من 'خليل' الى 'خوخة' – دعونا نحدّثكم عن صديقنا الذي يُفضّل أن يكون امرأة !
المثليون- مـــُواطنونا الذين يعيشون في الظلّ
يحتفل الفصل 230 من المجلة الجزائية المجرّم للمثلية الجنسية بعد بضعة أيام، بعيد ميلاده الـ110. قرن، وعقد من الزمن، هو عُمر قانون يجرّم ممارسة شخصين بالغين "اللواط" أو "السحاق" برضاهما في مكان خاص.
عيد ميلاد سعيد لفصل التفتيش في المؤخرات وغُرف النوم.
أصدقائنا في مجتمع الميم-عين، نحنُ نعلم أنّكم موجودون- وموجودات، ونتوق مثلكم الى يوم لا نضطّر فيه للتنكّر حتّى نذوب في الحشود. تُخصصّ بيزنس نيوز، كوسيلة اعلام ملتزمة بالدفاع عن الأقليّات، حيزا لنشر سلسة مقالات عن مُواطنينا الذين يعيشون في الظلّ.
اليوم، نُحدثّكم عن خوخة، Genderqueer – لا معيارية.
جندر كوير، هو تعبيرة عن عدم امتلاك تعريف جندريّ تقليدي مُحدد بـ ''هو " أو "هي". عادة يعتبر الأشخاص غير ثنائيي الجندر أن لهم نوعا اجتماعيا مختلفا عن الجنس المحدد لهم، على الرغم من أن العديد منهم لا يعتبرون أنفسهم عابرين جنسيا. أمر مُربك أليس كذلك؟ لا تدعوا هذه الكلمة الشائكة تُرهبكم، لتبسيط الأمر تخيّلوا أنّ الجندر (النوع الاجتماعي) طيف واسع وليس قُطبين متناقضين مذكر ومؤنث. ليس الأشخاص ملزمين بأن يُصنّفوا ضمن هوية جنسية مُحددة. قد ﻻ يجد الشخص نفسه منتميا بشكل تام ﻻحدى هاتين الفئتين، هو اذن مُصطلح شامل لا يرى الجنسانية أبيضا وأسودا، ويعترف بوجود عشرات التوجهات الجنسية الأخرى التي لا تتضمنها التعريفات التقليدية.
يبدو عالمُ خوخة كلوحة لسيلفادور دالي. سحرّيا، سيرياليّا ومُربكا : بدأنا في اكتشاف هذه 'البرسونا' المُلوّنة على مُدوّنتها على الانترنت. نحنُ نرى لحية سوداء مُهذبة ومُحددّة ببراعة ورأسا حليّقة، لكن مكياجا احترافيّا بهيجا. نحنُ نرى ملامحا أنثويّة رقيقة تخترقُ حجابا شفّافا في صورة بالأبيض والأسود، وأعينا عسليّة يُبرزها الكُحل الحادّ العربيّ، رموشا كثيفة وشفاها مُوردّة، وفساتينا براّقة... على جسد شابّ ثلاثينيّ. نحنُ نرى صورا ذاتيّة مُلتقطة تحت أشعة الشمس- نصف عارية، (لا نفهم لرجل؟ أم لامراة؟) تُطرد من عقلنا تيّــار الثُنائيات العقيم، وتفتحُ منظورا جديدا للجمال، تخترع خوخة حيزا آخر من 'المـمكن' عبر صفحتها الجريئة على الانستغرام والتي نترك لكم حريّة الاطلاع عليها.
هذا تماما ما يفعلهُ خليل العيّاري، 35 سنة، يجعلنا نتساءل. وُلد خليل لعائلة مُتواضعة ومُحافظة في ولاية أريانة، تونس. تجنّبنا سؤالهُ عن طفولته وعائلته وماضيه لنُجنبّه مشقة استرجاع ذكريات مُوجعة وعنيفة. انطلق حوارنا بسؤاله كيف تفضلّ أن نوجه لك الكلام، بأيّ الضمائر؟ كانت الإجابة، ضمير 'هي' في العربية و ‘They’ (ضمير غير متحيّز) بالانقليزيّة.
