قيس سعيد: أسباب التراجع
خطر العودة إلى القمع، اعتقالات مقلقة ، انتهاكات قانونية… وكانت وسائل الإعلام الوطنية والدولية غير مطمئنة نهاية هذا الأسبوع لما يحدث في تونس ، بعد سلسلة من الإيقافات وإصدار بطاقات تفتيش بحق نواب ومحامٍ.
يوم أمس الإثنين 2 أوت الجاري، قرّر قاضي التحقيق العسكري لدى المحكمة الإبتدائية العسكرية الدائمة بتونس، إلغاء بطاقات التفتيش الذي كان قد أصدرها منذ ثلاثة أيام. وقرّر في هذا الإطار، إطلاق سراح النائب الراديكالي ماهر زيد وتركه في حالة سراح، وكان قدّ تمّ إيقاف ماهر زيد يوم الجمعة الفارط 30 جويلية المنقضي. ماذا حدث لتبرير هذا التراجع؟
الأحد 25 جويلية 2021، وعملا بالفصل 80 من الدستور، قرّر رئيس الجمهورية قيس سعيّد، في إطار الحفاظ على كيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها وضمان السير العادي لدواليب الدولة، إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي، تجميد عمل واختصاصات المجلس النيابي لمدّة 30 يوما، رفع الحصانة البرلمانية عن كلّ أعضاء مجلس نواب الشعب، تولي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة ويعيّنه رئيس الجمهورية. كما أعلن أنه سيواجه كل الفاسدين وجهاً لوجه وكل من يختبئ وراء الحصانة هروبا العدالة.
هذه القرارات والتدابير الإستثنائية، رحّب بها كلّ التونسيون الذين خرجوا بأعداد كبيرة للإحتفال بتلك القرارات وخاصّة بنهاية الإسلاميين الذين جعلوا البلاد تجثوا على ركبتيها على مدى السنوات العشر الماضية.
وفقا لإستطلاع الرأي الأخير الذي أجراه معهد إمرود كونسلتينغ لبزنس نيوز، فإنّ 87 بالمائة من التونسيين ساندوا قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيد التي اتخذها يوم 25 جويلية، و86 بالمائة من التونسيين أكدوا أنهم مع قرار تجميد مجلس النواب لمدة 30 يوما و 88 بالمائة من العينة المُستجوبة ساندوا قرار رفع الحصانة عن النّواب.
للتونسيّين رغبة حقيقية لإنهاء حالة الإفلات من العقاب التي يتمتع بها العديد من النواب ورغبة قويّة لتحقيق العدالة بين كلّ المتقاضين على قدم المساواة.
النصوص الدستورية واضحة، الفصل 68 من الدستور ينصّ على : ''لا يمكن إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضد عضو بمجلس نواب الشعب، أو إيقافه، أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها، أو أعمال يقوم بها، في ارتباط بمهامه النيابية''.
ولكن، نجد أنّ النواب قد ضاعفوا في الأشهر الأخيرة ، التجاوزات على القانون دون إهتام أو خوف من العدالة. النيابة لم تتفاعل ضدّ هذه التجاوزات بحجة تمتّع هؤلاء النواب بالحصانة ، على الرّغم من أنّ الجرائم المرتكبة لا علاقة لها بالعمل البرلماني. في غالب الأحوال، يتمّ ارسال استدعاءً للنائب المُشته به، وإذا لم يستجب هذا الأخير للاستدعاء (وهو ما يحدث في أغلب الأحيان) ، فإنّ النيابة لا تفعل شيئًا.
حالة الإفلات من العقاب، هي التي أثارت استياء التونسيين، وهي التي دفعت قيس سعيد لأن يقول أنه سيضع حدا لذلك.
الجمعة 30 جويلية 2021، فوجئ التونسيون باعتقال النائب المستقل ياسين العياري. وكان قد صدر ضدّ العياري حُكم غيابي بشهرين منذ سنة 2018، واختبئ وراء حصانته حتى لا يمتثِل لعقوبته. غير أنّ ياسين العياري، بعيد كلّ البعد على أن يكون عدو الشعب رقم 1. منذ أن أصبح نائبا بالبرلمان، لم يرتكب العياري أيّ إساءة جسيمة، وإدانته بها نوع من الغموض. وحوكم ياسين العياري من قبل المحكمة العسكرية لإنتقاده الجيش في منشور على فيسبوك عندما كان مدوِّنًا وكانت تهمته " المشاركة في عمل يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش بقصد الإضرار بالدفاع والمس من كرامة الجيش الوطني و معنوياته''.
ولكن في الديمقراطيات المحترمة ، لا تتمّ إدانة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، بالأخصّ لا تُصدر أحكام سالبة للحرية من أجل آراء أو انتقادات مهما كانت حرجة. وعندما نعلم أنّ ياسين العياري أعلن من خلال تدويناته بشكل واضح أنّه ضدّ قرارات 25 جويلية المنقضي، والتي وصفها بأنها انقلاب، هذا نذير واضح أنّ اعتقاله يندرج في إطار تصفية حسابات وليس تنفيذاً عادياً لحُكم قضائي ضد شخص اختبأ وراء حصانته.
في نفس اليوم، الجمعة 30 جويلية، تمّ الإعلان عن اعتقال النائب الراديكالي ماهر زيد. على عكس ياسين العياري، فإنّ هذا الخبر لقي رواجًا كبيرا في وسائل التواصل الاجتماعي التي أشادت باعتقال هذا الإسلامي المتطرف المعروف بدفاعه الشرس عن المُشتبه بهم في الإرهاب والتشكيك في العمل الهائل الذي تقوم به فرق مكافحة الإرهاب. أشتُهر ماهر زيد بإفلاته من العدالة في مناسبات عديدة، على الرّغم على الرغم من الحكم عليه بالسجن. نشك بقوة في تواطؤ قضاة مسيسين، مقربين من الإسلاميين ، لتّكتّم على ملفاته. وتأكدت هذه الشكوك، في نفس اليوم الذي قدّم فيه محامو هذا النائب كفّ تفتيش عن موكّلهم. وهذا يعني أن الرّجل لم يعد مطلوبًا من قبل العدالة، على الرغم من الإدانات. وهذا بالتحديد ما ندّد به التونسيون وهم ينتظرون بفارغ الصبر أن يضع الرئيس قيس سعيّد حدا لهذه المحسوبية الصارخة.
وبعد أن قضى ليلة في السّجن، قرّر قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بمنوبة الإفراج عن ماهر زيد، لأنّ لا خيار آخر له كي يتصرّف بطريقة أخرى، ذلك أنّ ماهر زيد لم تصدر ضدّه أيّ برقية تفتيش. وأثناء خروجه من المحكمة، تفاجئ ماهر زيد بوجود قوات الأمن خارج المحكمة تحاول إيقافه من جديد لحظة خروجه. وتمّ إعلامه أنّ المسألة تتعلّق بقضية أخرى وهي حادثة مطار تونس قرطاج التي تورّط فيها هو رفقة العديد من زملائه النواب في ائتلاف الكرامة والمحامي مهدي زقروبة. تمّ إصدار بطاقات جلب في حقّهم، وتحوّلت القوات الأمنية إلى منزل العديد منهم وكانت في بعض الأحيان تدخّلات عنيفة تمّ فيها استعمال أسلوب القوّة. ندّدت عائلات نواب ائتلاف الكرامة بتلك التدخلات الأمنية العنيفة، حتى أنّه تمّ تصويرهم داخل منازلهم دون علمهم، وكانت عائلة النائب الإسلامي المتطرف محمد العفاس قد أطلقت صيحة فزع مندّدين بالفضيحة، إذ اقتحمت قوات الأمن بالقوّة المنزل ودخلت إلى غرفة الإستحمام بينما كانت فتاة صغيرة تستحمّ تستحمّ.
بغض النظر، سواء كانت قضية المطار صحيحة أم لا ، هناك شعور بالتصدّي الشرس للإسلاميين الراديكاليين في الكرامة، وهناك شعور بأنّ المعارضين للرئيس سعيّد هم فقط من تستهدفهم أوامر التفتيش والاعتقالات. وأدان أنصار ائتلاف الكرامة بصوت عالٍ ما اعتبروه انتهاكات قضائية، وعودة إلى القمع. كما أنّ وسائل الإعلام الوطنية تبنّت استراتيجية حذرة تقتصر على نقل الحقائق، ليس خوفًا من القمع، ولكن بسبب التناقض واستحالة التحقق من المعلومات التي يتلقونها.
نواب ائتلاف الكرامة الإسلاميّين صرّحوا أنّ المحكمة العسكرية هي التي تقف وراء الإيقافات المتعلّقة بقضية المطار. في حين أنّ مكتب المدعي العام في تونس صرّح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء أنّ المحكمة الابتدائية بتونس هي التي فتحت تحقيقا في هذه المسألة منذ يوم الخميس 29 جويلية المنقضي. وبذلك، لم يعرف أحد من كان يقول الصدق ومن كان يكذب. كما لم يُعرف ما إذا كان القضاة العسكريون أو القضاة المدنيون هم من حققوا في القضية و أصدروا أوامر الاعتقال. وما جعل الأمور لا تبدو في نصابها الصحيح، هو أنّ المحكمة العسكرية غذت مناخ عدم اليقين بصمتها التام. لا يوجد بيان رسمي حول هذا الموضوع طوال عطلة نهاية الأسبوع (وحتى الآن لهذا الأمر)، نفس الشيء بالنسبة لرئاسة الجمهورية ، التي لا تزال تفتقر إلى مكتب إعلام ومتحدث رسمي.
الإثنين 2 أوت الجاري، تمّ إيقاف رئيس حزب الفلاحين فيصل التبيني ، على خلفية شكاية كان قد تقدم بها وكيل الجمهورية الأسبق في 10 أكتوبر 2019 أحيل بموجبها التبيني بتهمة "ترويج أخبار زائفة والإساءة للغير عبر الشبكات العمومية للاتصال والدعوة إلى العصيان المدني". ويتناقض هذا الاعتقال مع من يقول إن قيس سعيد يهاجم خصومه فقط ، لأنّ التبيني أيّد الرئيس بقوة في قراراته ، ويندرج إيقاف التبيني في منطق مكافحة الإفلات من العقاب المعلن عنها في 25 جويلية الفارط. لنُشر أنّ التبيني متعلّقة به عدّة قضايا من أجل التشويه ونسبة ادعاءات غير قانونية والقذف العلني عبر شبكات الاتصال العمومية، ولكنّه بقي متحصّنا بالحصانة.
في نفس اليوم، 2 أوت، دخل المحامي مهدي زقروبة في اعتصام بمقر مجلس الهيئة الوطنية للمحامين بتونس، بالمحكمة الابتدائية بتونس، رافضا تنفيذ بطاقة الجلب الصادرة في حقه المتعلّقة بحادثة المطار ومطالبا عميد المحامين بالتدخل، في حين أنّ قوات الأمن ظلوا أمام المحكمة لتنفيذ القرار بالقوّة.
لنُشر هنا إلى وجود مخالفة واضحة للقانون، إذ ينصّ الفصل 46 من المرسوم التشريعي رقم 79 الذي ينظم مهنة المحاماة على ما يلي: "إذا وقعت تتبعات جزائية ضد محام، يتم إعلام رئيس الفرع الجهوي المختص بذلك حينا. ويحال المحامي وجوبا من طرف الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف على قاضي التحقيق الذي يتولى بحثه في موضوع التتبع بحضور رئيس الفرع المختص أو من ينيبه للغرض''.
وبإعتبارهم العدو رقم 1 ، تحوّل نواب الكرامة وأنصارهم إلى ضحايا. وسائل الإعلام الدولية تتحدث بصراحة عن عودة القمع، ولم يعد النواب هم من يخالفون القوانين الآن بل أصبح نظام قيس سعيد يقوم بذلك. لم يعد التونسيون ضحايا جشع وعنف نواب ائتلاف الكرامة ، بل أصبحوا هم الضحايا.
غياب التواصل، انتهاكات للقانون، تنفيذ للإجراءات بطريقة وحشية، الدخول للمنازل بالقوّة، أصبح الشيء يزيد عن حدّه.
والمحاكمة والخطأ والإعدامات الوحشية والدخول القسري للمنازل ، بدأت في التزايد. الدولة عن طريق جهازها القضائي ارتكبت العديد من الأخطاء خلال الثلاثة أيام الأخيرة.
من الضروري إعادة صياغة كلّ هذا، ورئيس الجمهورية هو نفسه الذي أعطى تلك الأوامر لتعود بنا إلى الوراء، علمت بزنس نيوز. وقيس سعيّد مع إيقاف المتجاوزين للقانون، ولكنّه يرفض أن تتمّ الإيقافات بطريقة تُنتهك فيها الحقوق.
في مساء يوم الإثنين، 2 أوت الجاري، أصدر قاضي التحقيق العسكري لدى المحكمة الإبتدائية العسكرية الدائمة بتونس، اليوم الإثنين 2 أوت 2021، إذن بكف التفتيش عن كلّ من سيف الدين مخلوف وعبد اللطيف العلوي، ومهدي زقروبة، ونضال السعودي، ومحمد العفاس في انتظار استكمال بقية الإجراءات القانونية في حقّهم.
وماذا بعد؟ هل هذا تراجع مؤّقت أو هو انسحاب تكتيكي؟
ووفقا لمعلوماتنا، فإن رئيس الجمهورية قيس سعيّد يريد من القضاء أن يتّحد ويؤدي وظيفته على الوجه الصحيح، بغض النظر عن هوية المشتبه بهم. وأنّه لا يريد أن يُفلت الفاسدين وكل من يختبئ وراء الحصانة البرلمانية من العدالة. ولهذا الغرض، ناشد القضاة العسكريين، معتقدًا أنهم أكثر استجابة من القضاة المدنيين، خاصة وأنّ هؤلاء في عطلة الآن.
من المهم أن يتم تجميع الملفات بشكل جيد كي لا يُندّد النواب والمتهمين بالفساد الذين سيتمّ اعتقالهم، بالظلم وبالإيقافات اللاقانونية كما فعلوا في نهاية هذا الأسبوع. يريد رئيس الجمهورية إذا، أن يظهر كرجل عادل يطبق القانون بصرامة دون تمييز، ولهذا تراجع أمس بعد أن استنتج أنّ المحكمة العسكرية لم تنجح في إعداد الملفات جيدا. كما أنه أدرك أنّه متأخّرا، أنه أعطى صورة سيئة لتصفية الحسابات عندما يكون القضاء العسكري هو الذي يحكم على المدنيين.
مُترجم عن المقال بالنسخة الفرنسية
تعليقك
Commentaires