قيس سعيّد – هشام المشّيشي: صراع الشرعيّة الشعبيّة والشرعيّة البرلمانيّة
عندما سقطت حكومة الحبيب الجملي، إستعاد قيس سعيّد بغموضه المبادرة السياسيّة في تسيّد المشهد السياسي، مُعتقدا أنّ حُلمه في الإمساك بدوالب الدّولة قد تحقّق، ولأنّه كان بصدد تلمّس السياسة التي لم يمارسها من قبل، فقد وقع تحت جاذبيّة المتمرّد على المرحوم الباجي قايد السبسي، فنجح يوسف الشاهد المخذول من الدولة العميقة في إقناع قيس سعيّد بإختيار إلياس الفخفاخ رئيسا للحكومة، وكان الفخفاخ طيّعا بين يدي قيّس سعيّد منضبطا لتعليماته في تشكيل الحزام السياسي للحكومة مُقصيا لقلب تونس والحزب الدستوري، ولم يكد يجري ماء كثير تحت الجسر حتى سقطت حكومة إلياس الفخفاخ عبر تحالف مُعلن بين حركة النهضة وقلب تونس وإئتلاف الكرامة، لكن قيس سعيد خطف السقوط فجرا ليُرغم هذا التحالف على الرضوخ لمشيئته مجدّدا، فاختار لهم هشام المشّيشي رئيس حكومة الذي كان قد سلب لبّه حين عيّنه ذات يوم مستشارا قانونيّا في القصر لمدّة أسبوعين لا غير.
لم ينضبط هشام المشيشي منذ البداية لتعليمات قيّس سعيّد، ففتح باب المشاورات مع الجميع دون إقصاء لأي طرف، ووجد نفسه بين ضغطين: ضغط القصر وضغط الحزام السياسي، فاختار أن يشكّل حكومة تكنوقراط لينال القصر فيها ثُلث الوزراء، ونال الثقة بوعود بعديّة قدّمها لذلك التحالف الثلاثي بين النهضة وقلب تونس والإئتلاف، وابتعد قليلا عن رؤية الكتلة الديمقراطيّة، في حين ظلّت كتلة عبير موسي تراقب المشهد، وحين تسرّبت وعود المشيشي للثلاثي لقصر قرطاج قبل حتّى منح الثقة بدأت ملامح القطيعة تظهر بين القصبة وقرطاج، فسارع الرئيس قيس سعيّد في أوّل لقاء لتأديب هشام المشيشي علنيّة رافضا أي تحوير حكومي، وزاد على ذلك بإستقبالاته للوزراء المحسوبين على القصر وتجاهله لرئيس الحكومة.
كان قيس سعيّد ينتظر من هشام المشيشي كي يكون ذراعه الحكوميّة بما يوازي منزلة وزير أول وليس رئيس حكومة له كامل الصلاحيات في التسيير والتعيين، ولم يكن قيس سعيّد راضيا على مختلف التعيينات في القصبة والوزارات والدّواوين، وخلال هذا الأسبوع كانت القطيعة المعلنة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، أعلنها الرئيس بلقاء المُعلّم مع تلميذه تأنيبا وتأديبا بشكل مهين لهيبة الدّولة وهيبة رئيس الحكومة، وهذا الأخير لم يتأخّر في الردّ على ذلك الدّرس بالبحث عن صلاحياته في علاقة بالوزراء والزيادة في رواتب الولاة والإذن للوزراء في مقابلة الرئيس وكتابة تقرير عن تلك الزيارة، ثم أشفع تلك القرارات باللقاء المسائي مع حزامه السياسي المفترض: النهضة وقلب تونس وإئتلاف الكرامة، بل كان هذا اللقاء إستفزازيّا للقصر حين حضره أنور معروف صاحب فضيحة حادث السيارة الإداريّة التي تدخّل القصر في مسار منع طمسها.
إن حكومة هشام المشيشي هي حكومة يوسف الشاهد الثانية، مشهد عشناه لخصومة القصر مع القصبة لعبت فيه حركة النّهضة الدور المركزي للمحافظة على وجودها في الحكم، وقد وجد الباجي قايد السبسي بخبرته السياسيّة نفسه عاجزا عن الفعل السياسي، لكنّ مشهد وفاته وحيدا منبوذا كان الجرح النازف في شعبيّة يوسف الشاهد وحتى حركة النهضة، فقضى على يوسف الشاهد سياسيّا وهو في قبره، وأنهك حركة النهضة بوسم الخديعة والغدر، ولم تكن مسألة تضارب المصالح لحكومة الفخفاخ بالنسبة لحركة النهضة سوى ذريعة لإقصاء الكتلة الديمقراطية بوزن خمسة وزراء لهم القدرة على الشراكة في الحكم وليس التبعيّة، فالنهضة تريد الوكلاء ولا تريد الشركاء، وقد وجد هشام المشيشي في حركة النهضة وتوابعها سندا سياسيّا ليحفظ هيبته على أن يكون دمية في يد قصر قرطاج، ولم تستطع حركته في إعلان القطيعة مع الرئيس لمنحه شعبيّة بين النّاس سوى الإئتلاف الثلاثي المعادي لقيس سعيّد، وفي المقابل سيجد قيّس سعيد في تأويله للدستور بغياب المحكمة الدستورية مجالا رحبا لتوسيع صلاحياته والتدخّل في الشأن الحكومي بين الحين والحين..
ليس لقيس سعيّد مشروع سياسيّ كما يدّعي، ولا أحد يستطيع أن يتكهّن بردّة فعله بتأويله الدستوري، وغياب التجربة السياسيّة لديه تجعله يأتي الفعل ونقيضه في اليوم الواحد، لكنّ الثابت أنّ "طهارته ونظافة يده" حافظت على شعبيته رغم تعدّد الأعداء والهجمات اليوميّة على ممارسته السياسيّة العبثيّة، وما حصل مع حكومة الفخفاخ أو حكومة المشّيشي يتحمّل مسؤوليته وحده، فهما من إختياره، ففي المحطّة الأولى ووسط تلك الترشيحات الحزبيّة، كان العقلاء يرون في شخصيّة حكيم بن حمّودة رجل المرحلة بإمتياز لما له من خبرة إقتصاديّة وكونه مثقّفا صاحب تأليفات فكرية وإقتصاديّة إجتماعيّة تجعله صاحب مشروع نهوض بالبلاد، لكنّ قيس سعيّد كان يدرك قوّة شخصيّة حكيم بن حمودة ما يمنعه من السيطرة عليه من طرف القصر أو من طرف التحالف الثلاثي، ولذلك صرف النظر عن حكيم بن حمودة ليختار إلياس الفخفاخ ممكنا للسيطرة والتوجيه.
حدثت القطيعة بين قرطاج والقصبة ليستفيد قصر باردو وشيخه، وسيكون الإختبار الحقيقي في التحوير الحكومي الذي يطالب به التحالف الثلاثي، وسيتجلّى أكثر في التعيينات في المناصب العليا للدولة وفي الولاة والمعتمدين، وقد تتحوّل القطيعة إلى صراع مكشوف، فندخل في لعبة التأويل الدستوري للصلاحيات مجدّدا في غياب المحكمة الدستوريّة، هذا بمشروعيّة شعبيّة وذاك بمشروعيّة سياسيّة، وكلّما إشتدّ الصراع تعطّلت دواليب الدولة وتعطّلت مصالح النّاس، لأنّ النظام السياسي في تونس قسّم الصلاحيات بالتوازي بين السلط الثلاثة، ثم قسّم السلطة التنفيذيّة بالتساوي بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، لتلعب الهيئات الدستورية دور التعديل والتحكيم، وكل تنافر بين هذه السلط والهيئات يُضعف الدّولة ويدخلها في حالة تشنّج سينعكس بالضرورة على الوضع الإقتصادي والإجتماعي..
يبدو المشهد السياسي غائما ينخره الصّراع بين المشروعيّة الشعبيّة والمشروعيّة البرلمانيّة، تحاصره جائحة الكورونا لتفتك بالفقراء والأجراء، تُغيّم عليه أزمة إقتصاديّة خانقة لتعطّل الإنتاج وتضرب الإستثمار، وتهدم كل القيم في التربية والتعليم والعمل والأمن.. وهي نظرة متشائمة تصنعها النخبة السياسيّة بصراعها العبثيّ ليكتوي بها شعب صار يرفض مفهوم "الإنتقال الديمقراطي" وطول مساره إلى ما لا نهاية له..
تعليقك
Commentaires