alexametrics
أفكار

الحوكمة الإيديولوجية واستعارة البيضة !

مدّة القراءة : 10 دقيقة
الحوكمة الإيديولوجية واستعارة البيضة !


 

ما يمكن ملاحظته منذ ثورة الكرامة و الحوكمة في تونس، أن البلاد مازالت في مستنقع الأيديولوجيا ومشلولة  نتيجة للاختناق الذي تعيشه البلاد بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والتي تعمق جرحها أكثر بحالات الطوارئ الصحية الناتجة عن وباء كوفيد – 19 – الذي داهم الجميع دون سابق انذار، مما جعل انعدام فلسفة   واضحة المعالم للحوكمة في تونس تشكل خطرا كبيرا في ظل رغبة أصحاب النفوذ انتهاز الفرصة للتخلص من الخصوم أو "الشياطين" الذين حوله.

 

استخدم الفيلسوف الفرنسي الشهير"غوستاف فلوبير (1821-1880) بيضة، كنقطة انطلاق لأطروحة فلسفية حول نشأة الكائنات". هذا المقال يستعير البيضة و يوظفها ليبين كيف تفشت الحوكمة الأيديولوجية في تونس و كيف ساهمت في تعميق الأزمة الخانقة التي تعيشهاالبلاد.  فالسبيل الوحيد لتونس للخروج من عنق الزجاجة  هو استغلال هذا الوباء و اعتماد استراتجية التدمير الخلاق التي هي السبيل الوحيد  إلى  والديمقراطية الاقتصادية و الاقتصاد التشاركي. 

 

البيضة كمجاز للحوكمة الاديولوجية

 

وعندما نشير إلى البيضة، و كل ما رافقها من "البووووز" الإعلامي في احدى زيارات رئيس البلاد قيس سعيد و التي أبرزت أن تونس في أشد الحاجة دائما، وخاصة في مثل هذه الظروف الصعبة التي تستوجب التصرف العقلاني والحوكمة الرشيدة، إلى مسؤولين يجسدون فعلا احترامهم لمؤسسات الدولة والمواطنين، بعيدا عن اللهث وراء عناصر الإثارة المجانية والصور التي تنشرها وسائل الاعلام والتواصل الإجتماعي، وكل منها وفق خلفياتها، ومنها المتهكمة والساخرة، خاصة أننا في وهج ذروة الصراع مع الأزمة الصحية التي تحمل في طياتها خطرا وبائيا مؤكدا، كان من المفروض بدلا من ذلك ان يبحث أثناءها نخبها وخبراؤها عن الحلول الفعلية للمكافحة السليمة لهذا الوباء وتداعياته وذلك بالتقييم العلمي للأزمة، والتعبئة الصحيحة بالعلم والخلق والابتكار والتكنولوجيات الحديثة، والانخراط في البحث عن التدابيرالناجعة والاصلاحات الجوهرية والعميقة للحوكمة، وبناء البنى التحتية الصناعية الحديثة، التي يمهد سبل النجاح في تحسين القدرة التنافسية الاقتصادية والقدرة الشرائية للمواطن ولا بالبحث عن الحلول الترقيعية والخاطئة، والتصرفات الشعبوية للمؤسسات السياسية التي تقرع الطبول لتخدع الجماهير الشعبية لتبديد الوقت عوضا عن الاتجاه مباشرة لسبل الاقناع بالحجة والبرهان وكسب كل لحظة فيه للعمل الجدي لطمأنة الشعب.

 

 كما أن هذه المؤسسات السياسية التي تتعامل بشكل لا عقلاني في تصرفاتها وممارسات عملها الذي لا يجني منها الوطن ولا المواطن، لا شيئ  غير الإحباط والخوف من ظروف الحاضر وأيضا الخوف على مصير المستقبل، أكدت بشكل لا يشقه غبار أنها تفتقر للقيادة الفعلية منجهة والقيادة الكاريزماتية من جهة أخرى.

 

اقتصاد البلاد يجثو على ركبتيه 

 كل هذا وذاك خلق نوعا من الارتباك الذي جعل الدولة التونسية تسير على قشور البيض، باعتبار أنّ تونس تعتبر هي الدولة الوحيدة في  العالم تقريبًا التي يتم فيها تحديث المؤشرات واصفة جائحة كوفيد - -19 بطريقة هرمية ومركزية وبيروقراطية من قبل وزير الصحة، بالرغم ان رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ هو الذي يترأس الهيئة الوطنية لمجابهة فيروس كورونا. رئيس الحكومة أعلن الحرب على كوفيد 19  -  وليس هذا فحسب بل وعد ببدء حرب كاملة وشرسة ضد الفساد، مؤكدا أنه "لا وجود لأحد فوق رأسه ريشة"، كما عدد الكثير من الوعود، ومنها الحكم الجيد للحكومة، والتفاعل مع القضايا الجوهرية للبلاد  بما يفيد الشعب التونسي، ومستقبل الأجيال القادمة، إلا أن غياب الكفاءة وبروز عنصر الارتجال والارتباك وارتعاش الأيادي، والتي كلها لا تصنع التاريخ، جعلت المواطن لا يرى شيئا على أرض الواقع بشكل ملموس،ما جعله يعتقد أنها كلها مجرد بيع للأوهام، طالما أن أسس إصلاحات المؤسسات العمومية غامضة وارتجالية في ظل انتهاج سياسة  عدم الضغط على مستوى الإنفاق العام الذي يضر بنمو البلاد ( من حيث الأجور الوهمية، الامتيازات، والإساءة الواضحة للحوكمة الرشيدة).

 

ومن جهة أخرى اختارت تونس وزيرا ثابتا للمالية في حكومة،  تحت قصف إعلامي رهيب، اختارت ان تركز على المدى القصير وهذا ما يفسر إلى حد كبير الغياب التام لخطة واقعية لإخراج ميزانية الدولة من الحوكمة السيئة التي تطغى عليها، لتبرز أثناءها أزمة كوفيد -  19-  التيكان من المفروض أن تكون فرصة جيدة وسانحة لترسيخ الحكومة الرشيدة، وذلك بالالتفات إلى "النخب الوطنية  في الداخل و الخارج" ومراجعة الرواتب التي يحصلون عليها، في بلد مثل بلادنا، على غرار (الرؤساء المنتهية ولايتهم، وكذلك  النواب)، إلا أن الحكومة أكدت عدم ثباتها وارتجالها وارتعاش أيادي النافذين فيها، حيث تركت الأمر على ما عليه دون اصلاحات ولا حتى تقليصات من تلك الرواتب، مقابل الإسراع بالخوض في ضرب الموظفين و"الاستيلاء" على جزء من رواتبهم ، مقابل بروز ما لم يكن في الحسبان خلال الآونة الأخيرة، التي تمفيها تعيين عدد كبير من المستشارين، وبرتب وامتيازات وزارية ضخمة، لمزيد ترسيخ الحوكمة السيئة وغير الرشيدة بالمرة تفاعلا منها مع المحاصصات وانتهاز الفرص على حساب الأجراء من الموظفين الذين يدفعون الضرائب بشكل ثابت وجلي، دون غيرهم، والذين منهم الكثيرون الذين يشتغلون من أجل توفير القليل من لقمة العيش، ومنهم من تحتجز رواتبهم بسبب البطالة الاضطرارية ولمدة شهرين كاملين تقريبا،وخاصة في المؤسسات الخاصة.

 

والسؤال الذي يفرض نفسه هو: ألم يحن الوقت بعد  للتخلص من البيروقراطية المعوقة والموروثة منذ  الحقبة الاستعمارية (وتداعيات المدارس الفكرية الفرنسية)، ليتم اعتماد الإعادة الجوهرية للهندسة أو التركيبة الكاملة للدولة بمختلف هياكلها ونماذجها، خاصة أن هناك الكثير من الدروس للتعلم من النماذج الأنجلو ساكسونية والبراغماتية للتخلص من هذا النوع من السلوك المسيّس وغير اللائق...؟..

 

 وهذا يجرنا إلى العودة إلى البيضة، وأيضا إلى الاستشهاد بما قاله ذات يوم، ذاك الفكاهي الفرنسي  الشهير واسمه، "كوليش"، حينوصف هذا النوع من السياسيين بقوله: "في داخل البيضة، هناك لونان ، لون أبيض ولون أصفر،... حسنًا ، وكلما مزجت أكثر المادتين ذاتاللونين، كلما زاد اللون الأصفر بروزا وسيطرة، وهو ما يعني أن  الأبيض يمثل النقاء والاستقامة والأصفر يمثل عدم الكفاءة و بالفسادوالحوكمة السيئة"، وكل هذا لا يختلف فيه إثنان أنه يؤسس لتعميق الجرح حتى يجثو الإقتصاد وبأكثر ثقل على ركبتيه. 

 

في مجلس النواب .. "البيضة المتشققة تجذب الذباب"

ومما لاشك فيه فإن الحوكمة السيئة و الأيديولوجية  تغطي شبكات جماعات الضغط السائدة داخل البرلمان وخاصة فيما يتعلق بالنوابالمعروفين بالتورط في الشبكات غير القانونية، وذلك من حيث جميع جوانبها وهو ما يبرز بكل تجلياته وبشكل واضح أن " البيضة المشققةالتي تجذب حولها الذباب" ترسخ الحوكمة السيئة. 

 

وفي سياق متصل، ومن نفس المنطلق، يجب التأكيد على  أن جميع الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان تلتف، وكل منها بطريقتها الخاصة،حول زعيم حزب ضيّق ومتحمس للانقضاض والتفرد بالسلطة دون رؤية واضحة، ودون خيارات استراتيجية وخطة عمل مرتبطة بها، للبحث عنالتدابير التي من شأنها حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بتونس.

 

وأمام هذا الوضع الذي تتجلى فيه حقيقة اللهث وراء الحوكمة السيئة التي تعترض على تقييم العمل حول الشأن العام، وتدير الظهور لمقارنةوتقييم الآداء، وبالتالي فإن غياب الحوكمة الرشيدة بمعناها السليم والحقيقي في داخل الأحزاب، تنصب الحواجز في البرلمان التونسي لتخلق مناخًا غير صحي  بالمرة وذلك على كل الواجهات، طالما أنهم لا يفكرون إلا في الانقضاض على السلطة ويضخون " أصفر البيض" باحثين عن الدجاجة التي تبيض الذهب، والذي يمثله الاقتصاد التونسي بكل امكاناته الانتاجية في بلد عمره ثلاثة آلاف عام، ما جعل الكثيرين من الناس يعتقدون أنه بإمكانهم أن يحولوا أوضاعهم بسرعة ليصبحوا من الأثرياء وذلك بمختلف الأساليب والوسائل، مجسدين أنانيتهم الطاغية ومترجمين تلك المقولة التي تقول: " أنا وبعدي الطوفان" .

 

أعراض لا لبس فيها تظهر خلال الحجر الصحي

والواضح اليوم هو أن الديمقراطية التونسية تتعرض بالفعل إلى هجمة شرسة، تتجلى حقيقتها في الحوكمة الاديولوجية والضعيفة، وتضخيم الوعود الزائفة والتسويف، ورفض الإصلاحات، وأيضا وهو عنصر مهم جدا عدم احترام قوانين ومبادئ الحوكمة الرشيدة.

 

وإذا كان من المنطقي جدا، أن يكون الحكم لفائدة الأحزاب الفائزة بالانتخابات، كما الشأن في أكثر أنحاء البلدان عامة، وفي بلد قام بثورةويدعي أنه "ديمقراطي"، مثل تونس خاصة، فإن معظم التعيينات المختلفة في المناصب الوزارية المتعاقبة لمختلف الرئاسات (قرطاج وباردووالقصبة) لم تعتمد مع الأسف جميعها معايير الكفاءة والتحفيز والإنتاجية، على الرغم أن كل هذا حدث في بلد استثمر مليارات الدولارات في التعليم منذ الاستقلال عام 1956.

 

 الحوكمة الاديولوجية و عدم الاستقرار الحكومي.!

والغريب أنه ومنذ ما سميت بثورة الكرامة، في 2011 ، حكم تونس 8 رؤساء حكومات و 15 حكومة ، ضمت حوالي 286  وزير ووزير دولة ،والذين كلهم قادوا السلطة التنفيذية للحكومة، على الرغم من أنه لم يتم انتخاب أي رئيس حكومة منهم تقريبًا بالشكل السليم والمعنى الحقيقيللانتخاب، باعتبار أنهم خضعوا كلهم تقريبا إلى المكوث تحت مظلات التوافقات والمحاصصات التي أجبرتهم عليه لعبة السلطة بين الأحزابالسياسية، دون التفطن بعد إلى أن هذا هو السبب الرئيسي لضعف المردود وارتعاش الأيادي وارتباك وارتجال العطاء، وذلك بالابقاء علىمستوى منخفض للغاية جعل أصحابه ودفاعا عن مواقعهم، لا يتجرؤون على التطرق إلى ملف الفساد رغم تأكيدهم على ذلك قولا وشعاراتفضفاضة فقط، ولا على الغوص في قضايا الحوكمة السيئة، والبحث  عن بديلها الرشيد، واعتماد معايير في اختيار الكفاءات القادرةوالاستراتيجية الواضحة والبرامج المفصلة والمحددة بأهداف وفق برنامج عمل حكومي جلي وقادر على إخراج تونس من عنق زجاجة الركودالاجتماعي والاقتصادي، بقدر ما حرصوا على تحديد كل شيء على ضوء مناورات سياسية غامضة في كثير الأحيان وذلك بتعليمات تطبخقراراتها خلف أبواب غرف اللوبيات المغلقة.

 

 وهو ما يعني أن مثل هذه العمليات لا تستطيع توفير السبل الناجعة للحوكمة الرشيدة التي تفيد البلاد، كما لا تستطيع إفراز  زعيم أو رئيسحكومة له الكاريزما القادر بها على إدارة شؤون البلاد بالطريقة الجيدة، 

 

أو صاحب رؤية يتمتع بالجرأة والقدرة على توحيد جميع الشرائح  حول رؤية استراتيجية تهدف إلى إعادة هيكلة وتحديث الدولة التونسية.

 

والمعروف من خلال هذا وذاك أن عدم الاستقرار الحكومي ادى إلى رؤساء حكومات غير قادرين ومتسمين بالضعف، وبالتالي في ظلالحوكمةالاديولوحية لم يستطيعو ان يكونو في حجم مستوى المهمة المناطة بعهدتهم، خاصة أنهم وبشكل أو بآخر  أرادوا جميعًا ، الاستفادةمن المكاسب غير المتوقعة،  دون  بذل أي جهد من شأنه أن يبرز الإرادة السياسية في خوض الإصلاحات الجوهرية، أو مساعدة القدرةالشرائية للفقراء وذلك بالتوزاري، مقابل اعتبارهم ودون استثناء، المشاكل الإقتصادية والاجتماعية مصنفة من الدرجة الثانية . 

 

ومن جهة ثانية فإن رؤساء الحكومات المتعاقبة، الذين أفرزتهم التوافقات السياسية، بين الأحزاب، لم يكن لديهم من الشجاعة أو الكاريزمالفرض فريق حكومي يركز على تحسين الحياة اليومية للمواطن التونسي العادي، بسبب إملاءات الأحزاب السياسية والفيتو من أصحابالمصالح الآخرين من النافذين، بقدر ما فرضت عليهم الظروف التي تدفعهم إلى الحفاظ على مواقعهم، إلى اختيار الوزراء ووزراء الدولة منالتوابع المنبثقين عن الأحزاب والتي عادة ما يتم اقتراحهم منها، دون أن يجرأ رئيس الحكومة إلى رفض أي منهم، خاصة أن رئيس الحكومةهذا أو ذاك استمد وجوده وموقعه من تلك الأحزاب، وأيضا نقطة انطلاق لتجسيد صفقات لخدمة الأحزاب ولا البلاد سواء في تونس أوخارجها.   

 

كل هذا انعكست عليه النتيجة الطبيعية لعملية الحوكمة العامة التقريبية المعانقة للفشل المتوقع لحكومات ما بعد عام 2011  التي لم تقدر فقطإلا على تضخيمها فقط للوعود الزائفة في ظل ضعفها واضطرابها وارتباكها وبروز فشلها الذريع على أكثر المستويات، وهو ما أفرز النتيجةالمنتظرة أيضا بالنسبة للحكومة الحالية على مستوى وضعها لاستراتيجية الاضطراب الواضح لإدارة الوباء وما بعده من تداعيات.

 

البيضة الفاسدة و فقدان المسؤولية الاجتماعية عند الأطراف الاجتماعية 

والمتأمل في الواقع التونسي  يلاحظ منذ سنة 2011 عامة،  ووصولا إلى أزمة  الوباء، أن هناك اتجاه صارخ لخصخصة الأرباح، بين مختلف الأطراف النافذة، ومنها رؤوس الأموال وأصحاب المؤسسات الخاصة، وذلك بالتعاون مع بعض النقابيين المتسلطين، ووسائل الإعلام التي تبحث في معظمها على الإثارة و BUZZ، للسعي إلى غض النظر، بل التعتيم الكلي عن مسألة الإصلاحات الهيكلية للشركات الاقتصاديةواعتماد عملية  إخضاعها للنظام الضريبي الحقيقي، وما يتطلبه من إنشاء فرق مختصة في ذلك لمتابعة هذا الجانب، خاصة أن تونس ظلتعلى مر سنين تلك الفترات السابقة عامة، وبعد 2011 خاصة وإثر انتشار وباء الكورونا بالخصوص، في أشد الحاجة إلى الانخراط فيمنظومة التضامن الوطني والوحدة الوطنية الصماء، التي من المفروض أن يكون موعدها الحقيقي قد حل، للانصهار في العمل الجديوالاسراع بإنقاذ البلاد التي وللأسف استقال الباحثون والخبراء فيها، ( دون تعميم) وربما ساهموا في مزيد تعميق الجرح وإعاقة الاقتصاد بمشاركاتهم في الحملات الاعلامية للظهور فقط ولا لإعطاء حلول علمية وجدية لانتشال تونس من مآسيها التي تترجمها بوضوح الصعوباتالمالية التي تعانيها، شأنهم شأن السياسيين في السلطة، الذين دافعوا عن خياراتهم الخاطئة وأجندات أحزابهم التي تساعدهم فيالانتخابات.     

خبراء الكذب 

قال ذات يوم مدير معهد العلاقات الدولية  والاستراتيجية IRIS)  ) والأستاذ  في معهد الدراسات الأوروبية في جامعة باريس الثامن،  "باسكال بونيفاس" : "إن انتصار الكذابين المتسللين من دعاة التحاليل والخبرة، يمثل تهديدًا حقيقيًا للمعلومات والديمقراطية"، وهو ما تجلىبوضوح في تونس، منذ ثورة الكرامة، حيث شهدت البلاد  ظهور العديد من المحللين والخبراء  الذين اجتاحبعضهم الفضاءات الإعلامية  بتحاليلهم البسيطة، واعتماد المبالغة، و الشعبوية .

وإذا حاولنا ربط واقعنا بواقع الآخرين في بلدان شتى من العالم، فإن الخبراء الدوليين يحرصون على كسر البيضة من الخارج، نتيجةإدراكهم ومعرفة المؤسسات الدولية، أن إدارة السياسات العامة تحتاج إلى إصلاحات جوهرية وعميقة وكبرى، من جهة، كما تفوض هذهالمؤسسات "خبراء دوليين"، والذين غالبا ما يكونوالديهم من التكوين العلمي، التجربة الميدانية، و التجرد ما يمكنهم من تحليل الواقع كما هو و اقتراح بطريقةبداغوجية وقشر البيض من الخارج، مهما كانت الأضرار المرتبطة بالسياسات (النقدية والمالية على وجه الخصوص). انعدام الحياد عندبعض الخبراء، ساهم في تكريس الحوكمة الاديولوجية.

 

التدمير الخلاق والديمقراطية الاقتصادية 

كل المعطيات تشير إلى أن الأوضاع انتقلت من الحوكمة السيئة على مستوى الشأن العام، إلى تحرك أسوإ من الحكومة  علىمستوى إدارة شأن أزمة جائحة كوفيد -  -19 حيث برز التردد والارتباك وحتى الارتجاف ، ما جعل الممارسة المركزية لاتتناغم في أكثر الأحيان مع السلوك المحلي، في أكثر الجهات، نتيجة فقدان التخطيط وغياب التنسيق الواقعي بين المركزي والجهوي و عدمالانسجام بين الأطراف السياسية المكونة للحكومة.

 

والمعروف أن التدابير المتخذة على المدى القصير ليست دائما قابلة للتطبيق والتنفيذ الناجع والفعال، حيث كثيرا ما تبرز التباين وتزيد في عدمالمساواة بين الفئات الاجتماعية لتزيد معها في تفاقم التوترات بين المناطق والجهات، كما أن تلك التدابير تبدأ دون دراسات الأثر التنظيمي،بقدر ما يلهث أصحابها من أجل القبول فقط بمحاولة الإغراء غير أنها سرعان ما ينكشف أمرها فتواجه الصعوبات الجمة عند التجسيد، فيظل وجود نقابات قوية وغير مكتسبة للثقافة التشاركية القائمة على الثقة المتبادلة، وهو ما يجعل تلك النقابات ذاتها معارضة لأي اصلاحجوهري.مع اتحاد الأعراف المتلكئ لمعاضدة   مجهود الدولة لمجابهة هذا الوباء و تحمل مسؤوليته الاجتماعيةليبرز عندها تقاسم المصالح على حساب المصلحة الوطنية، في كل الظروف بما هيالخاصة بالوضع الحالي على مستوى مقاومة كوفيد – 19 -، والتي كلها أكدت أن تونس تفتقر لأدوات وآليات المكافحة الحقيقية للوباء بشكلعقلاني وواقعي،   

