الباجي قائد السبسي: خط اسمه في تاريخ تونس رغم بعض الانتقادات
25 جويلية 2019، تاريخ لن يمحى من تاريخ تونس، حيث فقدت فيه شخصية استثنائية بكل المقاييس، الباجي بن حسونة قائد السبسي، الرئيس الخامس في تاريخ تونس و الثالث المنتخب مباشرة من الشعب حيث تولى زمام الحكم من 31 ديسمبر 2014 الى حدود وفاته يوم 25 جويلية 2019 يوم الاحتفال بعيد الجمهورية.
من الصعب جدا، الكتابة حول الباجي قائد السبسي و الحفاظ على مسافة الحياد المطلوبة فالرجل استثنائي الى أبعد الحدود، أبى الخروج من الباب الصغير و الاكتفاء بالدور السياسي الذي لعبه قبل الاستقلال و بعده و البقاء صفحة من صفحات تاريخ تونس بعد الاستقلال و أصر على أن يكون كاتبا للتاريخ و مصورا لتفاصيله خلال مرحلة لا تقل صعوبة و حساسية بعد 14 جانفي، حيث كانت المرحلة الثانية للباجي بعد 14 جانفي 2011 أهم بكثير من المرحلة الأولي التي عقبت الاستقلال رغم دوره المهم فيه و في مرحلة النضال قبل الاستقلال حيث كان مستشارا للوزير الأكبر الحبيب بورقيبة مع بدايات الاستقلال ثم تم تكليفه بملف السياحة، فالإدارة العامة للأمن الوطني، ثم عينه رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة وزيرا للداخلية بعد وفاة الطيب المهيري، وتولى أيضا حقيبة الدفاع ثم وزارة الخارجية ثم رئيس لمجلس النواب في بداية التسعينات.
تولى الباجي رئاسة الحكومة التونسية في وقت عصيب و دقيق عقب تخلي الرئيس الراحل زين العابدين بن علي بتاريخ 27 فيفري 2011 إلى حدود 13 ديسمبر 2011، تاريخ تسليمه مقاليد السلطة لحكومة حمادي الجبالي.
- تأسيس نداء تونس
بعد تسليم الباجي قائد السبسي السلطة أواخر سنة 2011 بدا المشهد السياسي ضبابيا و قاتما و موغلا في السوداوية وسط مخاوف من أخونة تونس و توجيهها نحو سيناريو عكس ما ينتظره التونسيون، حيث كانت فترة حكم الجبالي مرتبطة بانتشار الإرهاب وتمركز الجماعات المسلحة في جبل الشعانبي و بداية غرق مؤسسات الدولة الاقتصادية وبداية لانهيار مدوٍ في جميع المؤشرات سواء الاجتماعية او السياسية او على مستوى الحريات، حيث عرفت تونس سيطرة للجماعات المتشددة على الشارع التونسي وخاصة ما كان يسمى بـ"رابطة حماية الثورة" ذات الطابع العنيف حيث كانت الذراع "الميليشاوي" لحركة النهضة الذي هاجم المقر المركزي لاتحاد الشغل و اجتماعات الأحزاب، كما شهد الشارع عدد من المظاهرات الاخوانية منها غزوة "المنقالة" عندما سمح نظام الجبالي لمجموعات من تنظيم أنصار الشريعة يوم 25 مارس 2012 بالتظاهر ورفع أعلام داعش وسط شارع الحبيب بورقيبة دون الحديث عن الاستعراض الرهيب لأنصار الشريعة بالقيروان و غيرها من المظاهر التي كانت تنبأ بسقوط الدولة و التي وصلت حد الاغتيالات السياسية التي انطلقت باغتيال الشهيد شكري بلعيد يوم 06 فيفري 2013 .
في ظل تلك المعطيات الخطيرة جدا و بتاريخ 16 جوان 2012، أعلن الباجي قائد السبسي عن تأسيس حزب نداء تونس، المعجزة السياسية التي حققها الباجي المتمثلة في تأسيس حزب سياسي جديد من مكونات مختلفة وروافد فكرية متعددة حيث استطاع هذا الحزب في ظرف وجيز أن يتصدر استطلاعات الرأي ويفوز بالانتخابات التشريعية و يحدث التوازن في المشهد السياسي .
وتمكن الباجي قائد السبسي من الوصول إلى قصر قرطاج رغم تصويت الإخوان بمختلف تشكيلاتهم بكثافة كبيرة لمنافسه المنصف المرزوقي ومهاجمة أنصارهم له بشراسة استثنائية أثناء الحملة الانتخابية.
- حنكة الباجي و دوره في فرض التوازن
تمكن الباجي قائد السبسي من إنقاذ البلاد من الفوضى و الفشل السياسي و أجبر حركة النهضة الإسلامية على الدخول في توافق سياسي لم يكن فيه الباجي في موقع ضعف، بل نجح في تكوين محور سياسي قوي مع خصومه وحافظ على مبدأ التوافق الذي ميز مرحلة حكمه و نجح أيضا في امتصاص رغبة الإسلاميين في السيطرة على المشهد السياسي بحنكته السياسية حيث استطاع بعد لقاء الشيخين التاريخي في باريس من إجبار الإسلاميين على الحكم المشترك و اجبرهم على التصويت ضد قانون الإقصاء و حاول فرض مبادئ الديمقراطية و الحداثة و اجبر الإسلاميين على قبولها مما ساهم في ترسيخ مبادئ الديمقراطية كما اجبر شيخ الإخوان على ارتداء ربطة العنق و كان ضيف مؤتمر نداء تونس رغم رفض أنصار الحركة ذلك.
الباجي رفض كل محاولات الإقصاء و الانفراد بالحكم لإدراكه أن تونس للجميع شرط الالتزام بالقواعد التي فرضها بنفسه، حيث وقف سندا منيعا أمام بعض المحاولات لاثارة القطيعة و تقسيم المجتمع الى قسمين و فرض هوية واحدة تونسية على المشهد السياسي.
قيمة الباجي السياسية بانت بشكل جلي بعد وفاته و غيابه على الساحة السياسية حيث تحول المشهد السياسي إلى حلبة مصارعة بين النهضاويين و التجمعين في غياب سياسة الحوار و التوافق و تغليب مصلحة الوطن حيث يحاول كل طرف فرض نمطه و تصوره على البقية رغم غياب أغلبية سياسية تسمح بذلك .
راشد الغنوشي نفسه أكد في مقال كتبه في مجلة ليدرز ان نقاط التشابه بينه و بين الباجي كثيرة فكلاهما يرفض الإقصاء و يرفض الديكتاتورية و الظلم، و الغنوشي جاءت به الثورة من منفى الخارج، بعد منفى دام 20 سنة والباجي أعادته الثورة من منفى الداخل الذي قضى فيه عشرين سنة، كلاهما التقط اللحظة بأن تونس لا يجب أن تبقى رهينة الماضي وان الثورة أمانة ومسؤولية.
- توافق مغشوش أضر بالباجي
رغم الدور التاريخي للباجي الذي لا يمكن إنكاره، لا يمكن أيضا إنكار أن الباجي قد ارتكب هفوات لامه عليها بعض النقاد حتى من أصدقائه خاصة بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية و مغادرته النداء للالتحاق بقصر قرطاج، حيث لم يستطع الحفاظ على تماسك الحزب و لم يستطع الحسم بخصوص دور حافظ قائد السبسي فيه، و كان يشاهد الحزب الذي بناه ينهار رويدا رويدا أولا بانسحاب كتلة محسن مرزوق بسبب رفضه فرض حافظ في الإدارة المركزية للحزب ثم انسحاب كتلة يوسف الشاهد بعد إصرار حافظ على بسط نفوذه و نفوذ المقربين منه على الدولة و فرض تعيينات مشبوهة و شبهات تورطه في صفقات تربح.
الباجي أيضا كان يشاهد انهيار الحزب و عقده لمؤتمرين متوازيين احدهما بالمنستير و الأخر في الحمامات و كان يشاهد انسحاب قيادات الحزب التاريخية من الحزب في حين أنه كان قادرا منذ البداية على إيقاف هذا النزيف بابعاد ابنه عن القيادة و هو موقف كان سيحسب له دون شك.
بعض النقاد السياسيين أكدوا ان الباجي قائد السبسي لم يبحث عن مصلحة تونس بالقدر الذي بحث فيه عن مصلحته الخاصة باتجاهه نحو توافق مغشوش مع الإسلاميين في أنه كان قادرا في أكثر من مناسبة على استغلال الفرصة و التوافق مع مكونات المجتمع السياسي التي تشبهه لإبعاد الإسلاميين في فترات ضعفهم و القضاء عليهم بصفة نهاية و فرض النمط التونسي.
كل هذه المعطيات لا تمنع من القول ان الباجي قائد السبسي قد دخل التاريخ من أوسع أبوابه و خط اسمه في قائمة الشخصيات التي تركت بصمتها في تاريخ تونس.
و في إطار إحياء الذكرى الأولى لوفاة الباجي نظمت القيادية سابقة في حركة نداء تونس سلمى اللومي اليوم الجمعة 24 جويلية 2020 تظاهرة حضرها عدد كبير من الوجوه السياسية المعروفة بقربها من الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي و عدد من ممثلي المنظمات الوطنية و سفراء عدد من الدول حيث تم عرض وثائقي يؤرخ نؤسس نداء تونس منذ تأسيس دولة الاستقلال حتى وفاته.
حسام بن احمد
تعليقك
Commentaires