وفاة 2600 صحفي من أجل حريّة الصحافة
تعتبر الصحافة أداة ومهنة لإنارة الرّأي العام بالبحث عن المعلومة ونشر الخبر في كل المضامين الصحفيّة بكل حياديّة ومصداقية، وتلقّب بصاحبة الجلالة وتلعب دور السّلطة الرابعة في تونس، وامتازت الصحافة بعد الثّورة في البلاد بتحرّرها بشكل كبير من كل قيود الدكتاتوريّة على إثر نضالات النقابة الوطنيّة للصحفيين في الدّفاع عن هذه المهنة وعن صحفييها.
ولأوّل مرّة وفي سابقة فريدة من نوعها على مستوى عربي وإفريقي، نظّمت تونس المؤتمر 30 للاتّحاد الدّولي للصحفيين لإنتخاب رئيس وأعضاء الهيئة التنفيذية للإتّحاد، الّذي انطلقت فعالياته يوم الثلاثاء 11 جوان 2019، وتتواصل إلى يوم 14 جوان 2019، بحضور أكثر من 300 قيادي نقابي يمثلون 600 ألف صحفي في العالم وينتمون إلى 187 نقابة وجمعية صحفية من 140 دولة، وذلك تحت شعار "مؤتمر تونس..من أجل صحافة حرة".
افتتح المؤتمر فعالياته بمدينة الثقافة في تونس صبيحة يوم الثلاثاء 11 جوان 2019، وتمحورت أشغاله حول ثلاث مواضيع تمّ نقاشها في شكل جلسات حواريّة تحت إشراف الأمين العام للإتّحاد الدولي للصحفيين أنطوني بلانجي، وأمين العام الإتّحاد جريمي دير، ويونس مجاهد نائب رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين، بحضور كل رؤساء النقابات العربيّة والأجنبيّة للصحافة.
تناولت الجلسة الأولى موضوع "مستقبل الصحافة في زمن الرقمنة" ، وتولّى أمين العام الإتّحاد الدّولي للصحفيين أنطوني بلانجي، إدارة النّقاش صحبة ثلّة من الصحفيين الأجانب، وأبرز هذا الحوار أهميّة الصحافة الرقميّة الإلكترونيّة مقارنة بالورقيّة، بعد أن شهد العالم تطوّر تكنولوجي مهم وأضحى كل النّاس يعتمدون هواتفهم النقّالة في قراءة المعلومة سوى إن كانت في شكل فيديو أو صورة أو نص مكتوب في مختلف المواقع الإلكترونيّة ومواقع التّواصل الإجتماعي.
عدّد المشاركون في الحوار أهميّة هذه الصحافة الجديدة والبديلة ودورها الفعّال في نقل المعلومة بكل سلاسة وسرعة، ووضّحوا كل المشاكل التّي يعاني منها الصحفيين العاملين في هذا القطاع على غرار كثرة ساعات العمل مقابل الأجر الزّهيد والمتواضع الّذي يتقاضونه، ناهيك عن ظروف العمل الصعبة من سكن وصعوبة في التنقّل وغياب منح التغطية الإجتماعيّة وحتى عقود العمل، إذ لا يعرف الصحفي العامل بهذا القطاع متى يجد نفسه بدون مورد رزق، في هذا الإطار دعا بلانجي إلى ضرورة الإحاطة الشاملة بالصحفي العامل بالصحافة الرقميّة وتوفير كل الظروف المناسبة له للعمل بكل أريحيّة، نظرا لما يكتسبه هذا النّوع من الإعلام من أهميّة في عصر التكنولوجيّة الحديثة والرقميّة.
كما تناول موضوع النقاش في الجلسة الحواريّة الثانيّة "الممارسات النقابية الجيدة في جميع أنحاء العالم"، تحت إشراف نائب الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين جريمي دير، بمشاركة عضو النقابة الوطنيّة للصحفيين زياد دبّار الّذي بيّن دور النقابة في الحماية والدّفاع عن حقوق الصحفيين الذّين ينتمون إلى هيكلها، مبرزا الصعوبات والإنتهاكات التي تعرضوا لها أثناء عملهم، أيضا شاركت في هذا الحوار عضوة الإتّحاد الدّولي للصحفيين ممثّلة الصحفيين السّوريين، عزّة الشتيوي"، إذ بيّنت في مداخلتها دور نقابتهم في الدّفاع عن الصحفيين السّوريين الذّين يشتغلون في أغلب وسائل الإعلام الدّوليّة والمحليّة في ظل الظروف الإجتماعيّة والسياسّة الصعبة التي تعيش على وقعها سوريا، ودعت كل الصحفيين السّوريين إلى ضرورة الإنضمام لنقابتهم لتتبنّى بشكل واسع وكلّي كل قضاياهم ولتضمن لهم حقوقهم وتوفّر لهم كل الظروف الملائمة للعمل الصحفي.
وأكّد نائب الإتّحاد جيرمي دير، إنّ الإتّحاد الدّولي للصحفيين من واجبه ودوره الإهتمام بكل صحفيّ العالم، وإنّ النقابات التي تنضوي تحت الإتّحاد هي الممثّل القانوني للصحفيين في كل الدّول وهي المرآة التي تنقل قضاياهم إلى الإتّحاد لينظر فيها ويدافع عنها.
واختُتِمت دائرة النقاشات بالورشة الثالثة التّي تناولت محور "الصحافة بعد الثورات العربية"، وأدارها يونس مجاهد نائب رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين، الّذي بيّن التطوّرات التي شهدتها صاحبة الجلالة بعد الثورات العربيّة من تحرّر ونجاح على كل الأصعدة، مبرزا مأساويّة الواقع الميداني الصحفي الذّي أودى بحياة 2600 صحفي على مستوى دولي منذ سنة 1990 إلى حدود سنة 2019، وأفاد نقيب الصحفيين التّونسيين ناجي البغوري خلال مداخلته في هذه الجلسة، إنّ الصحفيين التّونسيين على غرار هشاشة ظروف عملهم داخل المؤسّسات الإعلاميّة، فهم يتعرّضون بشكل يومي إلى مضايقات من قبل السلطات الحكوميّة والأمنيّة وغيرهم من أصحاب النّفوذ أثناء أداء عملهم الصحفي، وعلى الرّغم من إزدهار حرّية التعبير والصحافة بعد الثّورة والتخلّص من عهد القمع والدكتاتوريّة في زمن حكم الرّئيس المخلوع زين العابدين بن علي، إلاّ أنّ حريّة الصحافة اليوم لا تزال مهدّدة ومقموعة، ودعا إلى ضرورة عدم تسييس الإعلام لصالح الجمعيات أو رؤساء الأحزاب خاصّة في هذه الفترة الإنتخابيّة التي تمرّ بها البلاد.
أعرب كل المشاركين في هذه الجلسات الحواريّة صبيحة فعاليات المؤتمر، عن إجماعهم بالظروف الصعبة التي يعاني منها الواقع الصحفي من مشاكل ماديّة وميدانية على مستوى دولي، فأزمة عمل الصحفي الصعبة والهشّة متطابقة ومتماثلة في كل دول العالم، وبعد إنتهاء هذا الحوار، إنطلقت فعاليات الإفتتاح الرسميّة، في نفس اليوم مساءا، بأحد نزل تونس بالعاصمة.
إنطلقت مراسم الإفتتاح الرسميّة للمؤتمر تحت إشراف رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السّبسي، الذّي أعلن في مداخلته أنّه فخور باحتضان تونس لهذا المؤتمر، ووجّه في هذا الإطار تحيّة شكر للإتّحاد على ثقته في منح تونس فرصة تنظيم هذا المؤتمر لأوّل مرّة في الشرق الأوسط وإفريقيا، وأثنى على مجهودات النقابة الوطنيّة للصحفيين وفي شخصها النقيب ناجي البغوري، الذّي دعا الإتّحاد الدّولي للصحفيين لتنظيم هذا المؤتمر في تونس، مبرزا إنّ شرف تنظيم هذا المؤتمر ناتج عن نضالات الصحفيين عبر سنوات، وذكر في إلقاء كلمته، الشرف الّذي ناله في توسيم وتكريم النقيبة الرّاحلة نجيبة الحمروني.
وأكّد رئيس الجمهوريّة على أهميّة الإعلام، قائلا أنّه لا وجود لديمقراطيّة في ظل غياب حريّة الصحافة، وصرّح إنّه ضد إعتقال الصحفيين خاصّة في تونس وإثنائهم عن أداء عملهم، مبرزا إنّ حريّة الرّأي والتّعبير هي من الخيارات الإستراتيجيّة ومن أهم مكاسب ثورة الحرّية والكرامة، كما أشاد بدعم تونس كأوّل بلد في العالم لمشروع المعاهدة الدولية لتعزيز وحماية وضمان سلامة الصحفيين وغيرهم من المهنيين العاملين في وسائل الإعلام التي أطلقها الاتحاد الدولي للصحفيين في تونس يوم 18 نوفمبر 2017، وأعلن أنّه تمّ يوم 08 سبتمبر 2015، الإمضاء على قرار يقضي بأن يتحوّل هذا التاريخ يوما وطنيا لحماية الصحفيين.
وقال رئيس الجمهوريّة أنّه ليس بالغريب على قطاع الصحافة، مذكّرا أنّه في الأصل حقوقي وكانت له تجربة في صحيفة الرأي المستقلّة، ودعا إلى ضرورة تحسين ظروف الصحفيين وتحسين مناخات حريّة عملهم، ولم يفت رئيس الدّولة أن يعبّر عن موقفه إزاء المساواة في الإرث بين المرأة والرّجل، إذ أفاد أنّ تونس دولة الديمقراطيّة ولها دستور ينظم دولة مدنيّة ويفرض ضوابط تنتصر لرأي الشعب ويأمن بعلوية القانون، ولا وجود لديمقراطيّة على خلفيّة تغييب المرأة التّونسيّة، مشيدا بتقدّم المرأة العربيّة في كل الميادين.
وشدّد في نهاية خطابه على أهميّة أن تلعب النقابة الوطنيّة للصحفيين دورها في تنظيم عمل الصحفيين بعيدا عن تدخل السلطة، قائلا إذا تدخّلت السلطة في الصحافة فإنّنا بذلك سنعود إلى الوراء، وقال أنّه ضد هذه التجاوزات وسيعمل على التصدّي لها، لضمان نجاح هذه القاعدة المتمثّلة حسب قوله في أنّ الصحفي هو إنسان محترم في هذا العمل، وتعهّد بعدم رفع أي قضيّة ضد أي صحفي، مبرزا أنّه لا وجود لتنمية وديمقراطيّة في ظل غياب حريّة الصحافة.
وبعد انهائه لمداخلته، صرخت والدة الصحفي التونسي نذير القطاري، المفقود في ليبيا منذ سبتمبر 2014، أمام رئيس الجمهوريّة وكل الحضور من صحفيين ومسؤولين، مذكّرة للرئيس تعهّده لها عند إستقباله لها بقصر قرطاج، أن يكشف الحقيقة في قضية الصحفيين المفقودين سفيان الشورابي ونذير القطاري، وذكرت إنّ إبنها لا يزال حيّا ويقبع في سجون ليبيا، كما وجّه لها كل الحضور في الإفتتاح تحيّة نضاليّة ووقفوا إحتراما لها.
وبدوره قال نقيب الصحفيين ناجي البغوري، إنّ النقابة تسعى لإرساء صحافة الجودة تحترم أخلاقيات العمل الصحفي، وذكر إنّ الإتّفاقيّة المشتركة التي تمّ توقيعها في بداية شهر ديسمبر 2018، كانت من أهم الخطوات في إتّجاه محاربة هشاشة التّشغيل وفي اتّجاه خلق صحافة جيّدة ودعا إلى أن لا تظل هذه الإتّفاقيّة مجرّد حبر على ورق ومجرّد قانون ننظر إليه ونتباهى به، وقال إنّ من أهداف هذا المؤتمر دعم التضامن الدّولي بين الصحفيين وخلق مناخ عالمي يحرّض على تكريس حريّة الصحافة والصحفيين في مختلف أنحاء العالم، ووجّه من منبره رسالة إلى رئاسة الحكومة وأصحاب القرار وإلى الأحزاب السياسيّة التي تتنافس على الإنتخابات التّشريعيّة والرئاسيّة مفادها أنّ الصحفيين التّونسيين يدعمهم كل العالم ولا مجال لتسييس الصحافة والضغط عليها وتسييرها، مفيدا أنّه لا يمكن ممارسة حريّة الصحافة في ظل وجود فساد سياسي.
كما توجّه رئيس الإتّحاد الدولي للصحفيين فيليب ليرث، بتحيّة شكر وإثناء إلى النقابة الوطنيّة للصحفيين التّونسيين على حسن تنظيم المؤتمر ودورها الفعّال داخل الإتّحاد، لتكون تونس بذلك أول بلد عربي وإفريقي يحتضن هذا الحدث، وقال ليرث إنّ المؤتمر الثلاثين للإتحاد الدولي للصحفيين (الفيج)، يتطلّع إلى تحيين ميثاق أخلاقيات المهنة الصحفية ليتماشى والتطورات الحاصلة للمهنة، وندّد بتفاقم الإعتداءات على الصحفيين وحالات إفلات المعتدين من العقاب، وقال أنّه سعيد بتولّيه رئاسة الإتّحاد لمدّة ثلاث سنوات، وتمنى أن يُكمل الرئيس المنتخب خلال هذا المؤتمر الرسّالة التي عمل على إرساءها من أجل صحافة عالميّة حرّة ومستقلّة.
واختُتِم يوم إفتتاح المؤتمر بمسيرة حاشدة للصحفيين من كل الدّول تحت شعار تعزيز التضامن والتماسك بين كافة الصحفيين لمجابهة التحديات التي يواجهونها في كل دول العالم ومعرفة حقيقة اختفاء البعض منهم قسريا، انطلقت من أحد النزل بالعاصمة وصولا إلى مقرّ النقابة الوطنيّة للصحفيين التّونسيين، شارك فيها رؤساء الاتحاد الدولي للصحفيين واتحاد الصحفيين العرب والاتحاد الإفريقي للصحفيين، وقال البغوري في كلمة ألقاها خلال المسيرة، إنّ الهدف من هذا التحرّك السلمي والجماعي هو التضامن مع كل الصحفيين الّذين قتلوا وخطفوا أثناء أداء واجبهم، وطالب بالكشف على حقيقة ما وقع لهم، وقال رئيس الإتّحاد، إنّ الإتّحاد لن يسلّم في حق صحفيه وسيعمل على كشف الحقيقة، وسيقاضي كل المُعتدين.
ونذكر أنّه سيتم خلال هذا المؤتمر على امتداد أربعة أيام، انتخاب مجلس المساواة بين الجنسين للاتحاد الدولى للصحفيين، وانتخاب هيئة الرئاسة واللّجان الخاصة بالمؤتمر وسيقدم الأمين العام للاتحاد تقريره عن الفترة السابقة الى جانب مناقشة الميثاق العالمى لأخلاقيات الصحفيين، وتقارير اجتماعات لجان القرارات واللجان المالية للاتحاد، وفي نهاية أشغال المؤتمر العام سيتم اجتماع اللجنة التنفيذية الجديدة للاتحاد لوضع خطّة عمل المرحلة المقبلة، ويختتم المؤتمر بخطاب للرئيس الجديد للاتحاد الدولى للصحفيين، وأجمع نقابات الدول العربيّة على رغبتهم في انتخاب المغربي يونس مجاهد، نائب رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين، لمنصب رئيس الإتّحاد، كما تمّ انتخاب عضوة المكتب التنفيذي فوزية الغيلوفي، نائبة رئيسة مجلس النوع الاجتماعي بالاتحاد الدولي للصحافيين، كممثّلة للصحفيين التّونسيين نائبة رئيسة مجلس النوع الاجتماعي بالاتحاد الدولي للصحافيين.
على الرّغم من كل الإعتداءات والعمل على تكميم أفواه الصحفيين في كل أصقاع العالم، سيظل الصحفي يعمل بكلّ حب لصاحبة الجلالة لإنارة الرّأي العام، ولن تُنهك جنود هذه المهنة أي تدخلات سياسيّة أو ممارسات تهديد من ذوي النفوذ لإيصال الخبر المقدّس بكل حريّة ومصداقيّة، على أمل أن تجد هذه السلطة الرابعة في تونس إستقلاليتها من باقي السلط.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires