alexametrics
أفكار

في ثنائية الحكم والمعارضة زمن الانتقال الديمقراطي

مدّة القراءة : 5 دقيقة
في ثنائية الحكم والمعارضة

زمن الانتقال الديمقراطي

 

 

لم تشهد تونس في تاريخها القريب او البعيد تضخمًا وخلطًا وغموضا وتضاربا في المفاهيم والمصطلحات السياسية والفكرية كما عاشته طيلة عشرية الانتقال الديمقراطي و هي لا تزال تعيشه إلى يوم الناس هذا .
ولعل ابرز دليل على هذا الغموض في المفاهيم وحشر احيانا عديد الأبعاد المتناقضة و المتضاربة في مسالة واحدة يرجع بنا الى البدايات و دون مبالغة يبقى احسن مثال في ذلك تلك الهيئة المعروفة بطول توصيفها الا وهي هيئة تحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي . ذلك ان معظم تجارب الانتقال الديمقراطي لم تكن تغييرًا ثوريًا بمعنى القطيعة الكاملة والقيصرية والراديكالية مع النظم القديمة اي نظم الاستبداد. بل اتخذت منهج التغيير غير الثوري (non révolutionnaire et non anti- révolutionnaire) بمعنى التحول مع الاستمرارية اي استمرارية الدولة واجهزتها الرسمية الأساسية.

الانتقال الديمقراطي ليس اسلوبا ثوريًا في إدارة عملية التحول من الاستبداد الى الديمقراطية. وهو ما يفسر الدور الذي لعبته القيادات المنتمية للأنظمة القديمة للمساهمة الإيجابية والنشيطة والبناءة في إنجاح عملية التداول على السلطة مع القيادات السياسية الجديدة الحاملة لمشروع الثورة. وقد عرفت تونس هذا المنهج في تحولها بعد ثورة 14 جانفي ولم تنزلق بشكل كبير على الأقل في الجانب الرسمي وراء مغامرات ودعوات القطع العنيف مع الماضي. و رغم ذلك لا يزال بعض المراقبين السياسيين يعتبر انه كان بالإمكان حماية مسار الانتقال الديمقراطي و تجنيبه بعض المطبات والانحرافات التي أفسدت الى حد ما ريادة هذه التجربة ومن أهمها التجاوزات التي رافقت المجلس الوطني التأسيسي و حل التجمع الدستوري الديمقراطي و فشل العدالة الانتقالية و اثقال كاهل الدولة بملف التعويضات وإغراق الإدارة بالانتدابات الحزبية والموالاة وقبل كل ذلك ادخال البلاد في دوامة الاغتيالات السياسية وإطلاق العنان للجماعات التكفيرية والعنيفة لان تصول وتجول في كل أنحاء البلاد لترويع النخب والمبدعين والإعلاميين والقيام بالحملات الخسيسة تجاه النساء المثقفات و العاملات في الشأن العام و هتك الأعراض وشيطنة المعارضين .

ان هذه الانحرافات العميقة هي التي شوهت مسار الانتقال الديمقراطي و همشت القضايا المحورية من اقتصاد ومعيشة وادخلت البلاد في دوامة الفشل وانسداد الآفاق و قد زادتها تأزما محاولات التوريث السياسي وازمة النداء وصراع الأخوة الأعداء وتسرب المال الفاسد للسياسة والانقسامات السياسية والحزبية التي شهدها الصف المحسوب على الحداثة والتقدم .
هكذا هي بالمجمل حصيلة عشرية بكاملها تعطل على اثرها مسار الانتقال الديمقراطي في بعديه السياسي المؤسساتي والاقتصادي الاجتماعي على عكس ما ذهبت اليه بعض النخب وحتى خبراء الاقتصاد من ان تونس تمكنت من النجاح في الانتقال السياسي ولم يبق لها الا ان تعزز ذلك بالجانب الاقتصادي . التجربة تثبت اليوم ان الأزمة شملت اغلب الميادين وحتى ما مثل القاسم المشترك بين الملاحظين السياسيين من اعتبار حرية التعبير هو المكسب الذي يكاد يكون الوحيد منذ الثورة بدا يتقلص ويتعرض الى التهديد الجدي والمتواصل خاصة في مجال الخلق والإبداع والحريات الفردية والعامة .
ولا تزال نخبنا منقسمة بصفة جوهرية حول مفاهيم الثورة و الديمقراطية والتنمية والهوية على الرغم من ما جاء به دستور 2014 و ربما بسببه اي بسبب تعمد الغموض و الازدواجية والفراغات التي باتت تميزه والتي ما زالت تفرز اختلافات حادة وعميقة في تأويله وكان التوافق حوله لم يكن صلبًا و قويًا وغير قابل للانتكاس .

وهذا ما يفسر الى حد كبير ما تشهده الساحة الحزبية من تشتت و تشرذم و انقسامات وتغير سريع في مواقف البعض و من إقامة التحالفات والتحالفات المضادة غير الطبيعية والهشة و القابلة للانحلال في كل وقت.

عشرية كاملة من عمر الشعوب قد لا تكون من الأهمية بمكان ولكن في عمر الأفراد فهي ليست بالهينة خاصة وان كانت حصيلتها هزيلة وليست في مستوى انتظارات وتطلعات الأفراد والشعوب وبعيدة عن غلو الشعارات وسقف الوعود والادعاءات. وهو ما يترجم انتشار حالات اليأس والإحباط وانعدام الثقة لدى فئات واسعة من المجتمع بما فيها جانبًا كبيرًا من الطبقة الوسطى ومن فئة الشباب بالخصوص. هجرة الكفاءات وبعض النخب اليوم والتي ازدادت طيلة هذه العشرية لم تعد خلفيتها الحاجة الى تحسين الحالة الاجتماعية فقط بل البحث عن نوعية جديدة للحياة و العيش المشترك وعن المجتمعات المفتوحة التي تحرر طاقات الفرد من كل المكبلات والعقد والمحاذير ..
ومن المفارقات العجيبة والغريبة والتي تسبح ضد التيار ان يحاول البعض العودة بنا الى مربع الثورجية و الشعارات الفضفاضة وكأنه لم يستوعب الدرس بعد ولم ينتبه الى ما إلت اليه البلاد نتيجة مثل هذه الانحرافات . لا زلت عالقة بذاكرتي مقولتين صدرت بعد 2011 على لسان كل من رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي والقيادي سمير دولي حين أصر الاول على عدم محاسبة حكومات الترايكا بدعوى ان جل أعضائها من المناضلين الذين ضحوا في سبيل الوطن وهم بالتالي فوق المحاسبة ولا يجوز اخلاقيا وسياسيا تحميلهم أية مسؤولية في الفشل فهم مناضلون ويبقون كذلك ولا يخضعون للمساءلة. أما القيادي سمير فقد قال نفس المعنى تقريبًا وبشكل مباشر و مفضوح ودون خجل في رده على الانتقادات التي شملت اداء وزراء الترويكا قالها بالحرف الواحد نحن نخرج من ثورة والساهرون على شؤون البلاد اليوم هم مناضلون ومن يبحث على الكفاءات فعليه بالبحث عليها في النظام القديم اي في نظام بن علي .
التعليقات والتأويلات التي سبقت ورافقت سياقات تشكيل الحكومة بعد انتخابات اكتوبر 2019 قادتها هذه العقلية التي يريد البعض اعادة إنتاجها بالرغم من عقمها وفشلها و جر البلاد اليها بدعوى الرجوع الى الفضيلة اي خيار الثورة وقطع الطريق أمام الرذيلة اي بوادر تنامي عودة ما يسمى بالدولة العميقة وبالحنين الى دولة الاستبداد .
الحنين الى التعامل مع فترة الانتقال الديمقراطي على هذه الخلفية الاعتباطية المدمرة هو الذي قد يهدد التجربة برمتها ويأتي على ما تبقى منها . خاصة و انها تفتقد الى المعابير الموضوعية وتتحكم فيها المصالح الحزبية الضيقة والهوس بالسلطة والهرولة من اجلها ولا ثورة ولا هم يفرحون .
اخشى ما نخشاه على حكومة السيد إلياس الفخاخ ان تسقط في هذا الفخ وهذا المستنقع و وهذه الرمال المتحركة . ولقائل ان يقول لما هذا التوجس ولما ذا لا تسوس البلاد بطرفي المعادلة الديمقراطية المعترف اليها اي الحكم من جهة والمعارضة من جهة اخرى. وهو الرأي الذي أصبح يتقاسمه جزء هام من النخب السياسية الحريصة على توضيح مجال الحكم و مجال المعارضة حتى نعرف من يحكم ومن يعارض وحتى يتمكن الناخب من معاقبة او تثبيت الساهرين على شؤونه بين موعدين انتخابين تأكيدًا لمبدأ التداول السلمي على السلطة من خلال صناديق الانتخابات. ولعل ما كان يفسر تحفظ البعض على إدارة شؤون البلاد على هذا النهج يرجع الى طبيعة النظام الانتخابي نفسه وحتى السياسي الذي لا يساعد على هذا الفرز الطبيعي والمألوف في الديمقراطيات العريقة اي وجود حكم ومعارضة واستحالة تكوين حكومات بالاعتماد على حزب او مجموعة احزاب بمفردها مهما تفوقت على خصومها في الانتخابات وهو ما تأكد في انتخابات 2014 و2019. كما ان الحاجة الى تمرير القوانين المنظمة للحياة السياسية والضرورية لتسهيل حياة التونسيات والتونسيين بتطوير اقتصادهم ومعيشتهم والشراكة مع المؤسسات الدولية لا يزال يتطلب وفاقًا برلمانيًا واسعًا وقد اثبتت المدة النيابية المنقضية صواب ووجاهة هذه المقاربة وزيف الشعارات الفضفاضة والمواقف الثورجية ولم يحكم في تمرير القوانين من عدمه التي مرت على البرلمان منطق المعارضة او الحكم او اعتبارات الثورة او الأيديولوجية او الهوية. والأسف ان العديد من الحالمين بالعودة الى ثنائية بائسة ويائسة تتمحور حول الثورة والثورة المضادة او الحكم والمعارضة لم تستوعب الدرس بل وتصر الحاحا على اعادة انتاج الفشل والغوغائية. ومن المفارقة ان يزداد الوضع تعقيدًا بتصاعد دعوات القطيعة من مختلف الأطراف والضدية منها بالخصوص. ففي حين بدا الحزب الدستوري الحر يضغط على الكثير من الأحزاب والكتل النيابية المحسوبة على الصف التقدمي بإحراجها ومطالبتها بالقطيعة مع حركة النهضة وتكوين قطب واسع ذي أغلبية برلمانية يسعى البعض الآخر الى التقوقع في قطب باسم الثورية والراديكالية والقطع مع الماضي والحنين اليه .
عودة هذا الاحتقان من جديد قد يأتي على الأخضر واليابس وقد يهمش من جديد النخب الوطنية التي تحتكم الى قيم العقل والحكمة والاعتدال والتوازن والعيش المشترك . الحلال بين والحرام بين وهي ليست دعوة لثنائية جديدة وانما وبالرجوع والاهتداء بمقولة السيد احمد المستيري زعيم حركة الاشتراكيين الديمقراطيين التي انجبت التكتل الذي يأتي منه السيد إلياس الفخفاخ اليوم هو "نداء للتعقل " وتغليب الحكمة والعمل على اوسع وفاق وطني ممكن لتشكيل الفريق الحكومي على قاعدة الرجل المناسب او المرأة المناسبة في المكان المناسب بعيدا عن المحاصصة الحزبية الضيقة على حساب عنصر الكفاءة والنزاهة ولكن بحزام سياسي واسع . وهو لا يلغي ولا يجب ان يلغي الحوار المجتمعي أحزابًا ومؤسسات افرادا وجماعات حول الاختيارات الكبرى كالإصلاح التربوي و منظومة التكوين والتشغيل ومجال الخلق والابداع ونمط المجتمع عمومًا وقضايا الحريات الفردية والعامة والتي تبقى من المهام المواطنية بالأساس على اهمية دور الدولة وباقي القطاعات . وفي الأخير اتوجه على سبيل المثال لا الحصر الى الأخوة في تحيا تونس و لي في صلبه صداقات اعتز بها ما هو تعريفكم للثورة و الصف الثوري واين ترون الثورة المضادة واين تصنفون انفسكم ؟؟ وماهي البرامج ذات الهوية الثورية ؟؟و ماهو تصوركم للحكم والمعارضة ؟ و ما هو دور المنظمات الوطنية اليوم ؟ وماهي أسس علاقاتنا الخارجية ؟ وما هي أقوم المسالك والمناهج للمصالحة مع شباب تونس ؟ وكيف نقضي على تسرب غول العنف والدين والفساد في السياسة ؟ وفي الحقيقة وحتى لا نتهم باستهداف هذه الحركة دون غيرها فان كل الفاعلين السياسيين معنيين بالإجابة عن هذه الأسئلة ردًا لاعتبار حوار الأفكار بعيدا عن صراع الديكة و حوار الطرشان وتطويرا للوعي المشترك بعيدا عن حالات الاغماء نتيجة حالات الوعي التي يبشر بها البعض و حتى نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود و تتوضح اكثر الصورة للمواطن التونسي المغلوب على أمره وحتى نساهم في اعادة عناوين النبل للسياسة ومقاصدها الأصلية.

 

 المنصف عاشور

ناشط سياسي مستقل

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter