تحوّل العمل السياسيّ في تونس الى فعل عبثّي شُعبوي تسيطر عليه الفاشيات، حيث تعملُ مكوّنات المشهد التعيس- وأساسا أقصى اليمين، على ترذيل العمل السياسي وتتفيهه وتحويله الى موعد فُرجويّ بائس.

من التسجيلات الى التسريبات، يؤسس الاسلاميون لسياسة الفُرجة الخالية من البرامج والرؤى والأفكار، والتي تتلخّص في محاولات مثيرة للشفقة هنا وهناك لضرب الخصوم. لئن كان 'التسريب' المُضحك الأخير قد نُشر في موقع بريطانيّ، الا أنّ احتفاء الاسلاميين به لا يترك مجالا للشكّ أنهم جُزء من الصورة.

نشر موقع "ميدل إيست آي" وثيقة سرية وادّعى أنها مسربة من الرئاسة التونسية، عن خطة للرئيس قيس سعيد نحو "دكتاتورية دستورية" سيُطلقها عبر انقلاب سلميّ يُطيح برئيسي الحكومة والبرلمان هشام مشيشي وراشد الغنوشي. رغم سخافة الوثائق المنشورة المرقونة على تطبيقة "وورد" وعدم تضمنها لأيّ دليل يشير الى أنها وثيقة رسمية، ورغم بلادة اللغة المستخدمة فيها وبدائيّة الحُجج المُضمنّة والخطّة المزعومة، الا أنّ الاسلاميون وأنصارهم والمؤسسات الاعلامية التابعة لهم أو المتضامنة معهم (نسمة، الزيتونة، مواقع اخبارية وصفحات يديرها المتطرفون، صفحات ائتلاف الكرامة).

لا يستحق الأمر وقتا أو مجهود، لتفكيك مكونات هذه "الخطّة"، وادراك أنها مجرّد نصّ أدرجهُ أحدُ مُبتدئي سيستام مناولة الحزب الاسلامي.
انبنت الوثيقة حول نص أساسي هو الفصل 80 من الدستور الذي كتبهُ الاسلاميون بأنفسهم ووصفوه بأنه أحسن دستور في العالم، وأدركوا بعد مرور 7 سنوات أنه ليس بتلك الرّوعة... هل يخاف الاسلاميون من تطبيق فصول الدستور؟ 

الفصل 80 من الدستور التونسي:
" لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويُعلِنُ عن التدابير في بيان إلى الشعب.
ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.
وبعد مُضيّ ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يُعهَد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما.
ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب ".

ولم يكن يوما سرا أنّ العديد من الأطراف التقدمية دعت لتفعيل هذا الفصل في ظل حالة العطالة والعبث السياسيّة، فيما أصاب الاسلاميين جزع من هذا السيناريو الذين يعتبرونه انقلابيّـا، مما اضطرهم الى الارتماء في حُضن الدوحة، ونشر رسالة مفبركة لا قيمة فعلية لها على موقع مغمور، يديره الصحفي ديفيد هيرست.

جولة في هذا الموقع، تكشفُ بسهولة عن خطه التحرير المعلن الداعم لتركيا وقطر. ينشر هذا الموقع أخبارا لا تحمل أي مصداقية، تنسب فيها المصادر للمجهول أو لمحليلين مجهولين لا يعلم عنهم أحد شيئا، ولا تدعم الأخبار المضمنة بأي نوع من الاثباتات أو العمل الصحفي المحترم.

منذ سنة 2014، لم يكن هذا الموقع الهجين الغريب عن النمط البرطاني والمدرسة الانقليزية في الصحافة القائمة على السرد القصصي والتحاليل المعمقة، سوى منبر للمتطرفين والاسلاميين، حتى أنه صار يعرف في الأوساط الاعلامية العربية بموقع "الإخوان آي" سُخرية من ضحالة محتوى هذه الوسيلة ونواياها المفضوحة، التي سرعان ما جعلته يتنزل في سجل الصحف الصفراء.

رئيس تحرير الموقع هو ديفيد هيرست انقليزي الأصل الذي عاش أكثر من نصف حياته في لبنان، وعمل كمراسل لأهم الصحف البرطانية الى أن اختفى عن الأنظار وانتقل للعيش في فرنسا، وعاد "للظهور" منذ 2014 عبر هذا الموقع وأخباره التي كانت أساسا تتبناها قناة الجزيرة. يوجد جدل كبير، حول مدى صحّة ادارة هيرست فعليا لهذا الموقع.
وبينما تتفق أغلب الأطراف حتى تلك التي لا تدعم الرئيس على رداءة هذه الوثائق المكتوبة ومضمونها، الا أن الناطق باسم حركة النهضة فتحي العيادي صرح لزملائنا في جريدة العرب أن “الوثيقة خطيرة وماتتضمنه يشير الى مصداقيتها من خلال ما كُتب فيها والأفكار التي عبّرت عنها."

في منشور على صفحته أكد رئيس كتلة النهضة بالبرلمان عماد الخميري إن الوثيقة يجب حملها على "محمل الجد، وعدم التهاون في التعامل مع هذه المعطيات المسربة".

رغم تصريح الملحق بالدائرة الديبلوماسية لرئاسة الجمهورية وليد الحجام أكّد أنّ هناك استهداف واضح وممنهج للنيْل من مؤسسة رئاسة الجمهورية وتأكيده أنّ تلك الوثيقة لا تمدّ للواقع بصلة وهي عملية مفبركة وافتراءات باطلة ومسرحية رديئة الإخراج، تحت ستار الليل بسرعة جنونية، اجتمعت مؤسسات الحزب الاسلامي لتصدر بيانا شديد اللهجة يدين هذه الوثيقة ويحذر من خطورتها مؤكدة أنها تتزامن مع خطابات الأطراف المناوئة للمسار الديمقراطي والعاملة على ارباك الوضع العام بالبلاد. وبناء على ذلك، دعت النهضة الى فتح تحقيق جدي وسريع حول هذه الوثيقة لكشف جميع ملابساتها، وطمأنة الرأي العام الوطني والدولي...

استثمار قيادات الحزب الاسلامي في سياسة التسريبات والتسجيلات غير الأخلاقية ودعمه اللامشروط للمتطرفين والتكفيريين الذين يحملون بهتانا صفة "نائب"، لا يمكن الا أن يثبت أن النهضة مسؤولة بدرجة أولى عن تغذية الأزمة السياسية والعمل على استدامتها وتوظيفها، وأن هذا الحزب الداعم لخطاب الكراهية والعنف السياسي لن يكون جزءا من الحل ولن يتردد في ضرب المُختلفين معه، ومعارضيه بأقذر الطرق، التي لم يجرؤ حتى نظام بن علي الفاسد على استخداهما.

عبير قاسمي