قضية البحيري- النهضة وقعت في فخّ نصبته لنفسها
وزير الداخلية : إخضاع البحيري والبلدي للإقامة الجبرية كان بسبب تورطّهما في ملفات ذات طابع إرهابي
الاسئلة التي يرفض توفيق شرف الدين الاجابة عليها
منح قيس سعيد الاسلاميين فرصة ذهبيّة حين مكنّهم من العودة لهوايتهم المُفضلة، التظلّم. هل كان بامكانه القيامُ بجولته الانتقاميّة بأسلوب اخر أكثر رصانة؟ نعم. لكن لنواجه الأمر، نحنُ أمام رجل حديث العهد بعوالم الحنكة والتخطيط، وحين نتساءل عن سرّ أسلوبه الفوضويّ وغير المتوقع في "تصحيح المسار"، فنحن نتجاهلُ كلّ ما نعلم عن الرئيس: أننا لا نعلمُ عنهُ شيئا. وأنّ دواخل سعيّد المتقلبة بامكانها أن تأخذنا -نحنُ ركاب هذه السفينة التائهة- الى أيّ مكان.
الى أين يتجه سعيد؟ الى يابسة المُحاسبة والعدالة؟ لا يوحي أسلوبه بذلك- فالرجل يأمر باعتقال خصومه، ويمررّ مدنيين أمام محاكم عسكريّة، ويمارس الضغط على قضاء يريدهُ أن يكون مستقلا وينكّل بمعارضيه ويتحكم لوحده في الشأن العام حسب أهوائه. الاشكالية الأخلاقية الحقيقية هي أنّه بقدر ما يبعث هذا الأسلوب الشكّ والخشية من ديكتاتوريّة لا عقلانية، الا أنّه يمنحُ أملا ساذجا في فتح ملفات ما من سبيل اخر لفتحها، سوى الانتظار الطويل لتتحرك العدالة من تلقاء نفسها. ونحنُ نعلم جيدا، أنّ عدالتنا المعطوبة لا تعمل بهذا الشكل، مع استثناءات قليلة.
نحن لا نعرف قيس سعيد. لكننّا نعرف حركة النهضة.
تستعمل النهضة نفس الخطاب مع سقوط كل حكومة أو مع حدث سياسيّ بارز: التملصّ من المسؤولية ثمّ لعب دور الضحية. وهذا ما تفعلهُ الحركة الاسلامية منذ سنوات لدرجة أنّ خطواتها أصبحت متوقعة وأنّ استثمارها في قضيّة نور الدين البحيري بشكل فجّ ليس مفاجأة. ستبيعُ النهضة هذه البضاعة الى اخر دقيقة، لكن في حال اثبات القضاء صحة الاتهامات الموجهة له، فانها ستتخلّى عنه كما تخلت عن العشرات من قبله، حتّى ان كان الرجل الثاني في الحزب الاسلامي وصندوق أسرار هذا التنظيم. ستواصل الحركة تظلمّها، لا ايمانا بأنّ البحيري ظُلم، بل دفاعا عن صورتها التي شوّهت كأول حزب في البلاد، المنافس الذي لم يقدر أيّ حزب على اقصاءه وجاءت شعبوية سعيد لتستثمر في تراكمات أخطاءه القاتلة وتُقصيه من المشهد بأبشع طريقة ممكنة، بسدّ كل فجوات التحرك السياسي، وسلبه أفضلية التلاعب بمؤسسة البرلمان، وتحريك جراح الوصم الذي تخشاه: الارهاب. هذه التهمة كانت لصيقة بالحركة، وعديدة هي الأطراف التي لم تتوقف عن رميها بها، من معارضيها في البرلمان السابق (2014، الجبهة الشعبية) الى أمنيين معزولين الى هيئة الدفاع عن الشهيدين التي تقدّمت بقضايا تُركت لأغبرة الرفوف، الى رئيسة الدستوري الحر عبير موسي... هؤلاء خصوم سياسييون، لكنّ اتهامُ وزير الداخلية توفيق شرف الدين لنور الدين البحيري بالارهاب، على الملأ، لأول مرة منذ عشر سنوات (اتهام مباشر من مسؤول بالدولة ) فقد شكّل نقطة تحوّل.
