانتهاكات جنسية في الوسط المدرسي والعائلي. لكن نصف هذه التحذيرات وجدت طريقها الى القضاء، بسبب إمتناع الأولياء عن التقاضي خوفا "من الفضيحة" أو بسبب اتلاف أدلة الاتهام بسرعة من قبل الطفل الذي سيهرع للاغتسال أو تغيير ملابسه والتكتم على الأمرنظرا خوفه من ردة فعل عائلته التي لم تلقيه تربية جنسية سوية يدرك من خلالها ماهية الاعتداء الجنسي. وبالاضافة الى عقدة الفضيحة وتعلات حماية الطفل من نظرة المجتمع والرفض الغريب لادراج التربية الجنسية في المناهج التربوية التي تنمي التساهل مع البيدوفيليا، تتعدد الثغرات القانونية التي تحول دون انصاف الضحايا.
بيد أن تونس انضمت في جانفي 2018 إلى اتفاقية مجلس أوروبا بشأن حماية الأطفال من الاستغلال والاعتداء الجنسي فان القضاء التونسي مازال يواجه نفس الثغرات القانونية القديمة ويتردد بين النظري من الاتفاقيات الدولية والتطبيق حسب ما يقتضيه المشرع التونسي. لذلك ان وصل الطفل الى مرحلة التقاضي ولم تعق العقد البدائية المتوجسة من نظرة المجتمع عائلته، فان أول مأزق اجرائي يواجهه هو مأزق المكافحة.
مسار قضائي معقد يبدأ بمكافحة بين الضحية والمتهم دون حضور أخصائي نفسي. اجراء يضع الطفل الذي سبق تعرضه لصدمة نفسية مهولة في وضع نفسي هش يواجه فيه الجاني -أي أكبر مخاوفه- مما يدفع الكثير من الحالات الى رفض المكافحة بسبب الهلع واسترجاع الحادثة واستحضار العنف الذي تعرض اليه أو التراجع في أقوالهم وبالتالي اسقاط التهمة. وبينما يعامل الطفل-الضحية عند المكافحة كراشد فان الخطوة التالية وهي الشهادة لا تعترف برشده.
خلال الاستماع للضحية من قبل قاضي الطفولة يتم اعتبار الضحية قاصرا وشهادته غير كافية للادانة وأي تضارب في الأقوال تعتبره المحكمة نسفا للرواية الأصلية وبالتالي ينتهي المسار القضائي قبل بدايته بسبب معضلة اجرائية سببت رهابا نفسيا للطفل الذي قد يظطر في هذه النقطة الى رواية الحادثة أكثر من 4 مرات! ولئن كان غياب-أوتغييب دليل الادانة في حالات المفاحشة والاغتصاب يحيل القضايا الى من ساحة المحاسبة الى هامش الأرشفة والافلات من العقاب فان الأدهى أن حالات التحرش ورغم ثقل تداعياتها النفسية على الضحايا من الأطفال لازالت تعتبر حسب الفصل 226-3 من المجلة الجزائية مجرد "امعانا في مضايقة الغير بتكرار أفعال أو أقوال من شأنها أن تنال من كرامته أو تخدش حياءه"..
وبالاضافة الى الفراغ القانوني والتساهل المجتمعي الذي يفضل ابقاء الجرم سرا، ورغم أن الفصل 31 من مجلّة حماية الطفل ينص على أنه "يتوجب على كل شخص واجب إشعار مندوب حماية الطفولة كلّما تبين له أن هناك ما يهدد صحة الطفل أو سلامته البدنية أو المعنوية" فان الأطباء الذين يتعرضون خلال تشحيصهم لأطفال من ضحايا الاعتداءات يترددون بين مبدأ السرية المهنية المطلقة وواجب الاشعار. الترسانة القانونية النظرية لحماية الطفل من الاعتداءات الجنسية لايمكنها أن تكون وحدها الحل دون تطبيق لأنها تتجه في اتجاه عمودي واحد يجب أن تتقاطع معه القضائية التي لازالت تعتبر تزويج القاصرات بضمان أبوي وتزويج الطفلة من مغتصبها أمرا مقبولا.
ختاما، ونحن نشق طريقنا ببطئ –ولكن بثقة- نحو تكريس مدنية الدولة وعلوية الدستور من الصعب حتى لا نقول من المستحيل حماية المصلحة الفضلى للطفل كما ينص الدستور دون ادراج مادة الثقافية الجنسية والتربية الانجابية في المناهج التربوية. أصبحت هذه المادة العلمية ضرورة ملحة لما تمثله من طريقة وقائية تساهم في توعية الأطفال ضد الاعتداء الجنسي، على اعتبار أن أغلب العائلات التونسية مازالت الى اليوم تواجه حرجا يجعلها ترفض الخوض في هذا الموضوع، اقتراح هذه المادة صار واجبا على عاتق الدولة لتمكين الأطفال من حقهم في دراية علمية مبكرة تجعلهم قادرين على تحديد الخطر وفهمه وبالتالي حماية أنفسهم.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires