alexametrics
أفكار

في الذكرى التاسعة للثورة: هل ما زالت الجزيرة "قوة ناعمة" وهل ما زال أحد يتابعها؟

مدّة القراءة : 6 دقيقة
في الذكرى التاسعة للثورة: هل ما زالت الجزيرة

 

نشرت جريدة "الصحافة" التابعة للحكومة بتاريخ 27 ديسمبر 2010، أي قبل 18 يوما على مغادرة الرئيس زين العابدين بن علي البلاد بلا رجعة إلى السعودية وسقوط منظومة الحكم التي كان يرأسها، مقالا تحت عنوان "تونس عصيّة على قناة "الجزيرة" مما جاء فيه:

 

"...يلاحظ المتابع لتعاطي هذه القناة مع الشأن التونسي أنها تجرّدت من أبسط شروط الموضوعية المهنية وأخلاقيات العمل الصحفي لتركب أحداثا عادية تحدث في أي بلد بما في ذلك البلدان المتقدمة وتستغلها من أجل تضليل الرأي العام من خلال التكرار الممجوج لنفس الافتراءات ونفس الصور دون أن تشير إلى مصادرها ودون أن تتثبّت من صحتها...فقد فقدت هذه القناة مصداقيتها لدى المشاهدين التونسيين والعرب بعد أن افتضح أمرها وتحولت إلى بوق دعائية فجّة للظلاميين والإرهابيين والفوضويين والانتهازيين…"

 

وفي مقابلة مع جريدة "العرب" القطرية بتاريخ 31 ديسمبر 2012، قال رئيس حركة النهضة السيد راشد الغنوشي: 

 

"...اعتقدْتُ طوال الفترة الماضية أن صراع الجزيرة مع الحكام العرب سينتهي بسقوط أحدهما، فحالف الـنصـر قـناة الجزيرة، ونصرُها لا يعني سوى انتصار ونصر للإعلام الحر على مـا يسمى «القطب الأسود». فــقــد جابـت الديمقراطية مشارق الأرض ومغاربها إلا المنطقة العـربية الـتـي ظـل حكامها يـنعـمـون بـالـتعتـيم الـتام حـتى انـتـصرت هذه القناة المحايدة واستطاعت كشف سترهم، مما جعلها شريكة في الثورات العربية". وأردف الغنوشي: "وبعد نـجاح الثورات العربية، جاء دور دولة قطـر لـتصـبح شريكاً فـــي التنمـية فـي بلدان الـربيع العربي، لذلك فنحن ممتنون لدولة قطر سواء في المساعدة على إنجاح ثـورات الربيع العربي أو دعم الدول التي انبثقت عن هذه الثورات…"

 

لا يمكن لعاقل أن يجادل في أن  قناة "الجزيرة" القطرية حققت منذ أن بدأت بثها في نوفمبر 1996، تحت شعار "الرأي والرأي الآخر" أو "صوت من لا صوت لهم" وتحت غطاء مساندة مطالب الشعوب العربية في الحرية والحياة الكريمة، اختراقا كبيرا للمجتمعات العربية، حيث تمكنت من النفاذ إلى بيوت الناس وتملّكت مشاعر الجماهير ورافقت تطلعهم إلى الحرية والكرامة والعدالة والرخاء، فلعبت دورا لا يمكن حجْبُه في إشعال ثورات "الربيع العربي"، وساهمت في تأجيج المد الثوري في بلدان مثل تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن...مركزة في ذلك على انسداد أفق الإصلاح السياسي وصعوبة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والأمنية السائدة في معظم البلدان العربية. كما لا يمكن التشكيك في أن الناس خرجوا عام 2011 إلى الشوارع لأنهم ما عادوا قادرين على تحمل الظلم والاضطهاد والفقر وفساد الدولة، فطالبوا بالحرية والعدالة والتنمية وإرساء دولة القانون.

