جانفي الغضب: "الجزاء من جنس السياسات" ومن شابه نخبه السياسيّة فما ظلم
بقلم: خليفة شوشان
إذا كانت لغة خطاب "سقط المتاع" من السياسيين وحثالة ما أفرزت ماكينات الدعاية الانتخابيّة الجهنميّة تحت قبّة برلمان الشعب وبرعاية وتحت أنظار رئيسه "شيخ الكذّابين (يسمّون الكذب تكتيكا)" الذي تأخّر شهرين قمريين لإصدار بيان يدين ائتلافه الإرهابي، لغة لم تخرج منذ سنة ونيف عن لغة العنف بكلّ أشكاله وأساليبه الرمزيّة واللفظيّة والجسديّة والتي يعتبرها -ويا لبؤسه وسفاهته- "تدافعا اجتماعيّا" محمودا. فبماذا تنتظرون أن يخاطبكم أبناء الشعب في مدن الداخل المنسيّة وفي أحزمة الفقر والتهميش المدينيّة الذين تلفظهم منظومة التعليم الصدئة وبرامج الدولة الخربة سنويا بمئات الآلاف ليلتحقوا بطوابير المعطّلين ولائم للارهاب والجريمة وادمان كل انواع المخدرات وضحايا لعصابات الهجرة غير النظاميّة!؟
أتراهم يخاطبونكم بلغة حضاريّة ناعمة أو بكرنفالات الخروج في مسيرات رسميّة مرخصة ومؤطّرة نهاريّة على طريقة أعرق الديمقراطيات الغربيّة أو بأسلوب "النخب المخمليّة" حيث توزّع "باقات الورد" على فرق الأمن الجمهوري المحايد والمهنيّ جدا التي تؤطر احتجاجهم بكلّ روح مدنيّة ولما لا يبتسمون لأعوانها المنحدر أغلبهم من مربعات البؤس والتمرّد نفسها؛ المدن الهامشيّة والأحياء الحانقة المحبطة والدواخل الغاضبة اليائسة ويرون في الانتماء إلى الجهاز البوليسي فرصة للتنفيس عن خيباتهم الاجتماعيّة وأحلامهم المبتورة وتصريف فائض العنف الرسمي. أم تراهم يكتفون بقراءة بيانات نقد سياسيّة عقلانيّة على مسامع ممثلي الحكومة مدعّمة بجملة من المقترحات البنّاءة والمطالب الجدّيّة المرتّبة والمبوّبة حسب الأولويات الوطنيّة لحكومة الانجاز المستقلّة بنكهة الوسادة. مطالب لن يكون مصيرها أفضل من مصير عشرات الوعود الانتخابيّة لزمرة المتحيّلين باسم "الاسلام هو الحلّ" و"الحفاظ على النمط" و"تأميم النفط والملح" و"مقاومة الفقر" و"استعادة الجنّة النوفمبريّة" والتي تنسى كأن لم ترفع بعد وصولهم إلى البرلمان ومنه الى كرسي الحكم. أو لنقل مصير عشرات الاتفاقات الوزاريّة الكاذبة التي تلقى في سلّة مهملات الحكومات المتعاقبة التي تتناسل كالفطر بعد أن تتشكّل خلسة في جنح الظلام، وتعلن أيّام العطل عن قائمة نجومها الذي بلغوا في عشريّة واحدة 370 من وزراء الصدفة و"تضارب المصالح" الذي لا همّ لهم إلا خدمة مصالح من رشحهم لمناصبهم؛ رجال أعمال، مهرّبون، متهربون، سياسيون، سفراء ومخابرات أجنبيّة، وكلّ خوفهم أن يفوّتوا على انفسهم فرصة التّوزير لمراكمة الأموال والعلاقات وتحسين "السيرة المهنية" لضمان فرص الانتداب في شركات دوليّة بأجور مجزية، وضمان الخلاص الطبقي والانسلاخ النهائي من مدارات البؤس الاجتماعي التي ينتمي إليها المحتجون والمتصدّون لهم من الأمنيين، والالتحاق بطبقة "الملّاكة" ولو خدما طيّعين لها، (مع استثناء قلّة قليلة من الوزراء الوطنيين الذين لم يعمروا طويلا وانتهوا مقالين او مستقيلين).
لطالما رددتم ومن ورائكم ببغاواتكم ومرتزقتكم من الصفحات المأجورة وإعلام الخدم بعد الانتخابات تبريرا للنفايات النيابيّة التي أفرزتها مقولة "كما يكون الشعب يولّى عليه" وأنّ هذا الحصاد الحزبي والنيابي والحكومي المتحكم في رقابنا والمسمّم لحياتنا ومستقبل أبنائنا هو ما أفرزه الصندوق الديمقراطي جدا بشهادة دائرة المحاسبات، وأنّ هذا الحصاد المرّ هو التعبير المطابق "لإرادة الشعب التونسي" بدليل أن أكثر من ثلثي الشعب قد قاطعوا الانتخابات!
طيّب، سنكون على القدر نفسه من قلّة حيائكم ووقاحتكم، وسنجيبكم بحجّتكم المردودة عليكم ونقول لكم بكلّ وضوح "هذه الاحتجاجات الليليّة الغاضبة والغامضة" هي بضاعتكم ردّت إليكم" لأن "الرعيّة على دين ملوكها" وما ترونه من عنف وتخريب ونهب ولصوصيّة تجتاح البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها وتتصاعد حدّتها كلّ ليلة ويسهر الخلق جرّاها ويختصم. هي بكلّ بساطة شعلة "طائر الفينيق" أو "عنقاء النار" التي تعود كلّ سنة لتشعل صقيع جانفي التونسي وتذكّركم بشعارات الانتفاضات الاولى والثورات المغدورة من علي بن غذاهم إلى محمد البوعزيزي التي اعتقدتم أنكم وأسلافكم حوّلتموها إلى رماد. هي مجرّد استفاقة روح الشعب المعذبة في المابين حين تنتفض من تحت رماد التّهميش والنسيان. هي رجع صدى لسياسات حكوماتكم الفاشلة الجبانة الخاضعة، وترجمة شعبيّة عمليّة لخطابكم السياسي والبرلماني الشّعبوي العنيف المتهافت والبائس الذي ينخره التطرّف والإرهاب وتفوح منه رائحة صفقات الفساد الاقتصادي والسياسي التي تفصّل لها الموازنات والفصول القانونيّة على المقاس باسم السلطة الاصليّة.
حتى وان نجحتم في اخماد الاحتجاجات وتجريمها سيبقى "فينيق الشعب" المتمرّد الثائر بكل الأشكال والأساليب -وان لم تعجبكم- يرهبكم ويرعبكم ويفسد عليكم محافل الانتصارات الوهميّة بانتقال ديمقراطي على المقاس، مفلس وهجين كلّ ما فعله أن غيّر الأصفاد القديمة والصدئة لمنظومة حكمت أكثر من نصف قرن بأصفاد أخرى جديدة وبرّاقة لنفس المنظومة، لكن أصفاد التوافق لم تنجح في خداع شعب يمسك بالنواجذ على بقايا حريّة افتكّها بدماء أبنائه ذات 14 جانفي 2011 ولا فضل لأحد في ذلك عليه بل هو صاحب الفضل على الجميع.
لكلّ ذلك ستبقى ليالي ديسمبر وجانفي الباردة مواقيت لانتفاضة روح الشعب المعذبة والمعلقة بزفرات المناضلين وتمتمات المعذّبين وأشواق الشهداء الاخيرة ومواعيد أوبة عنقاء التمرّد لترهبهم وتقضّ مضاجعهم حتّى يقتنع "من "استملكوا البلاد" و"استورثوها" ابناءهم وأحفادهم وتوافقوا مع الراكبين قطار الثورة على تحويلها إلى غنيمة بينهم أنّ الشعب التونسي لن يرضى مستقبلا بما دون نصيبه من ثروته وثورته وبكرامته كاملة غير منقوصة ولو كره الكارهون.
تعليقك
Commentaires