الإرهاب التكفيري جريمة وكل تبرير له مشاركة فيها
بقلم شـكـري لطـيـف
"قولوا لأبنائي إنّي أحبّهم" ....
هي آخر الكلمات التي نطقتها السيدة التي ذُبحتْ في نيس وعمرها 44 سنة .
أمّا السيدة الثانية التي ذُبحتْ وعمرها 60 سنة ...
وأمّا العامل الذي ذُبح معهما وعمره 55 سنة...
فقد تعطّلت لديهما لغة الكلام مع حشرجة الموت الفظيع نحرا.
هي مُجدّدا جريمة إرهابية نكراء.
ومُرتكبها، هو مُجدّدا شاب تونسي عمره 21 سنة ، غادر تونس مثل الآلاف "خلسة" ممتطيا احد قوارب الموت ليصل لمبدوزا الايطالية في 20 سبتمبر، ليحصل فيها على وثيقة لجوء من منظمة الصليب الأحمر الدولي ، ولينتهي به المطاف يوم 29 أكتوبر في مدينة نيس الفرنسية شاهرا خنجرا وهاتفا "الله أكبر" وهو ينحر مواطنين أبرياء أثناء أداء الصلاة داخل مكان عبادتهم .
ليس الوقت للتحليل والتفسير.
هو وقت وحزن وألم وتعاطف مع الضحايا ومع عائلات الضحايا.
هو وقت ذهول عقلي وفلسفي ووجداني وقيمي مُتجدّد أمام الكمّ الهائل من البربرية ومن فقدان كل مقومات الإنسانية لدى أحد "المنتسبين" للبشر، تشبّع بالتكفير الاطلاقي والحقد الدموي والكره الأعمى لكلّ من لا يُماثله . أو بالأحرى لمن يتوهّم انه لا يُماثله .
هو وقت رفض لكل مُتاجرة بالدين تحت غطاء "نصرة الرسول" من الدول الراعية للإرهاب والمموّلة والمُسلّحة له مثل تركيا وقطر، أو من تلك المُوظّفة دوما للدين لإضفاء "شرعية" موهومة لأنظمة حكمها الفاقدة للشرعية.
هو وقت إدانة لكل من فتح قُمقم "صراع الأديان والحضارات" كغطاء إيديولوجي جديد للهيمنة العولمية الرأسمالية على الشعوب خارجيا ، وقُمقم إذكاء النعرات العنصرية كسلاح سياسوي انتخابي داخليا.
وهو وقت غضب وامتعاض من كل خطاب التمجيد المباشر للقتل أو التبرير والتبييض والتسويق له. فهو خطاب مُدان ويتطلّب لا فقط الاستهجان السياسي والفكري ، بل وكذلك التتبّع القضائي "بوضع التلبّس"، وفق قانون مكافحة الإرهاب، لكلّ من يحمله ويُعلنه سواء كان أحزابا أو أفرادا ، وسواء كانوا أفرادا عاديين أو متحمّلين لمسؤوليات سياسية مثل النواب راشد الخياري ومحمد العفاس .
وهو خطاب مُدان أكثر حين يصدر عن رئيس الجمهورية الذي صرّح اليوم بمناسبة المولد النبوي، بأنّ "الأمة ...لا تقبل أن يستهدف أحد الرسول بسوء "..... ليُفْسح بذلك من حيث يدري أو لا يدري المجال لخطاب التحريض على الجريمة و المرور لارتكابها والانخراط الدموي في صراع الهويات القاتلة .
فهل أنّ الرسول بحاجة لمن ينصره بالقتل وقطع الرؤوس ؟
وأيّة إساءة للرسول صدرت عن الضحايا الأبرياء الذين وقع ذبحهم اليوم في مدينة نيس الفرنسية وهُمْ يُؤدُّون الصلاة داخل مكان عبادتهم ؟
ليس الرسول بحاجة لمن ينصره بالقتل يا سيادة الرئيس ، ولو كان ذلك لمن أساء لسيرته ومسيرته .
مرجع هذه الدعوة للقتل الرائجة اليوم هو أحمد بن تيمية في كتابه الشهير "الصارم المسلول على شاتم الرسول" .
وقد لا نستغرب أن يتبنّاها الخياري والعفاس وكل المنتمين للتنظيمات الاسلاموية ، ولكنّنا نستغرب أن يُردّدها ولو بشكل "مُهذّب" رئيس الجمهورية التونسية .
وقع إيذاء الرسول والإساءة إليه عديد المرات في حياته . آذاه أبو لهب و"امرأته حمّالة الحطب" المذكورين في القرآن وطلبا من ابنيهما عتبة وعتيبة ان يُطلّقا بنتي الرسول أم كلثوم ورقيّة ففعلا ذلك. ولم يقفا عند هذا الحدّ ، بل توجّه نحوه عتيبة وهو بين أصحابه فقال له مستهزئا منه ومن القرآن : يا محمد ، أنا كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا وتدلّى ، ثم تفل في وجهه وردّ عليه ابنته وطلّقها .فبلغ به الحزن مبلغه ولكنه اكتفى بالدعاء عليه . (الزمخشري-الكشّاف). كما آذته هند بنت عتبة التي أجّرت من قتل سنده وأكبر المدافعين عنه ، وهو عمّه حمزة بن عبد المطلب، ومثّلت بجثّته فجدعت أنفه وقطعت أذنيه وبقرت بطنه لتُمزّق قلبه وتقطّع كبده بأسنانها وتأكلها. ولم تذكرْ كتب التاريخ أنّها قُتلتْ انتقاما. بل أنّ ذريتها كانت صاحبة السلطة الإسلامية الجديدة مع دولة بني أمية.
إنّ "الفكر" التكفيري بممارساته الإجرامية ورم سرطاني في جسم المجتمع التونسي وبقية المجتمعات العربية . وتتداخل العوامل والأطراف الداخلية العربية والخارجية الغربية التي ساهمت وتساهم تاريخيا في رعايته ودعمه وتدجيجه بالمال والسلاح. وقد قدّمت الشعوب العربية - قبل الشعب الفرنسي - ضريبة عالية من الضحايا لهذا "الفكر": في سوريا والعراق واليمن وليبيا ومصر والجزائر.. ونحن لا ننسى أبدا في تونس جريمة اغتيال الطفل الراعي مبروك السلطاني الذي قطع التكفيريون رأسه سنة 2015 وأرسلوه لوالدته في كيس ، ثمّ اعدموا شقيقه بعد ذلك. وهما مثلهم مثل ضحايا نيس لا يمكن اتهامهم بالإساءة لا للرسول ولا لأيّ كان .
ولن يمكن لمجتمعنا التونسي ولمجتمعاتنا العربية أن تتقدم نحو إرساء مبادئ الديمقراطية والعيش المشترك القائمة على الحرية والكرامة والمواطنة دون التصدّي لهذا الورم السرطاني واستئصاله فكريا وتعليميا وتربويا وثقافيا. وذلك هو المنهج القويم الذي يضمن لشعوبنا وأجيالنا القادمة دخول التاريخ بدل العيش على هامشه، باكتساب ناصية الفكر العلمي وإعلاء قيم حرية الرأي والتعبير والمعتقد، وتحقيق التنمية العادلة القاطعة مع التبعية.وهو الذي سيضمن للمهاجرين العرب وأبنائهم النجاح في مواجهة النزعات العنصرية وريثة الحقبة الاستعمارية المتوالدة في المجتمعات الغربية مع التيارات الشعبوية واليمينية الجديدة التي تنفخ في نار الكراهية والحقد، وتتغذّى من الإرهاب التكفيري، وتسعى لتحويل "الأجنبي" لكبش فداء للازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتفاقمة في مجتمعاتها .
تعليقك
Commentaires