لا يختلف اثنان أن تونس أضاعت الفرصة الذهبية التي قدمتها لها ثورة الكرامة لانتهاز هذهالفرصة وبناء  استراتيجية واضحة المعالم للخروج منالعيوب المتراكمة خلال أكثر من خمسين سنة من الاستقلال. كما شكلت  جائحة كوفيد - -19 فرصة ثانية لمختلف الأطراف الفاعلة والنافذةوغيرها لإعادة تشكيل الاقتصاد التونسي والانطلاق في التطوير التكنولوجي وخوض الإصلاحات التي تهدف إلى ترسيخ أسلوب الحوكمةالرشيدة ودعم نظامين التعليمي وأيضا الضريبي ونظام الصناديق الاجتماعية ومنها صناديق التقاعد والضمان والحيطة الاجتماعية.

 

وفي هذا السياق كان الاقتصادي النمساوي البارز فريدريك هايك ، في عام 1945 ، قد لاحظ  أن "عدم القدرة على التكيف بسرعة معالتغيير هو مشكلة اقتصادية مركزية للمجتمع"، وبالتالي فإنه وبالعودة  إلى نظريته، يبقى تقدم التغيرات الهيكلية والخلق والابتكارات، عندالأزمات، تمر أساسا عبر " التدمير الخلاق".

 

ونعتقد أن تونس تحتاج في مثل هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، إلى نظام حكم حديث ومرن لمواجهة التحديات الجديدة وتطوير وتحديثالبنى التحتية ورقمنة الاقتصاد ورقمنة الخدمات الإدارية، حتى لو لم تكن تلك هي الغاية في حد ذاتها، باعتبارها أولويات حيوية.

 

كما نعتقد أنه ومع نهاية أزمة كوفيد – 19 -  يحق لنا أن نأمل في الحوكمة الاستراتيجية القائمة على الابتكار وتعزيز الكفاءة في سياقالاقتصاد المعولم مع إعادة نشر التدفقات التجارية والاقتصادية، فضلا عن الاستثمار في الحوكمة الرشيدة وتعزيز الشفافية والاستثمار فيالبحث العلمي والتكنولوجيات الحديثة التي يتطلبها الاقتصاد الأخضر ، و OpenGov ، والديمقراطية الاقتصادية خارج الديمقراطيةالسياسية و الاديولوجية.

 

باعتبار أن الديمقراطية الاقتصادية قائمة على تكافؤ الفرص ، وتقليص الفوارق الاجتماعية ، ونظام الاستحقاق الشفاف والقابل للتجسيدلمواجهة أي شكل من أشكال الانتهازية، بعيدًا عن هواة الفوضى والانتهازيين الذين يضربون كل ما يتحرك، خاصة أن تونس تزخر بالمهاراتوالكفاءات، سواء كانوا في البلاد أو خارجها من المغتربين في كل أصقاع الدنيا، وبالتالي يكون من الصواب استغلال الحكومة الحالية هذاالوباء العالمي ( كوفيد – 19- ) والتفكير في تعبئة المواهب والمهارات بعيدا عن الصناديق الانتخابية، حيث يكمن الأمل.

 

الآن فقط وفي مثل هذا الوقت، وأكثر من أي وقت مضى، يجب فتح الأبواب على مصراعيها أمام الكفاءات لترسيخ الاصلاحات الجوهريةالعميقة والجذرية، لإدارة السياسات العامة والمرور إلى اقتصاد تشاركي.

 

كما يجب على هيئات الدولة والأحزاب الحاكمة المساعدة في إعادة التفكير في مهام شأن الدولة، باعتبار أن الأمر لن يكون صعبا  إذا تجلتالإرادة السياسية والوعي الحقيقي من قبل جميع الأطراف المتدخلة حول ضرورة ترسيخ التضامن الاجتماعي ، وأداء العمل الجماعيوالمشترك، من أجل خلق النمو والرقي للبلاد وبالتالي للشعب التونسي عامة، وفقط نعرف جميعا كيف نكسر البيضة التي تنجب "كتكوت الحوكمة الرشيدة والحكم الجيد"، وفقط نحسن وبنجاح عملية فقس البيضة لإزالة الحوكمة الاديولوجية التي ظلت ولفترات تعوق تقدم البلاد.

 

مقال تحليلي مشترك : 

*د. سمير الطرابلسي, جامعة براك - كندا (Brock University)  

*د. ناجح عتيق، جامعة سانت ماري - كندا (Saint Mary University )

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter