التحضير لمرحلة ما بعد قيس سعيّد يبدأ الآن
بعد أن قضّى شهرا في السجن، تم الإفراج عن الوزير السابق، سمير الطيّب فقد تبيّن أن ملفّه فارغ، هو وصاحب الشركة كريم البنزرتي وإثنان آخران من المتهمين .. هذا ما كان أقرّه قاضي التحقيق الذي قضى بإطلاق سراحهم .. لكن النيابة العمومية رفضت هذا الحكم واستأنفته ليظل الموقوفون وراء القضبان .. كان عليهم انتظار بضعة أيام حتى تنظر في الملف دائرة الإتهام التي أصدرت قراراها بالإفراج عن الرجال الأربعة. هذه الدائرة وقفت على حقيقة بديهية كان أكدها محامو سمير الطيّب وهي أن الملف فارغ .. لماذا تراجع القاضي الذي أصدر بطاقة إيداع في شأنهم، في قراره بعد شهر واحد ليقضي هذه المرة بإطلاق سراحهم ؟ ماهو دور النيابة العمومية، الراجعة بالنظر للسلطة التنفيذية ؟ لماذا تم اللجوء إلى الإستئناف وإبقاء أربعة أبرياء في السجن ؟ هل سيتم تعويضهم وجبر الضرر الذي تسبب فيه إيقافهم والحد من حريتهم ؟ طبعا لا ! .. هل ستتم مساءلة ومحاسبة المتسبب في هذه المظلمة ؟ طبعا لا !.
نفس السيناريو الذي مرّ به ملف سمير الطيب، يشهده حاليا ملف مهدي بن غربية في سوسة .. هذا الملف فارغ كذلك حسب تأكيد هيئة الدفاع وفي هذه الحال أيضا هناك احتمال كبير لكي يتراجع قاضي التحقيق ويقرر إطلاق سراح بن غربية أو في أسوأ الحالات قد تعلن دائرة الإتهام عن الإفراج عنه.
في القضيتين يتحدّث المحامون عن الضغط الذي مورس على القضاة من قبل النيابة العمومية .. المجلس الأعلى للقضاء على علم بهذه الضغوطات لكن صلاحياته محدودة بما أنه هو أيضا يواجه بعض الضغوط والتهديدات من الجهاز التنفيذي.
يبدو أن هذه السلطة التنفيذية بحاجة إلى تقديم قرابين للرعاع من عامة الشعب المتعطّشين للإنتقام .. هذه الطُغمة لا تستوعب كيف أن شخصيات كانت في الحكم وأصحاب مؤسسات، يتم تبييضهم وأنهم أبرياء .. بالنسبة إلى هؤلاء الرعاع وهذه السلطة التنفيذية، إذا كنت ثريا فأنت فاسد بالضرورة أو مشتبه بك في أحسن الحالات.
نحن في هذا البلد نكره الأغنياء ولا نحب الأثرياء ونبغض النجاح .. فهم الدليل القاطع على فشل الفاشلين والمتقاعسين والحمقى الأغبياء .. فبدلا من الإعتراف بالفشل والتغلب عليه، فإن الرعاع من عامة الناس يفضّلون تعطيل من ينجح وتشويهه وتحطيمه.
ويبدو أن قيس سعيّد من هذه الفئة من الناس .. فرغم أنه توفّق في الوصول إلى منصب رئيس الجمهورية، إلا أنه يبقى ذلك الرجل الحاقد الذي لم يستوعب كيف يمكن لمواطنيه أن يصبحوا أثرياء بفضل عرق جبينهم .. بالنسبة إليه وكذلك الرعاع من الشعب، فإن شخصا ثريا هو شخص مشتبه به .. ليس بإمكانهم النظر إلى المسألة من زاوية أخرى.
وبما أنه هو القائد الوحيد للسفينة، بصلاحيات واسعة وبتعلّة محاربة الفساد، فإن قيس سعيّد يسلّط كل الضغوط الممكنة على القضاء ليضع في السجن شخصيات سياسية ورجال أعمال .. على مستوى كل حلقة من السلسلة هناك خوف يسود الجميع الذين يفضلون حماية أنفسهم حتى لا يصبحوا متهمين هم أيضا بالفساد حتى وإن اقتضى الأمر الزج بأشخاص أبرياء في السجن .. وهذا الكلام ينطبق على المحقّق بفرقة العوينة وقاضي التحقيق، مرورا باللجنة التونسية للتحاليل المالية والبنوك ومختلف الخبراء .. لكن قيس سعيّد ومن أجل محاربة الفساد، هو الآن بصدد جعل كل المنظومة ينخرها الفساد.
هناك قاعدة تم إثباتها في عديد المناسبات .. حين تبدأ العدالة في التذبذب والترنّح فإن أيام القائد صارت معدودة .. لا يمكن لأي نظام سياسي أن يستمر طويلا بقضاء منحاز .. عدالتنا تتأرجح اليوم هذا أمر بديهي .. فهي تخرق حتى أبسط قواعدها ومبادئها الأساسية ولا سيما منها قرينة البراءة والحريات .. قضاء سليم لا يسجن شخصا إلا في حالة قصوى .. فالحرية هي القاعدة والسجن هو الاستثناء .. في عهد الرئيس قيس سعيّد انقلبت الأمور رأسا على عقب .. ولهذا السبب وحده يمكننا أن نعلن أن نهاية عهد سعيّد قد اقتربت.
بما أنه يمتلك كل النفوذ والسلطات، فإن رئيس الجمهورية قرّر في نهاية الأسبوع الماضي، إعفاء قنصلين عامين من مهامهما، القنصل العام بباريس والقنصل العامم بميلانو .. لماذا تم إعفاؤهما ؟ لا أحد يمتلك الجواب !.
قبل أسبوع من ذلك، قرر الرئيس إعفاء واليين .. لماذا ؟ لا أحد يدري !.
منذ شهر تقريبا، قرّر رئيس الدولة إعفاء عدد من الولاة .. لماذا قام بذلك ؟ لا أحد يعلم !
ثلاثة أسابيع فقط تفصلنا عن نهاية السنة ومازلنا بلا قانون للمالية .. أي أن الشركات والمؤسسات لا تعرف ما ينتظرها في سنة 2022 وبالتالي ليس بإمكانها وضع ميزانية مسبقا .. هذا الوضع غير مسبوق بالمرة، لا في زمن بورقيبة ولا في عهد بن علي ولا حتى في فترة الترويكا التعيسة .. لماذا ليس لدينا قانون للمالية ؟ الله أعلم !
بطبيعة الحالة كل هذه الأسئلة لا تهم الرعاع الذين لم تفتر ثقتهم في الرئيس .. لكن الشعب (الحقيقي) يطالب بمعرفة الحقيقة .. المواطن المثالي الذي يدفع الضرائب ويعرف واجباته جيدا، من حقه أن يطالب بحقوقه .. ومن بين هذه الحقوق معرفة أسباب إقالة قناصل أو ولاة.
حين يبدأ القائد في انتهاك حقوق مواطنيه، فإن ساعاته معدودة (هذه قاعدة بديهية) .. ولهذا السبب وحده يمكننا أن نؤكد أن نهاية عهد قيس سعيّد قد اقتربت.
أعوان الشركة الوطنية للسكك الحديدية نفذوا خلال الأسبوع الماضي إضرابا عاما بسبب عدم خلاص رواتبهم لشهر نوفمبر .. حين تُحرم من راتبك الشهري فمن حقّك أن تغضب .. هذا أمر عادي وطبيعي وبديهي.
صفاقس، المدينة الثانية في البلاد من حيث الأهمية، تختنق بسبب تراكم أكياس الفضلات منذ شهر ولا وجود لأي حل في الأفق .. قرية طبربة (تونس الكبرى) هي أيضا غمرتها أكياس القمامة .. وقريبا ستنتقل هذه الآفة إلى ولاية أريانة (تونس الكبرى)، بسبب الإضطرابات التي يشهدها مصب برج شاكير ومركز الفرز بشطرانة .. حين تمتلئ الأنهج والشوارع بالقمامة والفضلات ويصبح الهواء مقرفا ورائحة الجو كريهة فمن الطبيعي والبديهي أن يغضب الشعب.
الأعوان الوهميون في شركات البيئة لم يتسلّموا رواتبهم منذ شهر سبتمبر .. حين تتعوّد على العيش على ظهر دافع الضرائب والدولة منذ سنوات ثم تُحرم من راتبك بين عشية وضحاها فإنك ستغضب .. هذا غير عادي لكن الغضب حاصل.
أهالي تطاوين مستاؤون أيضا لأن الدولة لم تحترم تعهداتها بخصوص اتفاق الكامور .. حين تخدعك الدولة من حقك أن تغضب وهذا أمر عادي وطبيعي وبديهي.
البعض من أنصار قيس سعيّد بدؤوا هم كذلك في التعبير عن غضبهم، بحجة أن قائدهم المفدّى لم يزج بالإسلاميين في السجن .. هذا غير طبيعي لكن مع ذلك فإن الغضب واقع.
مظاهر الغضب والاستياء في كل مكان وهذا يعني أن عهد قيس سعيّد قد شارف على النهاية.
لإخماد نار الغضب وتهدئة النفوس لابد من إيجاد الحلول المناسبة .. وإذا كانت بعض الحلول تتطلب شيئا من الذكاء وحسن التصرف (قيس السعيّد يفتقد هذا وذاك)، فإن حلولا أخرى تستوجب توفّر المال .. غير أن خزينة الدولة فارغة.
ماذا يمكن للرئيس أن يفعل لضخ المال في خزائن الدولة ؟ الدول الشقيقة، مثل الإمارات، تفضّل استثمار عشرة مليارات دولار في تركيا واقتناء طائرات "رافال" من الفرنسيين بقيمة 16 مليار يورو، على أن تمنح شيئا من الفتات لقيس سعيّد.
بعد أن وجّه عبارات الاستهزاء لوكالات التصنيف التي وصفها ب"أمّك صنّافة"، فإن قيس سعيّد قد أغلق الأبواب أمام مؤسسات الإقراض الدولية.
ولأن الإصلاحات التي تعهّدت بها الحكومات المتعاقبة الماضية، لم يتم إنجازها، فإن صندوق النقد الدولي قد يرفض الموافقة على منحنا قرضا جديدا هذه المرّة.
ماذا بإمكان قيس سعيّد فعله لخلاص أجور أعوان شركة السكة الحديدية لشهر ديسمبر وللملايين الآخرين من الموظفين والأعوان العموميين ؟.
إذن لم يتبّق له سوى حل وحيد وهو أن يلجأ إلى طباعة الأوراق النقدية .. وليحقق ذلك لا بد له من الحصول على موافقة مروان العباسي، محافظ البنك المركزي التونسي.
فهل سيقبل العباسي أن يكون جبانا أمام الرأي العام الوطني والدولي ؟ وهل يقبل أن يتواطأ مع قيس سعيّد في هذه العملية التي ستؤدي إلى "لبننة" تونس ؟ هذا غير مؤكد بالمرة.
إذا قبل وقرّر طباعة الأوراق المالية من أجل خلاص رواتب الموظفين، فهذا سيؤدي حتما إلى نسبة تضخم تتكوّن من رقمين وحالة من الغضب الشعبي العام مع منتصف عام 2022.
وإذا رفض العباسي، فإنه سيتم تعويضه بشخص آخر "طرطور" ليقوم بهذه المهمة القذرة .. وفي انتظار ذلك فإن الرواتب لن تدفع لمستحقيها وفي تلك الحال سيكون الغضب الشعبي العام منذ شهر جانفي المقبل.
في كلتا الحالتين سيكون هناك استياء وغضب عارم لدى الشعب التونسي الذي سيلتحق بأولئك الغاضبين حاليا لأسباب أخرى وحينها سنشهد قطعا نهاية عهد قيس سعيّد.
لذلك علينا الانكباب منذ الآن على التفكير في مرحلة ما بعد قيس سعيّد وهذا ليس دور الصحفيين ولا المعلّقين (الكرونيكورات) ولكن هو دور الساسيين.
فماذا أعدّ سياسيونا لهذا الموعد الذي بات يقترب بخطى حثيثة ؟ للأسف لا شيء يلوح في الأفق.
ها نحن نستمع إلى بعض الأصوات المنددة بما يجري حاليا، على غرار عبير موسي والفاضل عبد الكافي وحافظ الزواري أو كذلك من الإسلاميين .. لكن وبشكل ملموس، ماهو البديل الذي يطرحونه ؟ لا شيء يُذكر.
ماهي الحلول التي يقترحونها لحل مشاكل الفضلات في صفاقس وضخ الأموال في خزينة الدولة وخلاص رواتب الموظفين وغيرها .. ؟ لم نسمع لهم صوتا في هذا الشأن.
ماهي الحلول التي يقدمونها لإعادة عجلة التصنيع في البلاد في هذا الظرف الذي يبحث فيه الأوروبيون عن بديل قريب منهم جغرافيا حتى لا يكونوا تحت رحمة المصانع والمعامل الصينية ؟ لا شيء يُذكر.
ماهي حلولهم لتحفيز الاستثمار الخاص، القطاع الفعلي الوحيد الذي يخلق الثروة ومواطن الشغل ويحقق التنمية ؟ لا رأي لهم بخصوص هذا الموضوع.
في بلدان أخرى وفي أزمات مماثلة، كنا سنمع السياسيين في البرامج التلفزيونية يقولون: "لو كنت أنا في الحكم، هذا ما كنت سأفعله لحل هذه المشكلة أو تلك وللخروج من الأزمة" .. هنا في تونس لا نسمع سوى جملة واحدة وهي أن الرئيس بصدد خرق الدستور وعليه أن يكف عن ذلك .. أكثرهم شجاعة سيقولون لك إن على الرئيس أن يرحل.
لكن ليس هذا هو دور رجل السياسة .. السياسي الحقيقي هو من يقترح ويقدّم الحلول ويجعل الناس يحلمون بغد أفضل .. لا شيء من كل هذا على أرضنا.
سياسيونا، رجالا ونساء، عليهم الالتصاق بواقعنا والكف عن التنظير باستعمال عبارات وألفاظ لا يفقهها عامة الشعب .. عليهم أن يقترحوا حلولا للمشاكل اليومية التي يعاني منها الناس.
هذا الشعب لا يولي اهتماما للفصل 80 من الدستور وللأمر الرئاسي 117 وللتهديدات المتعلقة بالهوية وكذلك للفساد وللبرلمان ولفلسطين وإلى ما إذا كان عيد الثورة يوم 17 ديسمبر أو 14 جانفي.
السياسي، رجلا كان أو امرأة، الذي يقترح حلولا ملموسة لأزمة الفضلات في صفاقس هو أفضل آلاف المرات وأنجع وأقرب للناس من كل ما ينطق به لسان قيس سعيّد.
لأن سياسيينا لا يقدّمون بدائل عملية، يبقى قيس سعيّد في صدارة نتائج سبر الآراء .. لكن ليس لفترة طويلة .. الغضب الشعبي قائم وسيتسبب في عزله .. غير أنه لا يتوفّر لدينا إلى غاية الآن سياسي حقيقي محنّك لتعويضه.
تعليقك
Commentaires