قيس سعيد ....و"حلم" الحكم الفردي المطلق
الاستبداد والحكم الفردي المطلق مرض عضال متأصّل في المنطقة العربية منذ قرون ، وشكّل احدى العقبات الكأداء امام تحرّر طاقات الشعوب وتقدم مجتمعاتها ، واحدى العوامل الرئيسية لتكبيلها واعادة انتاج تخلّفها .
وقد شخّص المؤرخ ابن ابي الضياف استفحال مرض "حكام الاطلاق" منذ القرن 19 في تونس ودعا الى "تقييده" بالدساتير والقوانين. ومثله فعل المؤرخون والمفكرون في المشرق على غرار السيد جمال الدين الافغاني وعبد الرحمان الكواكبي وعلي عبد الرازق وغيرهم من جيل المصلحين الاوائل.
وخاض الشعب التونسي في الفترة الاستعمارية المباشرة معركة مزدوجة للتحرر من الاحتلال ولتكريس السيادة الشعبية ودفع فيها عشرات الشهداء يوم 9 أفريل 1938وبعدها.
وقد اصطدم الجيل الأول المعارض من شباب دولة الاستقلال باستبداد "المجاهد الاكبر" وتحويله السلطة الى أداة حكم فردي مطلق لا ينازعه فيه شخص او شعب برمّته .وورث عنه "صانع التغيير" نفس نموذج الحكم المستهتر بارادة الشعب والمستبدّ بالسلطة استبدادا مطلقا.
وبعد مضيّ 9 سنوات على سقوط بن علي ، واصدار دستور جديد يكرس الفصل بين السلطات ويطوي صفحة الحكم الرئاسوي ، يبدو أن التخلّص من ذلك المرض العضال مهمة مطروحة ولم يقع استئصاله والتخلّص منه بعدُ، خاصة بعد التأكّد من اصابة السيد قيس سعيد بهذا المرض وتمكّنه منه .
فلا يمضي يوم ، دون ان يفصح السيد قيس سعيد بصفته رئيس الجمهورية التونسية الضامن "نظريا" لعلوية الدستور واحترام بنوده - عن مواقف وممارسات تنمّ عن عزم صريح على العودة المستحيلة بالتاريخ الى الوراء، عبر استعادة نموذج الحكم الفردي المطلق ، وذلك بخرقه للدستور الذي انتُخب على أساسه ، و بتجاوزه لصلاحياته الموكولة له فيه .
وفي هذا الصدد ، مثّل مسلسل تكوين واعلان الحكومة الجديدة لهشام المشيشي خلال الايام القليلة الماضية دليلا واضحا على هذا التوجّه الاخرق.
فرئيس الجمهورية تجاوز صلاحياته وتدخّل فيما لا يعنيه من تعيينات وزراء الحكومة باستثناء الداخلية والدفاع، وسعى الى فرض أتباعه المقربين فيها ( رئيس حملته الانتخابية في سوسة كمثال).
كما أنه أصبح لا يتورّعُ عن التلبّس بدور المفتي الديني الذي يسعى لــ"ـتشريع" مواقفه الرجعية والمناهضة للحريات بفتاوى وتاويلات من "الشريعة".
و لم يتورّع يوم أمس 27 أوت 2020 ، عن توجيه طعنة مباشرة ومخجلة وعلنية لمصداقية رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي ، المؤهل وحده لتشكيل الحكومة حسب الدستور، الذي اقسم سعيد على احترامه.
فبعد ان أعلن المشيشي صباحا عن تخلّيه عن تكليف المدعو وليد الزيدي بحقيبة وزارة الثقافة بعد اكتشاف الراي العام لتصريحاته المتضاربة ولايغاله في الكذب والاحتيال، استقبل قيس سعيد هذا الاخير في قصر قرطاج مساء ، وأشبعه تمجيدا ومدحا ودعما وتثبيتا له في المنصب المقترح ، تبريرا منه لاختياره له ، ولغاية فرضه على رئيس الحكومة الذي سحبه صباحا من قائمة الوزراء المقترحين.
يجهل السيد قيس سعيد الذي لم يقارع الحكم الاستبدادي يوما في حياته زمن الحاكم بأمره بورقيبة ثم بن علي ، ولا زمن من حاول اقامة سلطة الحاكم بأمر الله في تونس في فترة الترويكا ، أن مآل ما يسعى اليه هو الفشل الذريع ، وأن "لباس" المُستبدّ "العُمري" أو البورقيبي أكبر منه ، وأنّ "دور" الحاكم الفردي المطلق الذي يطمح له طواه التاريخ ،
وسيطوي مستقبلا كل من "يحلم" بعودته الى تونس .
مُجدّدا ، طابت ذكرى الشاعر الفيلسوف العظيم ابو العلاء المعري الذي قال صادق القول بما يتطابق من عصره على عصرنا :
"يسُوسُون الامور بغير عقل ...فينفذُ أمرهم ويُقالُ ساسهْ
فأفّ من الزمان وأفّ منّي ...ومن زمن رئاسته خساسهْ"
تعليقك
Commentaires