الأمن القوميّ الصحّي ليس شعارا !
بقلم : عفاف داود رئيسة المجلس الوطني لحزب التكتل
"سنعوّل على أنفسنا !"، هكذا أجاب وزير الصحة عن سؤال كان قد وجّهه له أحد الصحفيّين على خلفية القرار المتعلق بالمغادرة النهائية الذي إتّخذته ثلاثة مخابر أدوية كبرى لبلدنا.
وقبل الوقوف على مدى جاهزية حكومة قيس سعيد لـ "التعويل على نفسها"، ينبغي أن ندرك أوّلا لماذا غادرت هذه المخابر السوق التونسيّة بعد أن إستثمرت لعقود في شراكات تصنيع وتوزيع مع شركات تونسية ومع العلم أنّها تُزوّد السوق بأدوية حيوية لا يمكن التخلّي عنها !
السبب الأساسي للمغادرة هو عدم سداد مستحقات هذه المخابر من طرف الصيدلية المركزية، حجم ديون الصيدلية المركزية لدى شركات الأدوية تجاوز الـ 700 مليون دينار وآجال السداد وصلت لـ 14 شهرا في حين أنّ الآجال التعاقدية محدّدة بـ 6 أشهر فقط.
ديون الصيدلية المركزية ليست ناجمة عن خلل في حساباتها، فهي نظريّا تُحقّق أرباحا. إذ تبلغ ديون الصندوق الوطني للتأمين على المرض والمستشفيات العمومية المستحقة لفائدة الصيدلية المركزية حوالي 1200 مليون دينارا متجاوزة ديون الصيدلية المركزية المستحقة لمزوّديها (700 مليون دينارا).
وإذا تعمقنا في البحث في الأسباب الهيكلية نجدها متعلقة بديون صندوقي التقاعد لدى صندوق التأمين على المرض والتي تقدر بـ 5 مليار دينار بعنوان سنة 2021. السبب الحقيقي إذا، والذي لن يحل باجتماعات التسوّل والترقيع ولا بالخطب الإنشائية، هو العجز الهيكلي لمنظومة الضمان الاجتماعي.
لنسأل أنفسنا الآن : هل من المنطقي أن تدفع الصيدلية المركزية ومن ورائها المنظومة الصحية ثمن هذا العجز ؟!! تلعب الصيدلية دورا مركزيا في المنظومة الصحية، فهي المزوّد الوحيد للمستشفيات العمومية وهي التي تدعم مباشرة عددا من الأدوية الحياتية في القطاع الخاص محافظة على المقدرة الشرائية للمواطنين ومساهمة في ديمومة منظومة التأمين على المرض. تقوم الصيدلية المركزية بهذه الأدوار محافظة على توازناتها المالية على عكس عدد من الشركات العمومية الأخرى.
الدور الإستراتيجي للصيدلية المركزية مرتبط عضويا بالدور الاستراتيجي للدولة في ضمان أمننا الصحيّ، وينبغي أن تتحلّى حكومة سعيد بالشجاعة والإرادة السياسيّة لاعتبار حمايتها وديمومتها أولوية بدل التعامل معها كمتغير لتعديل الميزانية وتقديم أرقام مغلوطة في عجز الميزانية العمومية.
الحل يكون على مرحلتين :
- عاجلا، تتكفل الدولة بسداد مستحقات الصيدلية المركزية وتقوم لاحقا باسترجاعها من صندوق التأمين على المرض والمستشفيات. بهذه الصورة، تبقى المديونية في ميزانية الدولة مع تحرير يد الصيدلية المركزية واسترجاع الثقة مع شركائها للقيام بدورها في تزويد السوق التونسية بالأدوية والحفاظ على صحة المواطنات والمواطنين وتفادي التداعيات الصحية والاقتصادية الناجمة عن انقطاع الأدوية وعدم توفر العلاج المناسب في الوقت المناسب.
- وضع الآليات اللازمة لتفادي تكرار هذا الانحراف وأهمها تعهد الدولة بسداد مستحقات الصيدلية المركزية عند نهاية كل سنة محاسباتية للحفاظ على ديمومتها واستمرار دورها. إضافة إلى ذلك، بالإمكان اعتماد جملة من الإجراءات كتحديد سعر صرف مرجعي للدينار مقابل العملات الأجنبية تقوم الصيدلية المركزية بالشراء على أساسه واعتماد حقية الأسعار للأدوية غير الأساسية وغير الحياتية (حسب تصنيف الصندوق الوطني للتأمين على المرض) أو الأدوية التي لديها مثيل مصنع محليا ويتكفل بمصاريفه الصندوق الوطني للتأمين على المرض. بالإمكان كذلك فتح المجال أمام خطوط تمويل من القطاع البنكي مع ضمان الدولة.
يحتاج تطبيق هذه الحلول والإجراءات إلى تحكيمات داخل ميزانية الدولة وحسب أولوياتها. تقع المسؤولية إذا مباشرة على صاحب القرار الفعلي، أي قيس سعيد، ولا حاجة لإضاعة الوقت في اجتماعات بين وزراء لا يملكون من القرار شيئا ولا في خطب فيسبوكية جوفاء من طرف من يملك كل السلطات.
على المسؤولين على هذه المنظومة أن ينتهوا عن التصريحات المخاتلة والمكابرة، فقد إنقضت سنة بالتمام والكمال على أزمة الكورونا ولم نرى أيّ تصوّر أو حتّى بداية حلّ هيكليّ أو ماليّ لديون الصيدلية المركزية رغم كونه ملفا حارقا وعاجلا يهمّ الأمن القوميّ الصحيّ التونسيّ.
أين بوادر "التعويل على النفس" في برنامج الوزارة ؟ ألم يتبيّن لنا بما لا يدع مجالا للريبة أنّ المنظومة الصحية هي ركن من أركان الدولة ؟ ألم تكشف لنا جائحة الكوفيد-19 مدى هوان مرافقنا الصحية وكمّ المعاناة التي يتكبّدها الإطار الصحي والمواطن جرّاء سنوات من اللامبالاة والتسيّب ؟! كيف السبيل في "التعويل على النفس" وأطبّاؤنا الشبان يغادرون أرض الوطن بالمئات نحو دول تدرك قيمتهم العلمية والإنسانية !
ثم لنفترض جدلا أنّ تونس ستكون أول دولة في التاريخ تصنّع كل أدويتها محليّا، وهو الشيئ الذي لم تقدر على فعله ألمانيا وسويسرا والمملكة المتحدة على إعتبار أنّها دول كبرى وتمتلك منظومات صحية ناجعة، كيف ستكون الخطوط العريضة لخطّة منح تراخيص الترويج للأدوية التي ستسدّ الفراغ الذي تركته المخابر المغادرة ؟ وعلى فرضيّة أن مصنّعي هذه الأدوية جاهزون حالا، وهو في الحقيقة أمر يتطلّب سنوات من البحث والتطوير، فإنّ معدّل الفترة الزمنية اللازمة لمنح رخصة ترويج لدواء ما في تونس يقدّر بين سنتين وخمس سنوات وهو تعقيد هيكيلي لم يتمّ فضّه على إمتداد سنة كاملة من الحكم كي نعطي لأنفسنا فرصة للتعويل على أنفسنا !
إحدى الحلول البديهية والمتّفق حولها هي إنشاء وكالة تونسية للأدوية ولجنة خاصة بالأسعار، لكنها لا تزال تائهة بين أروقة وزارة الصحة ووزارة التجارة، بل بلغ بنا الأمر حدّ الترشح لاحتضان الوكالة الإفريقية للأدوية في حين أننا لم ننجح إلى الآن في تركيز الوكالة التونسية. المسألة تحتاج مرسوما من صاحب كل السلطات فلم لم يمضه بدل استدعاء الوزير لمهرجان خطابي وتعويم المسألة.
التعويل على النفس يعني أيضا الاهتمام بمشاكل المصنعين المحليين. إذ يعاني قطاع تصنيع الأدوية محليا من تحديات جمّة أهمّها الارتفاع الجنوني في تكلفة المواد الأولية (+130 بالمائة في جويلية 2021) والنقل الجوي والبحري وأسعار الطاقة الجديدة التي أقرتها حكومة سعيد، فمتى سنعوّل على أنفسنا لمرافقة المصنّعين المحليّين لتجاوز هذه المصاعب ؟
من يعجز عن مجابهة مثل هذه الملفّات الحارقة لا يمكن التعويل عليه، ولا شيء يحمل المواطن على تصديقه حين يطلق شعارا يبدو في ظاهره جريئا ولكن في باطنه لا يعدو على أن يكون إستعراضا وبيعا للوهم في عصر أصبحت فيه الشعبوية تغشى كل الساحات وتعتلي كل المنابر.
تعليقك
Commentaires