ستلجأ النهضة الى تضليل الرأي العام بكلّ الطرق، وانكار كلّ التهم واعتبارها مفبركة، وستمتّص غضب قواعدها عبر نداءات النجدة وتجمع حولها شتات المتضامنين لاسنادها في هذا الوقت العصيب، ليس لانقاذ البحيري بل لانقاذ نفسها، رغم أنّ قيادييها يعلمون يقينا بأن الحركة انتهت منذ أن تفرّط عقدها وغادرها مؤسسوها الى "افاق" أخرى كحزب السعادة، الذي سيُعلن قريبا عن نفسه بديلا للحزب الاسلاميّ الخاسر.
لا شكّ أنّ عملية ايقاف نور الدين البحيري المهينة خاطئة اجرائيا، وأنّ وضعه في الاقامة الجبرية اجراء لا قانونيّ ولا يستقيم، وأنّ مواصلة خرق الدستور و عدم احترام حقوق الانسان لا يمكنهما التأسيس لعدالة ناجزة ويُفرغانها من جوهرها السامي وأوّله التمسك بقرينة البراءة والمحاكمة العادلة، لكن، لا يتحمّل سعيد مسؤولية هذا لوحده.
هل عملية "اختطاف" البحيري هي الأولى في العشر سنوات الماضية؟ لا. هل البحيري أوّل سياسي يوضع قيد الاقامة الجبرية قبل أن يصل ملّفه للعدالة؟ لا. هل حركت النهضة ساكنا حين حدث ذلك لـصابر العجيلي وعماد عاشور وشفيق جراية؟ لا. هل دافعت النهضة عن المدنيين الذين مروا أمام محاكم عكسرية (ياسين العياري)، لا. ماذا عن النشطاء المختطفين والمختفين قسريا، ماذا عن القصر الذي عُذّبوا في مراكز الاحتفاظ ومن لقوا حتفهم تحت التعذيب في السجون ومن عنفتهم عصا البوليس الغليظة في كلّ موسم احتجاجات؟ ماذا عن الاف القضايا التي لم تعبئ بها النيابة العمومية؟ ماذا فعلت النهضة حتى تضمن قضاءا عادلا للخصم قبل الحليف؟
كيف لهذه الحركة أن تلعب دور الضحية الان وهي التي رعت ثقافة الافلات من العقاب لعشر سنوات كاملة سيطرت فيها على مفاصل الدولة وتسللت خلالها الى القضاء وحافظت على المنظومة واستغلتها ورفضت تغيير القوانين التي تزعم أنها تعسفيّة اليوم حين وصلت الى موقع الضعف..
لا يمكن انكار ذلك، أنّ هذه الجمهورية أضحت مزرعة تُسيّر بالولاءات وأنّ النهضة استفادت من تقويض القضاء وتشويهه الى أن جاء اليوم الذي جنى فيه الشوك- من زرع الجراح. وفي تقرير التفقدية العامة لوزارة العدل ما يكفي من الاثباتات عن البشاعات التي اقترفت وعن جرائم الارهاب التي تم التستر عنها وعن الملفات التي قُبرت. انّ الاتهامات الموجهة لنور الدين البحيري ليست اتهامات بسيطة، وان البحيري ليس مجرد معارض يستهدفه قيس سعيد لاقصاءه، البحيري كان وزيرا للعدل في أحلك فترة عاشتها تونس، خلال سنوات خيّم فيها التطرف والارهاب على أرضنا وجنينا اثرها ثلاثة اغتيالات، شكري بلعيد، محمد البراهمي ولطفي تقض.
ما من شكّ أن جرائم خطيرة اقترفت خلال تلك الفترة، سواء كان البحيري متورطا فيها أم لا، يجب أن تــــقام العدالة، لكن أيّ عدالة؟ لا يمكننا رجاءُ المحاسبة من المتواطئين، فسعيد يعيد ذات الأخطاء، في موقع القوة يستغل امتيازات يمكن أن تُحرك ضده حين يصبح في موقع ضعف. من سوء حظّنا، أنّ فتح ملفات التسفير والاغتيالات السياسية والارهاب والتمويل الأجنبي سيكون عبر أسلوب انتقاميّ فظ، سيجرده في النهاية من أيّ مشروعية، بحجج يستغلها الاسلاميون للعب دور الضحية وخلال فترة استثنائية عُلقت فيها المؤسسات والضمانات الدستورية وحتّى حق الطعن.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires