alexametrics
أفكار

حسابات السياسة و انتظارات التونسيين

مدّة القراءة : 6 دقيقة
حسابات السياسة و انتظارات التونسيين

 

 

"...وفقنا الله جميعا على حمل الأمانة وأوزارها وتحمل المسؤولية كاملة بأعبائها وأثقالها حتى نفتح معا أمام شعبنا آفاقا أرحب لتحقيق مطالبه في الشغل والعدل والحرية والكرامة الوطنية."

 

لا يساورني شك في أن رئيس الجمهورية قيس سعيد قد حرص شخصيا على إيلاء نفس العناية والإهتمام إلى مضمون رسالة التكليف التي سلمها إلى السيد محمد الحبيب الجملي للشروع في تشكيل الحكومة وشكلها. 

 

فعلى مستوى الشكل، أحدثت الرسالة سابقة في تاريخ تونس من حيث أنها صِيغت بخط يد الرئيس، فكشفت لنا أن الأستاذ سعيد يتحلى بمواهب إبداعية حقيقية في كتابة الخط العربي المغربي، وهو ليس فقط رجل يُتقن التخاطب بلغة الضاد ويتفنن في ذلك، بل يحرص في صياغتها على ترسيخ جمالية الحروف ودمجها مع العناصر التعبيرية حتى تكون الرسالة في مستوى النبرة والدلالات المراد إيصالها للمتلقي.

 

أما على مستوى المضمون، فقد حملت الرسالة، سيما في فقرتها الأخيرة، ألفاظا مهيبة منتقاة بكل عناية للتعبير عن الهواجس والهموم التي تثقل كاهل الرئيس وعموم التونسيين و تؤرقهم مثل "أمانة، مسؤولية، أوزار، أعباء، أثقال، مطالب، شغل، عدل، حرية، كرامة…"، حيث أراد الرئيس بذلك تحديد الوجهة الرئيسية التي يتعين على الحكومة انتهاجها وحجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها والأهداف المرجوة منها.

 

وليس من باب الصدفة استعمال الرئيس ثلاث ألفاظ مترادفة  في جملة واحدة " أوزار، أعباء، أثقال" للتأكيد على دقة المرحلة العصيبة التي تعيشها البلاد وتعاني منها معظم شرائح المجتمع في كافة الجهات. 

 

ويُفهم من هذه الكلمات الشديدة في مضمونها وفي وقعها على النفس أن الرئيس أراد توجيه رسالة قوية، ليس فقط إلى رئيس الحكومة المكلف والجهة التي أوكلت له هذه المهمة، بل أيضا إلى ناخبيه وإلى التونسيين جميعا مفادها أنه وفيٌّ لـ"لأمانة" التي حمّلَها له الناخبون يوم 13 اكتوبر ومتمسك بها كالقابض على الجمر، وهو غير معني بالمرة بالتجاذبات الحزبية ومساومات الكواليس التي أحاطت باختيار المرشح المكلف بتشكيل الحكومة، وأن ما يهمه من العملية السياسية برمتها وما ينتظره من الحكومة المقبلة هو تحمل تلك الحكومة المسؤولية كاملة لتحقيق مطالب الشعب في الشغل والعدل والحرية والكرامة الوطنية. 

 

ويبدو أن في ذلك نأيًا بالنفس من جانب رئيس الجمهورية عن التقلبات الحزبية والتحالفات الغريبة وغير المنسجمة التي شاهدناها خلال جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب ومساعديْه.

 

ولم يعد خافيا أن الرئيس سعيّد يريد، على الأقل خلال فترة المشاورات من أجل تشكيل الحكومة، وإلى أن تتجلى ملامح المشهد السياسي العام والتحالفات الحزبية والكتل البرلمانية في مجلس نواب الشعب، الإلتزام بمبدأ ننتظر ونرى wait and see، أي الظهور بمن يقف على نفس المسافة من كافة الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية بعد أن حرص على استقبالها جميعا والإستماع إليها والتشاور معها قبل انعقاد جلسة افتتاح الدورة التشريعية الجديدة.

 

وقد يكون في هذا الموقف لرئيس الجمهورية بعض الحكمة والصواب شرط أن يكون الأستاذ سعيد قد تبلورت لديه خطة بديلة Plan B، وأنه سيضع مع مستشاريه والأطراف السياسية التي يثق بها خلال المهلة الدستورية المحددة لرئيس الحكومة المكلف لإنجاز المهمة، الجدول الزمني والآليات الملائمة لوضع تلك الخطة على الطاولة وتكليف الشخصية الأنسب لتنفيذها، في حال لم يتوفق السيد الحبيب الجملي، لسبب أو لآخر، في تجاوز الصعوبات والعراقيل المحتملة والمؤكدة التي ستوضع في طريقه من أجل إيجاد التوازنات والتوافقات الضرورية لتشكيل حكومة متوائمة ومستقرة تحظى بأوسع حزام سياسي وبرلماني ممكن.

 

رغم ذلك، واعتبارا للمواقف السابقة التي انتقد فيها الأستاذ سعيد تقلبات الساحة السياسية ونظام الأحزاب والمحاصصة في تقاسم السلطة ومراكز النفوذ واعتراضاته على منظومة الحكم التي أفرزها دستور 2014، وبالنظر إلى أن انتخابه من  طرف ثلاثة أرباع الناخبين منحه شرعية سياسية لا يضاهيه فيها أحد في المشهد السياسي وتفويضا شعبيا لكي يكون الكفة التي تعدِّل الميزان عندما يرى أن الأحزاب تجاوزت مداها وفضّلت مصالحها الفئوية على المصلحة الوطنية، وبالنظر إلى أن الأستاذ سعيد أول من يعلم أن المخاض الحزبي الحالي بين حركة النهضة والمتحالفين معها لا يبشر كثيرا بإمكانية تشكيل حكومة متجانسة ومستقرة، وحتى وإن تشكلت تلك الحكومة، فإنها لن تختلف عن سابقاتها في عجزها عن استعادة ثقة التونسيين وتلبية ولو الحد الأدنى من مطالبهم...، فإن كثيرين كانوا ينتظرون من الأستاذ سعيد أن يضرب الحديد وهو ساخن ويخرج على الملأ بعد المشاورات التي أجراها مع كافة الأطراف الممثلة في البرلمان الجديد ليقول بما أن تلك الإنتخابات لم تُفرز أغلبية لأي حزب، فإن تشتت المشهد السياسي يدعونا جميعا وفي أسرع وقت ممكن إلى ترك خلافاتنا الحزبية وطموحاتنا الشخصية جانبا من أجل تشكيل "حكومة إنقاذ وطني" بأغلبية رئاسية لا حزبية ولا فئوية، حكومة قادرة على احتواء الأزمات التي تكبل قدرات البلاد، وبما أنه لا مناص من الحزام السياسي في ظل الدستور الحالي، حكومة يكون دعمها البرلماني من نواب الأحزاب التي دعت إلى التصويت إلى السيد سعيّد في الدور الثاني من الإنتخابات الرئاسية، أي حوالي ثلاثة أرباع أعضاء مجلس النواب الجديد...وهذه ربما الصيغة الأقرب لـ"حكومة الرئيس" التي تحدثت عنها حركة الشعب.

 

لكن هذا لم يحدث، ولم تتعض الأحزاب من خيبات وإخفاقات الماضي واختارت بكل إصرار ومكابرة نفس الطريق الذي سلكته بعد انتخابات 2014، طريق المحاصصة والتوافقات المغشوشة والتحيل على إرادة الناخبين. آنذاك، وفي بداية العهدة التشريعية والرئاسية، كان المرحوم الباجي قايد السبسي ماسكا بعصا قائد الأركسترا وهو المشرف على توزيع الأدوار والضامن لتجانس المواقف عند الإختلاف والتأزم. 

 

أما اليوم، فإن الأستاذ راشد الغنوشي، سيما بعد تحالفه "المفاجئ" مع السيد نبيل القروي من أجل ضمان توليه رئاسة مجلس النواب، هو الذي يسعى إلى أن يكون مركز الثقل الرئيسي في المعادلة السياسية الجديدة في قصر باردو.

 

في الأثناء، تمر الأيام والأسابيع على التونسيين مثقلة بالهموم والهواجس، وتزداد أوضاعهم المعيشية سوءا في ظل حكومة تبذل ما في وسعها للحفاظ على مظاهر "استمرارية الدولة"، لكن لا أحد بوسعه أن ينكر أنها تعيش منذ عدة أشهر فترة نهاية حكم عسيرة، وفي ظل مشهد سياسي وبرلماني متأزم يدور حول نفسه وبقي على ما هو عليه من تجاذبات ومساومات عقيمة، لا بل إن هناك من يرى أن مجلس النواب المتولي سيكون أسوأ بكثير من المجلس المتخلي من حيث حدة التشنج والتعطيل والتشتت.

 

لذا، فإن "الأمانة" التي حمَّلَها رئيس الجمهورية للسيد محمد الحبيب الجملي ثقيلة وفيها كثير من المخاطرة لشخصه وعلى الوضع العام بالبلاد. فالرجل، وبقطع النظر عن ولائه لحركة النهضة من عدمه، ورغم أنه، مثل الأستاذ سعيد، معروف بخصال عدة مثل الأمانة ونظافة اليد والتفاني في العمل، خرج من جلباب الأستاذ الغنوشي مثلما خرج يوسف الشاهد ذات يوم من طربوش الباجي قائد السبسي.

 

كان الرئيس الراحل يعتقد أن ذلك الشاب الهادئ الخجول لن يكون في أروقة القصبة أكثر من وزير أول مجتهد في عمله وفيٍّ لسيده، وأن الحل والربط سيبقى في قصر قرطاج بأيدي الرئيس..وعائلة الرئيس. لكن التناغم بين قرطاج والقصبة لم يعمر طويلا، ودخل الشاهد في صدام مفتوح مع الرئيس ومع العائلة، وتقرر عزله من منصبه. 

 

غير أن الرجل، وبفضل الدعم "المطلق" والمحسوب الذي وجده من حركة النهضة وكتلتها البرلمانية المتماسكة والمنضبطة بعد انهيار وثيقة "قرطاج 2" وما سُمِّيَ "توافق الشيخين" قايد السبسي والغنوشي، لم يرضخ للضغوطات الرهيبة التي تعرض لها، وحافظَ على هدوئه وتماسكه، وأعطى انطباعا للرأي العام أنه ليس مكترثا بالتجاذبات السياسية حوله، وأنه مثابرٌ على العمل من أجل تحقيق الأهداف التي وضعها لحكومته، وأظهر قدرة غير معهودة في المشهد السياسي التونسي على المناورة والثبات.

 

لذلك، فإن أسوأ ما يمكن أن يحدث اليوم للسيد الحبيب الجملي هو الوقوع في فخ الحسابات الفئوية التي وقع فيها السيد يوسف الشاهد، فَيَنْسَاقَ وراء لعبة المحاصصة ويشكلَ حكومة على أساس تقاسم المناصب والصلاحيات، فتظل مؤسسات الحكم تعمل بمعزل عن بعضها وتكتفي بالشكليات التي تُغالطُ بها التونسيين، ويتواصل توظيف مؤسسات وأجهزة الدولة مثل الأمن والقضاء والإعلام...لتصفية حسابات خاصة أو لتحقيق أهداف وطموحات شخصية أو حزبية، وتكون التعيينات على أساس الولاءات بقطع النظر عن الكفاءة والخبرة والأهداف المُنجَزة، ولن يستكمل البرلمان الجديد إقرار المؤسسات الدستورية لأنها ستظل خاضعة للتجاذبات والمساومات، ولا يبدأ العمل جديا على إصلاح النواقص والخلل الموجود في دستور 2014 وفي القانون الانتخابي وقانون الأحزاب، ويتم توظيف التوترات الاجتماعية والنقابية لتكون أداة للمواجهة بين الفرقاء السياسيين، وتبقى دار لقمان على حالها، فيتواصل انزلاق العملة الوطنية ولهيب الأسعار والضرائب وانتشار التسيب والإهمال واهتراء البنية التحتية وابتزاز الفقراء والمهمشين وإهمال الشباب.. وفقدان الثقة والأمل في كل شيء في هذا الوطن.

 

إن فرصة النجاح أمام السيد محمد الحبيب الجملي في تشكيل حكومة منسجمة ومستقرة، رغم أنها ضعيفة ورغم الصعوبات الجمة المنتظرة، تبقى قائمة، شرط أن يلتزم الرجل ببعض الخيارات التي تقيه شر الضغوطات الحزبية والابتزاز السياسي على أساس المقولة الشهيرة "ربي احمني من أصدقائي، أما خصومي فأنا أتكفل بهم". 

 

فلا يجب أن يتجاوز عدد أعضاء فريقه في أقصى الحالات 25 وزيرا غير متحزب يتم تعيينهم على أساس عقد أهداف قابلة للإنجاز وفق جدول زمني محدد وموارد مالية وبشرية متفق عليها سلفا، مع إلغاء وظيفة كتاب الدولة نهائيا وتعيين خمسة نواب لرئيس الحكومة من أهل الإختصاص والكفاءة يكون كل واحد منهم مسؤولا عن قطب وزاري وذلك من أجل إضفاء التكامل والنجاعة على العمل الحكومي وتجميع الموارد المالية والبشرية وترشيد الإنفاق: 

 

(1-القطب التنموي: الإقتصاد،المالية الصناعة، التكنولوجيا، الإستثمار، البنى التحتية، السياحة، النقل، مؤسسات القطاع العمومي...2-القطب الفلاحي: الموارد المائية، الصيد البحري، البيئة، الأمن الغذائي والمائي، تربية الماشية، الاستثمار الفلاحي… 3-القطب التربوي: التعليم بمختلف مستوياته، البحث العلمي، الإقتصاد الرقمي، الشباب، الثقافة، رعاية الطفولة، الرياضة...4- قطب الصحة: الصحة، الخدمات الاجتماعية، التأمينات، شؤون المرأة والأسرة، رعاية المسنين...5- القطب الدبلوماسي: الخارجية والعلاقات الدولية، التونسيين بالخارج، الإستثمار الخارجي، التصدير…). 

 

إنه لا خيار اليوم أمام جميع الفاعلين في المشهد السياسي، وعلى رأسهم حركة النهضة ورئيسها السيد راشد الغنوشي وهو اليوم رئيس السلطة التشريعية والمؤتمن على حسن سير العمل البرلماني، سوى أن تكون الحكومة المقبلة مهما كان مسماها ومهما كانت تركيبتها حكومة إنقاذ غير متحزبة، تعمل وفق خطة طوارئ وأهداف وموارد محددة على "تحقيق مطالب التونسيين في الشغل والعدل والحرية والكرامة الوطنية"، مثلما دعا رئيس الجمهورية رئيسها المكلف المقترح من الحركة، وإلا فإنه السقوط، سقوطنا جميعا في الدرك الأسفل من المجهول.

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter