alexametrics
أفكار

هل سنترك بلادنا مستعصية على الإصلاح بسبب من يعملون على إخضاع الدولة لمصالحهم؟

مدّة القراءة : 7 دقيقة
هل سنترك بلادنا مستعصية على الإصلاح بسبب من يعملون على إخضاع الدولة لمصالحهم؟

 

 محمود بوناب


لم تبق أمامنا سوى أسابيع قليلة لتحديد الخيارات التي سيًدلي بها الناخبون في خلوة صناديق الإقتراع يومي 6 أكتوبر و10 نوفمبر المقبليْن، وهي الخيارات التي سترسم ملامح المشهد العام في بلادنا خلال السنوات الخمس المقبلة.

لكن على أي أُسُس سيتوجه الناخبون إلى مراكز التصويت وهل سيجدون في ضبابية المشهد السياسي وتشرذمه (حوالي 220 حزبا سياسيا حصلت على تراخيصها!) وفي حصيلة الولاية التشريعية والرئاسية المنتهية ما يمكن أن يسند اختيارهم ويكون لهم مرجعا أو حافزا لمنح ثقتهم لمن هو الأجدر (إن وُجِد) بتولي المسؤولية وتحمل أمانة وشرف إدارة الدولة؟

لا شك أن الإجابة على هذا السؤال بكل تجرد وموضوعية، ستجعل السواد الأعظم من الناخبين ربما يختارون البقاء في بيوتهم يوم التصويت أو الذهاب إلى مشاغلهم والإمتناع عن تحمل عناء الإنتخاب...غير أن في هذا تقصيرا تجاه الوطن وعزوفا عن آداء الواجب وتنصلا من المسؤولية لأنه يُفترض أن يتحمل الناخب مسؤولية وتبعات اختياراته مهما كانت خاطئة، أليس هو المصدر الحقيقي للسيادة وللشرعية؟.

في أكتوبر 2014، منح النظام الإنتخابي النسبي لحزب نداء تونس 86 نائبا وإلى حزب حركة النهضة 69 نائبا وحصلت أحزاب الإتحاد الوطني الحر والجبهة الشعبية وآفاق تونس مجتمعة على 39 مقعدا.

ورغم حصول نداء تونس على الرئاسات الثلاث في الدولة، الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، وعلى أغلبية الوزراء في الحكومة، فإن هذا الحزب لم يصمد طويلا أمام إكراهات السلطة وإغراءات التسلط ودوائر النفوذ، فأصابته أزمات متعاقبة وحرب زعامات طاحنة أدت به إلى التدمير الذاتي الممنهج والتفكك التام وما يزال إلى اليوم عاجزا عن لملمة حطامه وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الشخصية والفئوية.

أما حركة النهضة، وبعد أن ثبَّتت مواقعها ونفوذها في المشهد السياسي خلال المرحلة التأسيسية عبر دستور محاصصة حزبية يكرس دورها المحوري في أي معادلة سياسية مهما كانت تركيبتها، وعبر نظام إنتخابي على المقاس يخولها الإستفادة القصوى من زادها الإنتخابي وضمان فوز قائماتها في مناطق البلاد التي قال رئيس الحركة إنها ليست بحاجة إلى خوض حملات إنتخابية في تلك الجهات، فإنها حافظت على ثوابتها في التماسك والإنضباط الحزبي والإلتزام بلعبة "التوافق" وممارسة النفوذ وهي جالسة في المقعد الخلفي  Back seat driver.

وقد بات اليوم جليا ونحن على مشارف نهاية الولاية الرئاسية والتشريعية، أن ذلك "التوافق" السياسي الذي حكم هذه الولاية سيترك البلاد في حال أسوأ بكثير من التي وجدها عليها عام 2014، وأنه سيكون من الكارثي مواصلة البناء عليه خمس سنوات أخرى.

فبقطع النظر عن النوايا الحقيقية للأطراف التي انضوت تحت لواء "اتفاق الشيخين" في باريس عام 2013 ووثيقتيْ قرطاج 1 و2 وحكومتيْ "الوحدة الوطنية"، وبالنظر إلى الحصيلة الهزيلة للولاية التشريعية والرئاسية المنقضية، اتضح اليوم جليا أن ذلك التوافق لم يكن سوى خديعة كبرى لمغالطة التونسيين والتحيل على عقولهم من أجل اقتسام كعكة الحكم وتوزيع دوائر النفوذ بين الفصيلين الرئيسيين الفائزيْن في الإنتخابات واللوبيات المؤيدة لها وضمان استقرار زائف وعقيم لمنظومة الحكم، وذلك في غياب تام لمشروع وطني قادر على توحيد التونسيين والنهوض بالبلاد بما يلبي طموحاتهم في تحقيق التنمية والإزدهار.

ولا يجادل عاقل اليوم في أن معظم أطياف النخبة السياسية التي تولت مقاليد الحكم على مدى السنوات الخمس الماضية لم تكن في مستوى التحديات والرهانات الاقتصادية والإجتماعية والمعيشية التي تثقل كاهل التونسيين وفشلت في إعادة الثقة إلى نفوسهم والتخفيف من وطأة معاناتهم بسبب أوضاعهم المعيشية المتردية، سيما الشرائح الاجتماعية المعوزة أو ضعيفة الدخل (أي ما يناهز ثلاثة أرباع العائلات التونسية).

 فقد كانت الحكومات المتعاقبة ومعها الأحزاب المشاركة في الحكم مكبلة ومسلوبة الإرادة نتيجة ما فرضته حسابات المحاصصة الحزبية في توزيع المناصب وتقاسم غنائم السلطة ومراكز النفوذ، وزاد الطين بلة خيارتها الخاطئة وإصرارها على التمسك بمنوال إقتصادي وتنموي بالٍ ما عاد قادرا على مواكبة التغييرات التي طرأت على الدولة والمجتمع ولا على معالجة المعضلات المزمنة التي تكبل قدرات البلاد مثل ضعف الإستثمار والجحيم الضريبي والبطالة المرتفعة والتنمية الجهوية غير المتوازنة وانهيار العملة الوطنية وتردي القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم واهتراء البنى التحتية والغلاء الفاحش للأسعار وتفشي العنف المجتمعي...

لذا، فإن القناعة تبدو راسخة لدى فئات عدة في المجتمع بأن النخب السياسية التي حكمت الولاية التشريعية المنتهية تعاني من قصور فادح في الرؤية ولا يعنيها ما يشعر به الناس من ضيم وإحباط وخوف على مستقبل البلاد، ولا تكترث إلا بمصالحها وأجنداتها الداخلية والخارجية و بقاءها في الحكم. كما أنها لا تتحلى لا بالكفاءة المهنية الضرورية لتكون في مستوى المسؤوليات المنوطة بها ولا بالخصال السياسية المطلوبة التي تخولها تحمل أعباء المسؤولية في خدمة الشأن العام وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والفئوية والحسابات والطموحات الشخصية.

لقد أصبحت السلوكيات الغالبة في المشهد السياسي الوطني، حكما ومعارضة، يمينا ويسارا وإسلاما سياسيا، هي الإنتهازية والنرجسية المفرطة وهوس السلطة والسعي للإقتراب منها أو التموقع  حذوها والتخبط في حروب الزعامات والتجاذبات والغياب التام لبرامج الإصلاح والبدائل الانتخابية... ولا يسع الناخبين اليوم سوى الإقرار بأن الفشل هو العنوان الرئيسي لهذه الولاية التي سنطوي صفحاتها القاتمة بلا حسرة عليها، لكن أيضا دون أمل كبير في المستقبل.

فجُلُّ المعطيات الموضوعية تشير إلى ان القادم أصعب وأكثر أوجاعا وخطورة على كافة الأصعدة. ولا يلوح أمام الناخبين، أسابيع قليلة قبل موعد التصويت، لا برنامج انتخابي واقعي يعيد الأمل إلى نفوسهم المحبطة فيشاطرونه ويجتمعون حوله، ولا مرشح يتحلى بالصدق والجرأة يكون جديرا بالإحترام وبثقة الناخبين وقادرا على مصارحتهم وإصلاح ما أفسدته السنوات الخمس المنقضية والخروج بالسفينة التونسية إلى بر الأمان.

لا بل إن الأسوأ من ذلك أن الطبقة السياسية الحاكمة، التي تقاعست طوال خمس سنوات كاملة عن التوافق من أجل انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية لما لهذه الهيئة من دور حاسم في بناء دولة القانون وتثبيتها، سارعت معصوبة العينين لإلقاء نفسها في مهاترات ومساومات جانبية رخيصة للتلاعب بالقانون الإنتخابي وسط مشهد سياسي عام مثير للشفقة والإشمئزاز، بعد أن بينت مختلف عمليات سبر الآراء مدي نبذِ التونسيين لها وقرفهم من مناوراتها وأكاذيبها وتدني سلوكياتها وتلاعبها بعقولهم.

إلى درجة أن الناخبين، وأمام انسداد الأفق السياسي في وجوههم وعدم وجود البدائل الصادقة من أجل مستقبل أفضل وإصرار الطبقة السياسية على التمسك بمنوال تنموي عقيم وأساليب متعالية ومتغطرسة أحيانا في إدارة شؤون الدولة والتعامل مع الجهات الداخلية للبلاد...، قالوا بأعلى صوتهم إنهم سوف لن يترددوا في منح أصواتهم لفئة من المغامرين والدجالين والإنتهازيين... وكأنهم يمارسون بذلك طقوس انتحار جماعي موحش من شدة ما أصابهم من إحباط ومهانة!

أمام هذا الوضع العام الكئيب، كيف السبيل لإعادة فتح آفاق المستقبل أمامنا وهل هنالك إمكانية للخروج من هذه الكُربة؟

 تظل الإنتخابات الوسيلة السياسية الأفضل والأكثر نجاعة وشفافية عبر التاريخ التي تمارس بها الشعوب حَقّها في صنع القرار في بلادها، شرط أن تكون تلك الإنتخابات حرة وتعددية ونزيهة. لكننا في تونس، ورغم توفر العديد من تلك الشروط وغيرها، ما زلنا نتلمس طريقنا للتعود على الممارسة الديمقراطية وترسيخها، وضاعت علينا فرص ثمينة لتدارك أخطاءنا وإصلاح ما يحول دون نهضتنا وازدهار بلدنا.

ومن سوء حظنا، أننا ورثنا من الحقبة التأسيسية البائسة دستورا جاءنا بنظام سياسي هجين ومعقد لا رئاسي ولا برلماني تبين أنه غير ملائم لتقاليد الحكم في بلادنا وللفصل بين السلطات وتحديد صلاحيات كل منها، وبنظام انتخابي أعرج وغير مناسب لما تقتضيه ضروريات هذه المرحلة الدقيقة جدا في تاريخنا من توفر الإنسجام والإستقرار في الرؤى وبرامج الحكم وترسيخ مبدأ التداول السلمي على السلطة والفصل بين أغلبية الحكم وأقلية المعارضة والإبتعاد عن الشللية والمحسوبية والخضوع للوبيات وللنفوذ المدمر للمال السياسي... 

لذا، فإن المسؤولية الملقاة على عاتق الناخبين ستكون ثقيلة وجسيمة، من حيث أنهم من سيحدد ملامح مستقبل البلاد، ومن سيرسم الخارطة السياسية للسنوات الخمس المقبلة لإن أسوأ ما يمكن أن يحدث لنا جميعا هو أن يتوجه الناخبون إلى التصويت على أساس انتمائهم الفكري وولاءاتهم الحزبية والعقائدية وحساباتهم الضيقة ومصالحهم الآنية غير عابئين بالتحديات الخطيرة التي تهددنا جميعا والتي تحتاج منا اليوم إلى رؤى مشتركة تتجاوز حدود الولاءات وحدود الولايات والدوائر الإنتخابية.

وإذا ما صوت الناخبون على ذلك الأساس، سوف لن يُفرِزَ النظام الإنتخابي الحالي إلا تكريسا لتشتت أصوات الناخبين بين تيارات لا تحمل أي مشروع سياسي للإصلاح ولهيمنة معادلة الحكم الراهنة على المشهد، مما يعني أن تشكيل الأغلبية البرلمانية المقبلة في مجلس النواب المنتخب سيكون على نفس النمط ونفس الأسس، أي إئتلافات غير متجانسة وسياحة حزبية مُخزية...فقط من أجل عيون السلطة. وسوف لن يتغير شيء فيما قاسيناه في السنوات الماضية من بؤس ومهانة وضنك عيش... ومهازل برلمانية.

فالإنتخابات ليست سوى وسيلة للتداول السلمي على السلطة وتمكين المواطنين من اختيار حر لمن سيسيرون شؤونهم وليست هدفا في حد ذاتها. صحيح أنه من الأفضل الإلتزام بإجراءها في المواعيد المنصوص عليها في الدستور والقوانين، لكن شرط عدم المساس باستقلالية الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات وبقرارها السيادي وعدم توظيفها لخدمة أغراض سياسية خارج إطار صلاحياتها القانونية، وشرط أن لا يصبح الناخبون أُلعوبة بايدي الأحزاب السياسية تتحكم فيهم عن بعد وتتذرع  بأصواتهم كل خمس سنوات لإضفاء الشرعية على بقاءها في السلطة ونكران وعودها وفشلها وخيانة أمانة ناخبيها.

يقول الدكتور المنصف وناس في كتابه "الشخصية التونسية: محاولة في فهم الشخصية العربية" الذي صدر في موفى عام 2010 قبل أيام على قيام الثورة، والذي يمثل مرجعا أكاديميا وسوسيولوجيا يتعين قراءته أكثر من مرة لكل من يصبو إلى التعمق في فهم العوائق التي تحول دون تطور المجتمع التونسي ونهضته:

"إن الشخصية التونسية لا تملك المبادرة ولا الجرأة ولا هي قادرة على التغيير والخلق، وإنما هي استمرارية في عديد الأبعاد والمستويات، وهي لا تتوفر على كفاءات ذاتية شخصية استثنائية تؤهلها لمواجهة مقتضيات القرن 21 وخاصة إذا ما قورنت بشخصية الياباني أو الألماني مثلا... وهي شخصية ضعيفة المبادرة قليلة التحفز للعمل والإنتاج"...

لقد أثبتنا غير ذلك لأنفسنا وللعالم ذات يوم من جانفي 2011، ولا يمكن أن يكون هذا قدرُنا المحتوم. فإذا أردنا تكريس هذه الصورة البائسة في حياتنا وأمام أولادنا وشركائنا القريبين والبعيدين، لِنصوّت كما صوتنا عام 2014 ولتَبْقَ دارُ لقمان على حالها...

لكن ما تزال أمامنا فرصة ولو محدودة جدا ل"قلب الطاولة" عليهم جميعا، رغم دستور المحاصصة ورغم القانون الإنتخابي على المقاس ورغم وَهْمِ التوافق دون الحاجة لمنح أصواتنا للمشعوذين والدجالين.

7 ملايين ناخب بإمكانهم أن يغيروا مسار التاريخ إذا أرادوا البقاء والحياة لبلادهم، وسيستجيب لهم القدر..لأن في ذلك خلاصَ هذا الوطن من براثن العجز والجهل والفشل كي لا تسقط تونس في متاهات الدول السائبة المستعصية على الحكم..الحكم العادل والرشيد والسَّوِي وليس حكم التوافق المغشوش والتلاعب بالثوابت والوحدة الوطنية المزيفة.

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter