إعداد الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أجل تلبية متطلبات وظائف المستقبل
بقلم فريد بلحاج
إذا استمرت الاتجاهات السكانية الحالية، فإنه بحلول عام 2050 ستحتاج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى إيجاد ما يربو على 300 مليون وظيفة. وليس هذا المستقبل ببعيد. بل إن التحدِّي الأشد هو ضرورة إن يتم على وجه السرعة إيجاد أكثر من 10 ملايين وظيفة سنويا لمواكبة الطفرة السكانية التي تشهدها المنطقة. ويقتضي هذا حراكا اقتصاديا قادرا على تحويل عنفوان الشباب وطاقاتهم إلى نمو يساعد على خلق الأسواق.
فمِن أين ستأتي كل تلك الوظائف، وما هي طبيعتها؟ يشارك البنك الدولي في تونس هذا الأسبوع في عقد اجتماع مع الحكومة التونسية سيجمع صانعي القرار وممثلين عن المجتمع المدني والقطاع الخاص من شتَّى أرجاء المشرق العربي لمناقشة تلك المسائل الحيوية. وأدعو الجميع بالمنطقة وخاصة الشباب منهم إلى الانضمام إلى هذه المناقشة الحيوية وإرسال آرائكم في أفضل السبل للاستعداد للمستقبل. و لتسهيل ذلك، سيتم بث الحدث مباشرة على الإنترنت مع تغطية واسعة على وسائل الاتصال الاجتماعي.
أود أولاً العودة إلى عام 1963، وهو العام الذي صنعت فيه تونس التاريخ من خلال إقناع البنك الدولي في المساعدة على تطوير نظامها التعليمي والترويج له، مما أدى بسرعة إلى تقوم بلدان أخرى بالاستفادة من هذه التجربة وتنفيذها. وبعد خمسة وخمسين عاماً، أصبح نموذج التعليم السائد في المنطقة في آخر أنفاسه. إن دول المنطقة على وعي تام بهذا الانخفاض. وقد تطوع عدد من هذه البلدان الآن للمشاركة في مشروع رأس المال البشري للبنك الدولي - وهو جهد جماعي للاستثمار بذكاء وحسم في أكثر موارد الإقليم قيمة: رجاله ونسائه وشبابه.
إن الكثير من الأطفال الذين يدخلون المدرسة الابتدائية اليوم في العراق أو المغرب أو تونس سيعملون ذات يوم في وظائف لم يتم بعد ابتكارها. فالتقنيات الرقمية تتطوَّر بسرعة مذهلة، وتخلق نماذج عمل جديدة، وتُحدِث تحوُّلات سريعة في طبيعة العمل. والتحدي الذي تواجهه بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كما هو الحال في أماكن أخرى في العالم، هو التكيُّف مع الاقتصاد الرقمي الجديد، وتسخير طاقاته وإمكاناته، والحرص على تزويد كل جيل جديد بالقدرات التي تُمكِّنه من اقتناص الفرص التي يخلقها.
أن تقرير التنمية في العالم 2019 الذي أصدره البنك الدولي تحت عنوان الطبيعة المُتغيِّرة للعمل تقول إن التقنيات الجديدة قد تُحفِّز الابتكار بالقدر الذي يفعله التشغيل الآلي، وقد تكون مصدرا لنمو سريع. كثيراً ما يتحدث الإعلام عن التهديد الذي تشكله الروبوتات والتكنولوجيات الجديدة على العمال اليدويين اليوم. والحق أن الخطر الحقيقي يتمثل في التقاعس عن اللحاق بركب هذه الثورة الاقتصادية الجديدة. إن المزاوجة بين التقنيات الجديدة والقطاعات الإنتاجية مثل النقل والزراعة والطب والأعمال المصرفية هي الطريق إلى المستقبل، الطريق الذي لا يمكننا نحن أنفسنا ألا نسلكه.
ليس بعيداً عنا، ففي دولة الإمارات العربية المتحدة بدأ تطبيق كريم لخدمات النقل عبر تكنولوجيا المعلومات كمشروع ناشئ وأصبح الآن شركة بمليار دولار، توفر آلاف الوظائف وفرص العمل في أنحاء المنطقة. وتزدهر أمثلة أخرى من المغرب إلى فلسطين وتقدم دليلا على أن الإبداع والابتكار ينتشران في منطقتنا. وموقع الشركات الرقمية اليوم ليس بالأهمية التي كان عليها فيما مضى. فالشركات المبتدئة يمكنها التوسُّع سريعا خارج المناطق الصناعية، اعتمادا على عدد صغير من الموظفين وباستخدام أصول مادية قليلة. ويُتيح هذا فرصا كبيرة للمبدعين من الشبان والشابات في أنحاء المنطقة وخارجها.
ويبدو بوضوح أن الأعمال اليدوية التي تتضمَّن القيام بأفعال متكررة تتعرض للخطر من التكنولوجيا. ومن الواضح أيضا أن الشباب المتعلم في المنطقة تراوده طموحات وآمال أن يكونوا أكثر من مجرد أرقام في خط تجميع. ولذلك، بات من المهم أكثر من أي وقت مضى أن يتزوَّد الشباب بالمهارات المطلوبة في الاقتصاد الرقمي، مثل العمل الجماعي أو أسلوب عمل الفريق، وحل المشكلات، وهي المهارات التي يصعب على الذكاء الصناعي محاكاتها.
ومع التغيُّرات التي يشهدها العالم، يجب أيضا أن تتكيَّف النُظُم التعليمية، وأن تتكيَّف الآن! وقد أهملت هذه النُظُم طويلا إعداد الشباب من أجل المتطلبات الفعلية لاقتصادات السوق، وهو ما أدَّى إلى تخريج أجيال غير مزودين بالمهارات التي تلائم متطلبات العالم الحديث الذي نعيش فيه.
ومن الضروري إجراء إصلاح عميق للنُظُم التعليمية في المنطقة، كما أوضح التقرير الرئيسي للتعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي أصدره البنك الدولي في الآونة الأخيرة تحت عنوان (توقعات وتطلعات). ويجب أن يبدأ ذلك الإصلاح في التعليم في مرحلة رياض الأطفال التي لا يلتحق بها حاليا سوى 30% فحسب من الأطفال في المنطقة، وذلك على الرغم من الشواهد الواضحة على أن السنوات الأولى من العمر هي الفترة التي تُكتَسب فيها القدرة على تعلم مهارات جديدة بسرعة. وفي الوقت نفسه، يجب إصلاح الكتب المدرسية والمناهج للابتعاد عن الأسلوب القديم للتعلم الذي تغلب عليه الجوانب العقائدية، للتركيز على تشجيع التفكير النقدي والحرص على تزويد الشباب بالثقافة الرقمية. ويساعد نظام التعلُّم مدى الحياة أيضا على مواكبة الوتيرة السريعة للتغير، ويتيح للناس الفرصة والمرونة لتعلم مهارات جديدة والتكيُّف مع التغيُّرات. وقد دشنت تونس مسار ريادة الأعمال لمساعدة طلاب الجامعات على إعادة توجههم نحو العمل في القطاع الخاص عبر مزيج من التدريب على أنشطة الأعمال والتوجيه الشخصي. أطلقت تونس مسار ريادة الأعمال الذي يساعد طلاب الجامعات على إعادة توجيههم نحو القطاع الخاص من خلال مزيج من التدريب على الأعمال والتدريب الشخصي.
في مؤشر رأس المال البشري الجديد الصادر عن البنك الدولي، والذي يمنح البلدان طريقة لقياس تأثير استثماراتها في المستقبل على صحة وتعليم سكانها ، سجل المغرب العربي مع بقية دول المنطقة أقل من أقرانهم. يمكن للشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن يتوقعوا في المتوسط أن يكونوا نصف منتجين فقط ، مقارنة بما كانوا سيؤدونه إذا ما حصلوا على تعليم أفضل وخدمات صحية جيدة. واصطفت البلدان من منطقة المغرب العربي والشرق الأوسط عموماً لمعالجة هذه الفوارق، مع التزامات بزيادة وتحسين استثماراتها في بناء رأس المال البشري. وستركز المناقشات التي ستجري في وقت لاحق من هذا الأسبوع في تونس على الخطوات العملية للارتقاء بتلك الالتزامات.
وفي مؤشر رأس المال البشري الجديد للبنك الدولي، الذي يمنح البلدان وسيلة لقياس تأثير استثماراتها في صحة وتعليم مواطنيها على مستوى الإنتاجية مستقبلا، سجل المغرب العربي وباقي أنحاء المنطقة درجات متدنية عن نظرائهم. فشباب المنطقة ليس بوسعهم إلا أن يتوقعوا أن يحققوا نصف الإنتاجية التي كان بإمكانهم تحقيقها لو كانوا في صحة كاملة وحصلوا على تعليم جيد. واصطفت بلدان المنطقة للتصدي لهذه التباينات، حيث قطعت التزاما بزيادة الاستثمار في بناء رأس المال البشري وتحسينه. وستركز النقاشات في تونس في وقت لاحق من الأسبوع الحالي على خطوات عملية لدفع هذا الالتزام قدما.
وبالإضافة إلى الاستثمارات في التعليم والصحة لبناء رأس المال البشري، سيتعين القيام باستثمارات تكميلية في رأس المال المادي. ومع أن الهواتف المحمولة أصبحت واسعة الانتشار، فإن المنطقة سجَّلت بعضا من أدنى معدلات الدخول إلى شبكات النطاق العريض المحدودة أساسا. ويضع هذا قيودا شديدة على القدرة على الابتكار وإطلاق مشروعات رقمية جديدة. وتضاهي أهمية النطاق العريض في الاقتصاد الرقمي الأكسجين للبقاء على قيد الحياة، ويجب أن يكون هدف تعميم وصول الجميع إلى شبكات النطاق العريض أولوية وطنية وإقليمية.
ويجب أن تقترن بهذا التوسُّع إصلاحات تتسم بالمرونة والتكيُّف مع الظروف السائدة لتسهيل المدفوعات الرقمية بين الأفراد التي تساعد أيضا على تعزيز الاقتصاد الرقمي. وعلى النقيض من شبكات النطاق العريض، يزيد عدد الاشتراكات في خدمات الهاتف المحمول على عدد السكان في المنطقة. ومن خلال إمكانية الوصول إلى خدمات الإنترنت عالية السرعة، والمدفوعات الرقمية يستطيع عدد أكبر من الناس الاستفادة من هواتفهم حتى لا تظل مجرد مظهر اجتماعي، واتخاذها بدلا من ذلك وسيلةً للنمو الاقتصادي واستخدامها لأغراض إنتاجية.
ونظرا لأن التقنيات الجديدة تضر بالوظائف القديمة، وتخلق وظائف جديدة، فإن الكثير من الناس قد يواجهون فترات من البطالة مع سعيهم لمواكبة التحوُّل. وبالإضافة إلى فرصة تعلم مهارات جديدة، سيحتاج الناس إلى المساندة خلال هذه الفترات. وسيتطلَّب هذا أنظمة أكثر مرونة للضمان الاجتماعي ليست مرتبطة بوظائف مُعيَّنة. وتواجه المنطقة بالفعل مستويات عالية من النشاط الاقتصادي غير الرسمي، إذ إن أعدادا كبيرة من العاملين ليست لديهم عقود عمل، ومحرومون من الحصول على تغطية التأمين الاجتماعي. وإذا تم إصلاح أنظمة الضمان الاجتماعي، فإن ذلك سيساعد على معالجة مشكلة ارتفاع مستويات النشاط الاقتصادي غير الرسمي، وإعداد بيئة العمل لتلبية متطلبات المستقبل. سوف نعمل مع دول المنطقة لتطوير أنظمة الضمان الاجتماعي الجديدة كوسيلة لإقامة التوازن الحيوي بين الابتكار والانتقال الاقتصادي وسلامة جميع المواطنين.
إن شباب اليوم في المنطقة تراودهم طموحات وتطلعات هائلة. والبنك الدولي ملتزم بمساندتهم على كافة المستويات لتخفيف المعوقات التي تحول دون إطلاق العنان لطاقاتهم المبدعة. وسنستمر في العمل مع الحكومات، وصناع القرار، وكل شرائح المجتمع للمساعدة على إطلاق هذه القدرات، لأننا نؤمن بأنه في أيدي شباب المنطقة يمكن أن تصبح تقنيات اليوم والغد الجديدة قاطرة لتحقيق النمو وبلوغ الأمل المنشود.
الكاتب هو نائب رئيس البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
تعليقك
Commentaires