 

لكن، وبعد مرور تسع سنوات، لا مناص من الإقرار بأن الثمن الذي دفعته الشعوب العربية مقابل الحرية باهظ جدا من حيث أن أوضاع الناس ازدادت تدهورا وبُؤسا على ما كانت عليه نتيجة الفوضى التي أعقبت الانتفاضات الشعبية، مما أدى إلى إضعاف الدولة الوطنية وترهل مؤسساتها وتقويض سيادة الدول وأمنها القومي وتفشي الإرهاب والعنف والإقتصاد الموازي وتولي حكومات تبين أنها، ورغم أنها منتخبة، أكثر عجزا وجشعا وفسادا من التي سبقتها خلال حقبة الاستبداد.  

 

وعلى الرغم من أن الانتفاضات الشعبية لم تنقطع إلى يومنا هذا وما زالت الجماهير العربية تصرخ بأعلى صوتها ضد البؤس والظلم والاستبداد وهيمنة الأقليات التي تملك كل شيء على الأغلبيات التي لا تملك أي شيء وفقدت الأمل في كل شيء، في تونس والجزائر ولبنان والعراق ومصر والسودان… فإن المتابع الدائم لقنوات شبكة "الجزيرة" وما تفرع عنها من مشاريع إعلامية قطرية منتشرة في العديد من مناطق العالم، لا يحتاج إلى كثير من التجرد ليتبين أن تلك القنوات قد فقدت منذ 2011 الكثير من بريقها، واضمحلت نسبُ مشاهدتها في البلدان التي كان الرأي العام فيها مدمنا على متابعة برامجها و ملتصقا بتغطيتها، وتونس في هذا السياق نموذج يستحق الدرس.

 

فأمام ما أحدثه الإعلام الفضائي الخليجي من نقلة وما أثاره من هرَجٍ في المشهد السياسي والإعلامي العربي لمدة ناهزت عقدين من الزمن، لم يعد اليوم خافيا على أحد أن القنوات الإخبارية الخليجية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس طوال الحقبة التي واكبت فيها الانتفاضات العربية في نهاية 2010، وعلى رأسها قنوات "الجزيرة" القطرية و"العربية" السعودية، كانت في واقع الأمر محكومة بأجندات تتداخل فيها المصالح والحسابات الإستراتيجية والأمنية الإقليمية والدولية بالمصالح السياسية، في ظل صراع محموم من أجل التلاعب بخارطة المنطقة العربية ونقل مركز القرار العربي من "دول المحور" المنهكة والرافضة لأي إصلاح (الدول العربية الكبرى مصر، العراق، سوريا، الجزائر، السودان وحتى السعودية…) لصالح "دول الطرف" الجامحة (الإمارات، قطر…)، مثلما كتب ذلك الصحفي الأمريكي توماس فريدمان المقرب جدا من دوائر القرار الخليجية في كتابه "The Lexus And The Olive Tree" الصادر عام 1999.

 

ولا ريب اليوم في أن ما كانوا يزعمونه من استقلالية ويتشدقون به من حرية في الآراء ومهنية في الأداء ليست سوى مغالطات للجمهور المتلقي واستخفاف بذكائه وقدرته على التمييز بين الإعلام النزيه والمتوازن من جهة، والتضليل من أجل التأثير على العقول وتوجيهها إلى واقع جديد أحيانا ما يُصنع في غرف الأخبار من جهة أخرى. 

 

فضلا عن ذلك، فإن تلك القنوات كانت وما تزال خاضعة كليا، في تمويلها وسياساتها التحريرية، لإرادة البلدان التي تملكها وتُوَجهها حسب مصالحها والأهواء والغرائز المسيطرة على نفوس حكامها وتتحكم في أرزاق العاملين بها ولا تكترث لا بـ"المصالح العربية المشتركة" ولا بالقيم والسلوكيات التي تسود أي عمل إعلامي حر ومستقل، وبالتالي، فإنه لا مناص هنا من القول إن الإعلام الخليجي ما زال، رغم الإمكانيات المالية والبشرية الهائلة التي توفرت له دون غيره في البلدان العربية الأخرى، مقيدا بصراع الأجندات والنفوذ والتموقع، ويفتقر إلى الحد الأدنى من الاستقلالية والأمانة في التعامل مع التحديات الحقيقية التي تواجهها  الشعوب العربية في هذه الحقبة الكالحة والمضطربة من تاريخها.

فعلى سبيل المثال، تحولت منذ عاميْن ونيف الترسانة الإعلامية الضخمة التي تملكها الدول الخليجية المتنازعة فيما بينها والتي أنفقت عليها عشرات مليارات الدولارات، (قطر من جهة، والإمارات والسعودية والبحرين مع مصر على الجهة المقابلة)،  إلى مجرد أدوات للتضليل وصناعة الأوهام والضغائن الصبيانية، إذ أنها تقدم مضمونا مبتذلا ومقتبسا عن النظرية المنسوبة للزعيم النازي جوزيف غوبلز "اكذب حتى يصدقك الناس"، وهي نظرية برهنت أن من يتحكم في وسائل الإعلام يسيطر على الرأي العام ويمتلك "القوة الناعمة" التي بإمكانه أن يحسم بها لصالحه النزاعات والحروب.

 

ومنذ أن تعرضت قطر يوم 5 جوان 2017 إلى مقاطعة دبلوماسية مرفوقة بحصار اقتصادي بري وبحري وجوي من جانب السعودية والإمارات والبحرين ومصر بذريعة أنها بلد داعم للإرهاب ويؤيد حركة الإخوان المسلمين ويتدخل في شؤون جيرانه عبر إعلام معادي...، لا يمكن لمن يتابع الفضائيات التابعة للجانب السعودي الإماراتي مثل "العربية" و"الحدث" و"سكاي عربية"...، إلا أن يخرج بانطباع مفاده أن قطر ليست تلك الدولة الصغيرة التي وصفها السفير السعودي السابق في واشنطن بندر بن سلطان ذات يوم عام 2013 بكل مهانة بأنها "ليست سوى 300 شخص.. وقناة تلفزيونية، وهذا لا يشكل بلدا"، بل تحولت قطر بقدرة قادر إلى قوة تمارس شتى أصناف التآمر والطغيان على جيرانها المسالمين، وتمتلك ترسانة من الأسلحة و مخزونا هائلا من الأموال تتولى القيادة القطرية توزيعها على شتى الحركات الإرهابية لترويع الخليجيين والعرب وزعزعة أمنهم!

 

أما على الجانب الآخر، فإن المتابع للقنوات القطرية، سواء"شبكة الجزيرة" أو قنوات "العربي الجديد" التي يشرف عليها النائب العربي السابق في الكنيست الإسرائيلي عزمي بشارة رئيس "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وهو أحد أذرع "القوة الناعمة" القطرية على الصعيدين الأكاديمي والإعلامي وله فرع في تونس، أو غيرها من القنوات الموجهة إلى مصر وسوريا التي تملكها الدوحة أو تمولها في تركيا والبوسنة وبريطانيا، أو منصات التواصل الاجتماعي التي يُدار بعضها في الغرف الخاصة، سيتبين أن قطر ليست سوى المدينة الفاضلة التي بشّرَ بها أفلاطون، لكنها تعيش وسط محيط متخلف وجيران حاسدين لها على نجاحاتها وما حباها الله به من ثروات، ويريدون إخضاعها لإرادتهم من أجل الاستيلاء على ثرواتها! في الأثناء، تُواصل تلك القنوات خوض حملات إعلامية بنفس الأدوات والأساليب الرخيصة التي يستعملها إعلام الطرف الآخر، وتبث خطابا تحريضيا ضد السعودية والإمارات والبحرين وخصوصا ضد نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي…

 

وأمام انعدام التوازن و الموضوعية في وسائل الإعلام الخليجية، لا عجب في أن بعض المحللين العرب، يعتمدون تجاه الأزمة الخليجية مواقف عدمية إذ لا يُخفِون "شماتتهم"، ويعتبرون أن النزاع بين السعودية والإمارات وقطر ليس سوى نتيجة حتمية للخيارات والحسابات الخاطئة لحكام تلك البلدان وخضوعهم المطلق للإرادة الأمريكية وتبذير مواردهم المالية الهائلة في شراء الذمم والتآمر ضد مصالح الشعوب العربية لا سيما بالنظر إلى ما اقترفته حكومات تلك الدول من جرائم في حق السوريين والليبيين واليمنيين… كما يعتبر أولئك المحللون أن ليس في الأزمة الخليجية بين قطر "وشقيقاتها" طرف ظالم وآخر مظلوم، طرف على حق والآخر على باطل، لأن مفاتيح حل تلك الأزمة محفوظة في البيت الأبيض، ومتى حسمت واشنطن قرارها و"أمرت" بعودة الصف الخليجي إلى الإنضباط والتماسك، سوف تلتزم كل الأطراف بما أمر به العرّاب الأمريكي.

ويبدو أن الأمور بدأت مؤخرا تسير في اتجاه حدوث انفراج وربما تغييرات جوهرية في مواقف الأطراف المعنية بالأزمة ونوعية العلاقات المستقبلية فيما بينها.

 

ففي الوقت الذي افتتح فيه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بطولة كأس الخليج لكرة القدم يوم 26 نوفمبر 2019 بحضور منتخبات الإمارات والسعودية والبحرين التي حظيت بترحيب كبير من المسؤولين القطريين رغم أنها تمثل الدول المقاطعة، نقلت صحيفة Wall Street Journal، وهي صحيفة محافظة موثوقة المصادر في منطقة الخليج ولا تجازف بنشر أخبار غير مؤكدة، أن وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، قام خلال شهر أكتوبر الماضي بزيارة لم يُعلن عنها إلى السعودية حيث التقى كبار المسؤولين بالمملكة. ووصفت الصحيفة الأمريكية  الزيارة بـ"الجهد الأكثر جدية" لإنهاء الحصار المستمر منذ أكثر من عامين بين حلفاء الولايات المتحدة. والمُلفِتَ هنا، أن الصحيفة نقلت عن مصدر قطري لم تذكره بالاسم قوله إن الوزير بن عبد الرحمن قدم عرضا "مفاجئا" للسعودية من أجل إنهاء الحصار، ويتمثل في أن "الدوحة مستعدة لقطع علاقتها بجماعة الإخوان المسلمين، وأن هذه الخطوة تمثل فرصة  لإنهاء النزاع".

 

المتابع لوسائل الإعلام ، سيما القنوات الإخبارية، القطرية والسعودية والبحرينية وحتى الإماراتية خلال الأسابيع القليلة الماضية لا يسعه إلا أن يقر بأن حملات التشويه والقذف المتبادلة قد خفت حدتها أو توقفت تقريبا بين الجانبين، مما يعني أن تلك القنوات قد تلقت توجيهات صارمة بالإمتناع عن التصعيد أو الإساءة، لأنه قد تكون هُناك في غضون الأيام المقبلة فرصة مواتية للصلح بين الدول الخليجية. 

 

ورغم أنه  يصعب التكهّن بالتطورات المُقبلة في هذا المِلف في انتظار انعقاد قمة مجلس التعاون يوم 10 ديسمبر الجاري، وما إذا كان الأمير تميم آل ثاني سيتوجه إلى الرياض لحضور أعمالها وتكريس المصالحة، فإن المؤكد أن المشهد الخليجي مقبل على تغييرات في السياسات والتحالفات والتموقع الإستراتيجي ستكون لها دون شك انعكاسات مباشرة على الجوار العربي بما في ذلك على المشهد التونسي، سيما إذا ما تأكد أن قطر مستعدة لقطع علاقاتها مع حركة الإخوان المسلمين..

 

مما يعني أن الأجندة السياسية، وبالتالي الإعلامية، قد تغيرت، وأن حركات الإسلام السياسي المدعومة من قطر، ومن بينها حركة النهضة التي حازت المرتبة الأولى في الإنتخابات التشريعية الأخيرة وفاز رئيسها برئاسة مجلس نواب الشعب وتطمح إلى تشكيل حكومة ائتلافية يكون لها فيها نصيب من وزارات السيادة، مقبلة على أيام قد تكون صعبة، وأن وسائل الإعلام التي وظفتها قطر خلال الحقبة الماضية للوقوف بكل ثقلها في خندق الإسلام السياسي وعلى رأسها قنوات شبكة الجزيرة التي وصفها الأستاذ الغنوشي بـ"الشريكة في الثورة العربية"، سيُعاد تأهيلها وترتيب أولوياتها من أجل تعديل المسار الحالي ومواكبة التغييرات المنتظرة التي لا يبدو أنها ستكون شكلية هذه المرة...ولعل في هذا ما يقض مضجع كثيرين ويصيبهم بالضيق والنكد!





 

 

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter