هيت لكم
هيت لكم بعد أن تربّعتم على التشريعية.. وليس من حقّي التشكيك أو التنكيل.. بل وعليّ أن أثق في القضاء وأنتظر قوله الفصل.. لأنّ الثقة في القضاء قدري وليس لي حلّ غيره.. وعليّ أن أصبر وإن كان خيط الأمل ضعيف..
هيت لكم جزاء انضباطكم.. وإن خرج أحدكم عن الصفّ أُفرِد إفراد البعير، وظلّ مثل السائبة تطلب العفو ولا من شفيع.. أنتم اليوم تحصدون ثمار سياستكم ورؤية أولياء أمركم.. فالمجادل منك مذموم مدحور والمستنكر مقصيّ.. ولا قول سوى قول مريدكم..
هيت لكم.. لأنّنا رغم غالبيتنا نتفرّد بالتميّز والاختلاف.. لأنّ كلّ واحد منّا يرى نفسه الأعلم والأنضج والأذكى.. وقف زعماؤنا كلّ على ربوته يناجي اتباعه ويستمع إلى صوته في شغف ، فتفرّقنا إلى شظايا تناثرت هنا وهناك.. والشعب ينظر ولا يفهم شيئا، ولم يدرك سوى أنّ عليه الانتظام إلى هذا أو ذاك..
هيت لكم بعد سنوات انقسمنا فيها انقساما، وبعد أن ارتاح زعماؤنا إلى أنّ أفضل السبل الانغلاق بين جدران نزل فخمة والحديث إلى من ينتشي بأصواتهم الرنّانة.. وفي الأثناء كان شبابنا المعطّل عرضة للعواصف بعد أن تحطّم مركب نجاته وخشي على نفسه الموت والاضمحلال.. وفي الأثناء هيت لكم لأنّكم أدركتم ما يجب فعله فأرسلتم إليهم رسلكم في قناع المنقذ والنبيّ المنتظر.. واليوم بعد أن ذاق مناضلونا الفشل اقتنعوا أنّ ذاك الشباب المهمّش تحوّل إلى هامَّةٍ لها القدرة على أن تدوس الأخضر واليابس.. لكن هيهات فاقتناعهم أتى متأخّرا .. فلا نجاة ، لأنّ طوفان الأنانية وحبّ الذات غمر الجميع .
التفتُّ حولي لأرصد هؤلاء الزعماء والزعيمات.. وناديتهم.. فلا مجيب.. بل اضمحلّ وجودهم من قنوات التواصل وتركوا من صدّقوهم في مهبّ رياح الفشل.. يبحثون بين أطلال الدمار عن قشّة تنبئ بأنّهم على قيد الحياة لكن لا مجيب..
واليوم، وبعد ما أدركناه من دمار.. أقول لإخوان : فعلا هيت لكم.. وأقول إلى القليل ممّن ما زال يصنّف نفسه وسطيّا أو حداثيا.. وأمسك بشقف من المركب: إن بقي فيكم شريان ينبض بدم الحياة فرجاء قولوا لهم: هيت لكم.. وانسحبوا من ساحات القرار.. اتركوهم يحكمون هذا الشعب لوحدهم بجميع أطيافهم.. لا تنتصبوا حجابا بينهم وبين من اختارهم .. ولا تكونوا شمّاعة يعلّقون عليها أخطاءهم وفشلهم.. فأُنثى العنكبوت تقتل الذكر بعد أن تنجب.. تعلّموا الصبر على النار ، لأنّ الشعوب لا تقتنع بمن يسعى لحمايتها وحفظها من الخيبات، ولا تعتبر سوى من تجاربها وخيباتها ونجاحاتها.. تنازلوا عن كرسيّ الوَلاية ..
كم صدعوا رؤوسنا بأنّهم الأفضل والأتقى.. وكم سوّقوا لهذا الشعب أنّنا نسعى إلى تضليلهم.. وعلينا في هذه اللحظة أن نعترف بأنّ نصيبنا في دفعهم إلى الإخوان كبير.. لأنّ الكثير منّا ترفّع عن مخاطبة هذا الشعب.. والكثير منّا خشي مواجهة الشعب بأسئلته الحائرة.. وأنّ الكثير منّا اغتنم تموقعه في السلطة لينآى عن مخالفيه ويقصيهم ويمدّ يده إلى الإخوان وهو يتغنّى بأنشودة التغيير، وتحوّلهم من ذئاب إلى ملائكة وديعة.. واليوم أرنو إلى معرفة شعورهم عندما تحدّث شيخهم عن تسلّله إلى حزب النداء مكرها حتى يستطيع تحطيمه من الداخل..
إذن كفاكم سذاجة و ارموا بخيط الطمع جانبا.. ولتكن لكم القدرة على أن تتركوهم يحكمون لوحدهم.. مثلما تركتم شعبكم فريسة لمسلّماتهم.. وأنا على يقين أنّ المدّة لن تطول لأنّنا في أسوإ حال، ولأنّ هذا الشعب قد عيل صبره، وإذا حاسب فسيكون قاسيا..
عليكم بفترة هدنة ومراجعة.. عليكم إن كنتم صادقين مع هذا الشعب أن ينزل كلّ واحد منكم من برجه العاجي، ويقبل بالنقد والتوجيه.. عليكم بالنضج ورمي الصبيانيات وراء أظهركم.. وأن تدركوا في الأخير أن لا نجاة لتونس إلاّ إذا تواضعتم و دفنتم أسلحتكم الحادّة في الأرض، وقبلتم بالنقد واستمعتم إلى النصيحة.. وإن صرخنا سابقا فلأنّنا كنّا على يقين بأنّ هذا اليوم قادم، وعند قدومه فلن ينجو أحد من الطوفان.. اخرجوا إلى الشارع و لا تخيفكم احتجاجات الناس ونقدهم، لأنّ ذاك هو الدواء للجرح الذي صار يفرّق بينكم.. انغرسوا في تونس العميقة لتدركوا كم إنّ هذا الشعب طيّب ويطمح إلى النصيحة والتوجيه..
فأن تقولوا لهم: هيت لكم، هو ضرب من النضال.. لأنّكم اخترتم سياسة إفراغ الساحة وتركهم يلعبون لوحدهم.. ولكن لا يعني هذا الرأي أنّنا سنلتزم بالصمت بل علينا أن نراقبهم ، وأن ننبّه الشعب لما يفعلون.. أي أن لا ننزع عن أنفسنا عقدة الخوف من الحديث إلى الناس.. وتأكدوا : لا يوجد ألذّ من الحديث العفوي إلى أناس لا تعرفهم، لأنّ الهواجس هي نفسها، و ستنحصر مهمّتك في توعية هؤلاء لا أكثر ولا أقلّ.
ولنقتنع أنّ النضال ثماره بطيئة النضج، بل قد يجنيها أبناؤنا أو أحفادنا، خاصّة إذا كان هذا النضال ضدّ من اتخذ التدين جبّته، لأنّه استعمار يمتلك الأفكار والأعين و يشلّ حركة الأيدي والألسن.. وخاصّة إذا كان الخصم لا يتحرّج من تغيير اللباس ، خصم يتّخذ الجبّة والعمامة لباسا للتقوى حينا والبدلة أو "الشورط" حينا آخر.. فهذا يسمّى " زاوق"، وعلينا أن نتحلّى بالصبر..
نحن نشبه في نضالنا طائر الفينيق.. فمن اختار هذا النهج فمرحبا به، ومن كان له رأي غيره وسياسة أخرى فليختر منهجا آخر.. وليذهب إلى الجحيم بما أنّ أبوابه قد فتحت..
تعليقك
Commentaires