*خوخة في طفولتها
تعرِّف مغايرات الهوية الجنسانية أنفسهن بالنساء، ولكنهن صُنفن من الذكور عند الولادة. يلجأ بعضُ مغايري الهوية الجنسانية إلى العمليات الجراحية أو يتناولون الهرمونات لمواءمة أجسادهم مع هوياتهم الجنسانية، بينما تفادت خوخة ذلك واحتفظت بمعالم جسدها الذكوري (بالمفهوم التقليديّ) بينما ترى العالم من عيون امرأة، تؤمن إن نظرة الرجل المُهيمنة للكون أعلنت إفلاسها.
يستخدم (خليل) هذا الاسم الذي أعطي له عند الولادة لإجراء الأعمال اليومية والاداريّة. تونس، تعتمدُ كأغلب الدول في العالم تصنيف (أنثى/ذكر) في الأوراق الرسمية كمضمون الولادة وجواز السفر. لكن في دائرة مُقربة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، يستخدم اسم (خوخة). تقول خوخة " جنس المولود : ذكر ... ولكن !! ماذا أحمل من اسمي؟ اسمي الموثّق بسجلاّت الحالة المدنية .. كان الأكثر اعتباطيّة من بين الملصقات. لم أختر اسمي الذي أوثق بي كالأغلال، بل اختاره لي والدي. ".
في فترة أولى خلال اكتشاف جنسانيته، كان خليل يعتبر نفسه رجلا مثليا، مهتمّا رومنسيا وجنسيا بالرجال. في 2015، ظهرت خوخة، التي تصنّف نفسها كامرأة على الرغم من أنها لا منتمية للثنائية الجنسية/الجندرية وليست 'أنثى'، إلا أنها تفضل استخدام الضمائر الأنثوية للتعبير عن جزء من هويتها تمّ قمعه طويلا.
خوخة هي مناضلة نسوية وكويريّة تريدُ أن تحدث العالم عن الوعي النسويّ والثورة والحبّ والأمان-بشغف مؤلم أحيانا، في مدوّنتها التي تنشر بها نصوصا باللغة العربية عن تجاربها ورؤيتها لذاتها. ترغبُ خوخة في هدم كلّ البنـى التي همشّها منطق الثنائيات وتعود بنا الى الشكل التعبيريّ الأكثر بساطة : لغة الجسد. لا نعلمُ ان كان تحطيم التابوهات قد يتخّذ طريقة أكثر شجاعة من الظهور العلني بهذه الهوية المركبة الكرنفاليّة في بلد يجرّمها، ويهددّ بسجن صاحبها.
بعد الثورة شهدت تونس صحوة حقيقّية في مجال الحقوق والحريّات سُرعان ما وأدتها انتكاسات متتالية، لم يكاد مجتمع الميم-عين أن يصعد للسطح ليتنفّس حتّى عادت موجة التطرّف والكراهية تهدده. يعيشُ المثليون والعابرون في تونس تمييزا اجتماعيّا واقتصاديّا مُخيفا، يحرمهم من تحصيل الحدّ الأدنى من الأمان النفسي والاستقرار المادّي. " عقود مضت وتمضي .. ونحن نحاول النجاة." تقول خوخة، واصفة نمط حياة هذه الفئة بأنها صراع مُستمّر مُنهك، الجميع مشتبه به وسجين محتمل، الجميع منبوذ ووحيد، الخوف هو الاحساسُ الوحيد الذي يلازمهم.
"بدأت حياتي الجنسية في عمر الـ14 وتوقّفت عند الـ34، 20 سنة حياة جنسيّة هشّة ومهمّشة ومرعوبة. (...)
اذا وجدتُ عائلة مُحِبّة ومُريحة وحاضنة ومدرسة ومعهدا وجامعة وشارع.. وِذْكَرْ واحد موش لازم ألف .. موش لازم ألف حرب وعصب وتعب .. (...) هاني نجري مازلت ... وراء طرف حبّ كنت إنجّم نتولد وسطو ونعوم فيه ونبات ونصبح عليه وما نضطّرش نجازف بحياتي وأنا نلوّج عليه."
*خوخة مع والدتها في التسعينات، أريانة.
لم تجد خوخة الاحتواء العائليّ الذي كان ليحميها من بشاعة العالم، أو يُسلّحها بمحبّة تكفيها لمواجهة الكراهية والاعتداءات التي تتعرّض لها بصفة شبه يومية منذ المراهقة- عادة، من الذكور. لم تقبل عائلتها المُصغرة توجههّا، وكانت لفترة عالقة في منزل واحد مع شقيقها المعنف. غادرت خوخة منزل العائلة للفرار من ذلك الكابوس، لكنّها اصطدمت بالعنف في أشكال أخرى. تضطّر طبعا لاخفاء هويتّها في الشارع عبر التنكّر في شكل شابّ عاديّ، تضطّر لتغيير وجهتها خوفا من تهديد محتمل، أو سلك طريق أخرى لتجنّب اعتداء ممكن. تتحوّل المدينة الى حقل ألغام، لكنّها تحاول على ايّ حال، أن تجد الأمان والسلامة في 'العبور' عبر الأزقة الخلفية.
"(العنف) مشهد يومي واعتيادي مفروض نكون ستانست بيه (...) ومفروض دوايات الأعصاب اللّي ناخو فيها بشكل يومي، كضريبة مالية واجتماعية ونفسية لمجرد وجودي على هذه الأراضي (...) تخلّيني نتعامل مع العنف والتهديد على أنّو مكوّن أساسي ومقبول من مكوّنات حياتي اليومية.
ومفروض نتحمّل المسؤولية التامّة للعنف اليومي اللّي نتعرّضلو، ومفروض عليّا كضحيّة نتحمّل مسؤولية خلق حلول للعنف:
إمّا بالتفادي والصمت أو التظاهر بالتجاهل أو بالتطبيع والتعايش مع العنف، أو بالأدوية أو بترك البلاد. (...)
شنوّة مفروض نعمل أكثر من إنّي نغطّي بدني من راسي لصوابع ساقايا في كلّ مرّة نخرج فيها للشارع؟ "
الأماكن التي يمكن لخوخة أن تكون فيها دون قناع قليلة. في العاصمة، لا يوجد فعلا مقاه أو حانات آمنة لمجتمع الميم-عين. يقتصر الأمر على أماكن محدودة في ضاحية 'قمرت'، و'المرسى' لكن بطريقة غير مُعلنة. الحياة الليلية قد تتحوّل لـ 'ترف' غير ضروريّ وامتياز للبعض ممنّ يملكون رفاهية سيارة أو دخل مستقر. في العاصمة يتطلّب ذلك الخروج في مجموعات وعدم اثارة جلبة، مع الحذر المتواصل. بعض المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الثقافيّة تعلن أنفسها كأماكن آمنة للمثليين، وتنظم فعاليات للدفاع عن مجتمع الميم عين والاحتفاء بهم، عبر لقاءات عامّة وحلقات نقاش. في 2018، انطلق مهرجان 'موجودين ' للأفلام الكويريّة ومثل نقلة نوعيّة في الأنشطة الثقافية الكويرية في تونس، هو أول مهرجان متخصص في عرض الإنتاجات السينمائية المتعلقة بقضايا مجتمع الميم في شمال أفريقيا ، كما يضم المهرجان ندوات حواريّة وعروضا فنية وورشات مُختلفة.
تسمحُ هذه اللقاءات العرضية لأعضاء 'الكوميطا' بالالتقاء والتواصل وتشبيك علاقات مهنية وأكاديمية، لكنّ اللقاءات الرومنسيّة لها طرق أخرى.
خوخة لها صفحة مواعدة على تطبيقة "غرندر" (Grinder). هذا الفضاء يضم المثليين من الرجال والعابرين جنسيا ويمنحهم فرصة الالتقاء بشركاء رومنسيين محتملين لمواعيد غرامية أو لقاءات جنسية سريعة. تسمحُ التطبيقة للمستخدمين في تونس باخفاء موقعهم الجغرافيّ حماية لهم، وتشكلّ واحدة من أكثر الطرق شيوعا وأمانا للتعارف بين المثليين/العابرين. لكنّ حياة خوخة الجنسية حاليا مُعلقة بسبب اصابتها بفيروس نقص المناعة المكتسبة (VIH)، تجربة لا يمكننا الاّ أن نتعاطف معها ونحييّ شجاعة صاحبتها التي تشارك تفاصيل رحلة علاجها على مواقع التواصل مع أفراد 'الكوميطا' لكسر الستيغما والوصم المحيطان بالأشخاص المصابين بالفيروس وإدانة الاقصاء الذي يتعرضون له وصعوبة الوصول الى المتابعة الطبيّة خاصة بالنسبة للعابرين.
"موش الفيروس في حدّ ذاتو اللّي يقتل، اللّي يقتل هو الصمت والكراهية والخوف والعزلة والعار والجهل." تقول خوخة.
خلال رحلتنا القصيرة والمُمتعة في عالم خوخة مكوير، لاحظنا انغماسها في العمل و انشغالها بأنشطة المجتمع المدنّي والترجمات والكتابة، يبدو يومها جنونيّا، ويدور كلّ ما تفعله في فلك الالتزام والنضال من أجل حقوق مجتمع الميم عين- اذ تشارك خوخة مثلا في صياغة أول دليل مصطلحات حول النوع الاجتماعي يتلاءم مع السياق التونسي. كُتيب يجمع المصطلحات المتعلقة بالتوجه والهوية والسلوك الجنسي، باللهجة التونسية والعربية المحايدة، مع التفسيرات المختلفة لكل كلمة في الثقافة المحلية. تريد الناشطة تغيير الثقافة الثنائية والأبوية على مستوى اللغة داخل المجتمع التونسي وتقترح كبديل نوعا من اللغة الشاملة.
اذا وجدت نفسك وأنت تقرأ هذا الملمح تقرّ بكرهك أو عدم قبولك لشخصيّة خوخة، وتفكّر في طريقة لاهانتها وترك تعليق جارح، اذا وجدت نفسك غاضبا وتفكّر في ردة فعل حانقة اذا اعترضك هذا الشخص في الشارع، فأنت مُصاب بالهوموفوبيا (الرهاب المثلي ) والترانسوفوبيا (الرهاب من العابرين). لا تخف، انّه اضطراب قابل للعلاج. لا يجبُ لشخص مثقّف مثلك تتطلّع على موقع نخبويّ كبيزنس نيوز أن يحمل بداخله هذه العداء لمواطن تونسي له نفس حقوقك. هذه الكراهية تؤذي الجميع، تؤذيك وتؤذي مجتمع الميم-عين وتنتجُ مزيدا من العنف.
لا يمكننا أن نطلب منك أن تكون حليفا لهذه الفئة أو مناصرا لحقوقها، لكن ما نطلبهُ، هو أن تحاول أن تتعرّف عليهم، لترى، أنهم ليسوا زُوّارا من كوكب اخر، وأنهم شركاؤك في وطنك. لتعلم أنّهم في نهاية اليوم، يُشبهونك أكثر مما تُدرك، يعيشون ذات السياق الاقتصادي والسياسيّ المقلق والسوداويّ. قد يكون أحدهم جارك أو أستاذك أو محاميك. قد تكون احداهنّ الصيدلانية التي باعتك دواء السعّال هذا الصباح أو الاعلاميّ الذي يصلك صوته عبر راديو سيارتك.
قد يكون بعضهم حتّى مملاّ للغاية. قد تكون حياتهُ رتيبة وهذا كلّ ما يريد، أن تكون له حياة عادية وبسيطة وأن لا يضطّر لخوض كابوس من الوصم والتمييز والاعتداء في وطنه.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires