عندما ينتفض كبيرهم الذي علّمهم …السياسة..
هو سحر السلطة وسحر الحكم.. سحر القيادة وكيف تكون مسالما بيد من حديد.. كيف تقود الناس وعلى شفتك ابتسامة تخفي سكّينا حادّا تضرب به كلّ من أراد أن يرى فيك عيبا.. هو سحر عبارة فتحت أمام هذا الكبير طريقا توصله مباشرة إلى حكام أوربا وأمريكا من غير تأشيرة.. هو سحر من جلس على عنقك وكمد نفس الحريّة فيك ليخطب بين الناس أنّه : الرحيم، الملك، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، القهار، القابض، الباسط، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، الكبير، الجليل، الجميل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحليم، الودود، المجيد، الحق، الوكيل، القوي....
تلك هي الصفات التي تذكّرتها وأنا أشاهد مشهدا من مشاهد الحشر يوم أمس تحت قبّة هذا المجلس الذي أرانا من العذاب ألوانا والمهازل فنونا ومن الصرعات أنواعا.. وأدركت أنّ كبيرهم بلغ من القوّة والصلف والاعتداد بالنفس ما جعله يعتقد أنّه المالك القهّار، الله في السماء وهو في أرض تونس.. كيف لا وقد حقّق ما عجز عنه إخوانه في مصر وفي المغرب وحتى في السودان؟؟!!! كيف لا وقد عُهدت إليه مسؤولية تضاهي مسؤولية الأنبياء في نشر رسالة مقدّسة؟؟!!! إنّه مسيح الإخوان يا سادتي!! صار يقود النوّاب بالمجلس مثلما يقود " الجمل الأنف" ، جمل خرم أنفه، ووضع فيه القياد ، أي الزمام وقيد به فلا يستطيع أن يخالف قائده..
حضر كبيرهم منذ الصباح وقد تأبّط مشروعا تنقيحيا لقانون الانتخابات.. هو في الحقيقة صكّ يضمن لفرقة الكبير الناجية أن تتكئ على أرائك النيابة هانئة، ويضمن لأتباعهم من بقية الأحزاب الجلوس إليهم .. قدم إلى المجلس وهو مؤمن بأنّه المالك الوحيد لمفاتيحه يفتح أبوابه لمن رضي عنه وسلّم له رقبته.. والجديد هذه المرّة أنّه خرج من وراء ستار الباجي والشاهد ليحكمنا مباشرة ويقرّر مصيرنا بعد أنّ صمّت آذاننا وأبكمت أفواهنا..
تحرّك كبيرهم الذي يراه الكثيرون تنّينا، أجل هو تنّين يخشونه ، مع العلم أنّه يحكم ب 68 نائبا لا غير، ولكنّه روّض من نواب الأحزاب الأخرى من يؤهّله لأن يحكم تونس ويطبّق عليها شهواته ونزواته إلى أجل غير مسمّى. وعزم على أن يضرب الخارجين بيد من حديد.. " واضرب القطوسة تتأدّب العروسة"، وأتى بنصّ تنقيحي لقانون انتخابات كان هو نفسه قد فصّله في المجلس التأسيسي وهو نفسه الذي اختار له هذا المقاس، فإذا به اليوم لا يرضاه لنا لباسا، والسبب واضح جدّا: فجسم الكبير هزل وأَكَله الضعفُ ولم يعد ذاك السمين الممتلئ، أضف إلى أنّ هناك تحوّلات سياسية من نوع رياح شهيلي على شرش بدأت تهبّ على البلاد ليلة الانتخابات..
قرأت بعضا من الفصول التنقيحية، واحترت هل أضحك أم أبكي؟؟ هل أضحك عندما أقف على العبارات التالية: " ترفض هيئة الانتخابات ترشّح كل من يثبت لديها قيامه بخطاب لا يحترم النظام الديمقراطي ومبادئ الدستور والتداول السلمي على السلطة أو يدعو للعنف والتمييز والتباغض بين المواطنين أو يمجد سياسات الدكتاتورية وممارسات إنتهاك حقوق الإنسان والإرهاب أو يهدّد النظام الجمهوري ودعائم دولة القانون".. هل أضحك أمام مصطلحات جوفاء أفرغت من معانيها النبيلة التي نسجت مواثيق دولية؟؟ كيف لي أن أضحك أمام عبارات كرّرها نصّ مصاب بالسكيزوفرينيا؟؟ نصّ لا يمكن أن يصوغه سوى مصاب بالنرجسية: يرى نفسه هو الديموقراطية، واعذروني فقد أضفت ياء للدمقراطية لأنّ ديمقرامقراطيتهم فيها واو ويتلعثمون في نطقها.. مصاب يرى نفسه رمز دولة القانون، وهو المتصرّف فيه..وهو الدستور صاغه وفصّله حسب ذوقه..
لكن الدمع هو الغالب في هذه الحال: أبكي حاضري وقد صار غنيمة وسلبا في يد كبيرهم " صاحب 68 نائبا".. صار الآمر الناهي.. يصول بيننا ويجول بعصاه يؤدّب هذا و يضرب ذاك.. ويوبّخ آخر.. وإذا بهم، أحزابا وسياسيين طائعين وقد ابتلعوا ألسنتهم.. وإن كان لهم أن يتكلّموا فمن خلف حجاب..
أبكي لأنّ صاحب 18 في المائة هو السيد، والإنسان الربّ.. وتحوّلت الديكتاتورية في عهده إلى ديكتاتورية مقدّسة: يحرم نقده.. ويؤدّب من يقف في وجهه.. له من السدنة والفرسان ما لا عين رأت.. بل سرعان ما يهبّ إليه إعلاميون وسياسيون ووزراء وحتى رئيس الحكومة نفسه ملبّين مهلّلين حتى يظفروا بنظرة رضى منه.. كيف لا وحياتهم السياسية كرة بين يديه.. بئس السياسة تلك .. وبئس الحياة هي.. باعوك يا شعب واستهانوا بقدرتك ظنّا منهم أنّك وُئدت وسلبت إرادتك ..فصرت غنيمة الكبير..
أراد كبيرهم أن يلقّن المتنطّع من الشعب درسا في الطاعة الواجبة .. كما أراد أن يهشّ بعصاه كلّ من خرج عن طوعه مثل القروي .. ولا أدري هل تصرّف القروي عن وعي عندما سلك طريقا أخرى توصله إلى السلطة؟ أم ظنّ أنّها سبيل ناجعة إذا واصل ولاءه للكبير ولا بأس من أن يستفيد من طرق أخرى تقصّر المسافة؟.. وهل أدرك خطورة هذه السبيل التي قد توصله إلى الحكم من غير مباركة الشيخ؟؟ ولو تريّث الشيخ لفهم أنّ القروي ليس سوى ذاك العصفور اللين صاحب ريش ناعم، وانّه لن يخرج عن جاذبيته، وآجلا أم عاجلا سيعود إليه طائعا.. لكن ، للشيخ من الحكمة ما لا يحمله عقل غيره: وحكمته تشترط أن يكون المحظوظ بالرئاسة قد نعم بمباركة الشيخ منذ أن بدأ يفكّر في الترشّح، بل عليه أن ينتظر إشارة المباركة منه، خذ مثال كمال مرجان، فهو ينتظر في أمن وأمان مباركة الشيخ، ولن يقلقه طول صمته بل ولن يزعجه إن رفض تودّده أو طلبه، وتلك أهمّ علامة من علامات الطاعة لولي الأمر..
ويئس الشيخ من ترويض عبير موسي، خاصّة بعد أن أرسل إليها إشارات وشفرات توحي باستلطافها، وتلك لعمري سياسته التقليدية مع جلّ الأحزاب.. لكنّها امرأة فهمت اللعبة وأدركت أنّ كلّ اقتراب من الشيخ هو نذير باحتراقها بالنار وسريعا.. فحبه كالجمر الذي يحرق حتى وإن كان من تحت الرماد.. ولا أبالغ ، فلَكُم في المرزوقي خير دليل وفي الباجي اقوى شاهد بيننا إلى اليوم.. وغيرهما من السياسيين ضحايا الكبير وقد أحرقهم في لحظات .. والشاهد يسير حثيثا في طريق ظفره بقبلة الموت..
واليوم أدرك كبيرهم أنّنا لم نمت بعد، بل وحتى "المضمون" من الشعب بدأ ينسلّ من جبّته.. لكن، هل فهم أيضا أنّنا نعيش على حافّة السقوط؟؟ وأنّ كلّ محاولة ستأخذنا مباشرة إلى حلبة المواجهة؟ ولا أدري إن كان لي أن أسمّيها حربا أهلية! فهل يمتلك الكبير وبقية الأحزاب فعلا جسما انتخابيا له من القدرة أن يواجه جسم الشعب الذي ملّ سياسة النفاق وأكل الأرزاق وكرهها.. جسم جمع شتاته من طبقاته الاجتماعية التي أكلها الفقر والجوع.. والشعب الجائع يصير مثل الحيوان الشرس.. لأنّ قضيته هي قضية حياة أو موت..
ملاحظة أخيرة أختم بها مقالي: بما أنّ الكبير وجماعته أخضعوا القانون الانتخابي للمزايدات فما هو رأيهم عندما نعلمهم أنّ الشعب التونسي عازم على إضافة فصل " يمنع من الترشّح إلى الانتخابات التشريعية والرئاسية كلّ من لحقته تهمة الإرهاب أو قتل الشهدين، وكلّ من اتهم بتسفير الشباب إلى سوريا، ويمنع من الترشّح كلّ من اتهم بامتلاكه لجهاز سرّي" ؟ ألا يكون هذا الفصل أوكد الفصول التي يجب أن تضاف؟؟؟
لكن كما قال أجدادنا: ما أخيبك يا صنعتي عند غيري .. والجمل ما يراش حدبتو
تعليقك
Commentaires