الجبن السياسي والشعبوية في الخطاب السيادي
سعيدة خماسي*
*صحفية مستقلة
لطالما كانت "السيادة" مبحثا دينيا وفلسفيا وقانونيا، وسياسيا، واستراتيجيا، واقتصاديا. وبما أنها رهان سياسي، فقد استعملها الطغاة عبر التاريخ الحديث لترويض شعوبهم وتدريبهم على الطاعة والولاء.
نشأ مفهوم سيادة الدول تاريخيا مع نشأة الخرائط، حيث تقوضت نماذج الحكم القروسطية وبرزت امكانيات جديدة للسلطة السياسية وتشكلت حينئذ الدولة الاقليمية ذات السيادة.
ومن المتعارف عليه ان نظام الدولة الحديثة أحدث بعد معاهدات وستفاليا التي انهت حرب الثلاثين عاما في اوروبا سنة 1648. غير ان اكتمال ترسيخ الدولة الخرائطية بسلطتها ونظامها ظل ينتظر حتى انتهاء فترة نابليون بونابارت. ومنذ ذاك التاريخ، أي القرن التاسع عشر، تغير وجه العالم وبرزت القوى الاستعمارية الكبرى التي بسطت "سيادتها" خارج مجالها الجغرافي الى مجالات أخرى بعيدة وقريبة واستفاقت الشعوب على تقسيمات امبريالية، أبرز مدبريها: فرنسا وبريطانيا وهولندا، والبرتغال، واسبانيا، وايطاليا. فيما تلاشت قوى أخرى وذهبت ريحها لأنها أغفلت قوة تأثير الخرائط على إدراك ممارسة، بل، وتمطيط السيادة ...
ولقد شكلت تلك الخطوط الجيومترية الافتراضية المرسومة على الورق قاعدة اعتمدتها منظمة الأمم المتحدة بعد انشائها عقب نهاية الحرب العالمية الثانية لتعريف الدول الإقليمية وحصر سيادتها وحقوقها النظرية.
ينص القانون الأممي في فصله الثاني على مبدا السيادة لكل شعب له أرض وحكومة شرعية. وترتكز تلك السيادة على مبادئ استقلال الدول والتمتع بحرية اتخاذ القرار وعدم تدخل كيانات أخرى (تدخل عسكري أو في الشأن الداخلي) وكذلك مبدأ المساواة مع الدول الأخرى أمام القانون والهيئات التحكيمية الدولية.
غير أن القانون الدولي لا يضمن ممارسة مطلقة للسيادة في الدول الاعضاء في الامم المتحدة. بل يجعل تلك الممارسة تنطوي على واجب الحماية وتكريس المساواة والحقوق والحريات بين افراد الشعب داخل الدول، وإلا فإن التدخل الخارجي يصبح واجبا قانونيا سواء على المنظمات الدولية أو القوى النافذة فيها.
ويتبادر الى اذهاننا حينئذ مبدأ العقوبات الدولية التي تقرها المنظمات والمحاكم والهيئات وتطبقها مجموع الدول على دولة محددة.
بل إن بعض تلك العقوبات قد تسلطها دولة على دولة أخرى وتنفذها بواسطة سلسلة من القوانين من ناحية، وسلسلة من الحلفاء الاستراتيجيين من ناحية أخرى.
لا تكاد خطابات رئيس الجمهورية المتشنجة أو المونولوغ الذي يقدمه مسجلا الى الشعب التونسي عبر صفحات التواصل الاجتماعي، تخلو من تكرار التأكيد على "السيادة الوطنية" وحريته هو شخصيا في اتخاذ القرار على اعتبار أن من يحكم هو من يسود، وطالما هو الذي يمثل سيادة الشعب الذي انتخبه.
ولا أعتقد ان رئيس الجهاز التنفيذي يغفل ان سيادة الحكام، مستمدة من مدى حذقهم وحرفيتهم وحكمتهم في ممارسة سيادة الشعب التي أوكلها إليه. فإذا انتفت تلك الصفات فإن الحاكم يفقد تلك السيادة، حتى وإن تشبث بالحكم في ظل مطالبة الشعب برحيله... كما وأن السيادة يجب ان تعترف بها الدول الأخرى وإلا فإنها ستتلاشى.
ويعتبر التغاضي عن هجرة التونسيين غير الشرعية الى الضفة الشمالية من حيث المبدأ، اعتداء على سيادة تلك الدول. فهل ان ذلك موجب للعقاب؟! فيما تقع بلادنا عمليا في مجال "سيادة اوروبا التجارية" خاصة في مجال الصناعات الميكانيكية. بل إن الاتحاد الاوروبي سبق وأن سلط على بلادنا عقوبات مالية من تجميد أرصدة وادراج في لائحة سوداء ورمادية بتهمة غسيل الأموال. أوليس هذا دليل على زئبقية "السيادة الوطنية"؟!
ولست أنفي هنا ما جاء في مداخلة الرئيس قيس سعيد خلال قمة التيكاد 8، من عودة انكماش الدول في مجالها الخرائطي بعد صدمة العولمة والحديث بقوة عن "سيادة الدول" خصوصا خلال وبعد أزمة كوفيد 19.
السيادية عدوة للمصالح الوطنية
مثلما تبين لنا، فإن "السيادية" بما هي هوس سياسي تعني آليا العزلة والحمائية الداخليتين، بل هي عنوان التطرف السياسي ورفض الآخر والعنصرية وبالتالي الإفلاس السياسي والتخلف. وهي عدوة للتوسع الاقتصادي والاستراتيجي للدول ومكبح للإشعاع الإقليمي والدولي للأمم والشعوب.
إن السيادية لا تولد أبدا من النظريات الاقتصادية، فالسيادية الاقتصادية ليس لها مجال جغرافي محدد. وأساليب الحكم الموغلة في السيادية عبر التاريخ وجدت بعد الثورات والانهيارات المؤسساتية وحروب الاستقلال والحروب الاهلية… فهل هذا هو الحال في بلادنا؟!
ومن المعلوم أن الفكر السياسي المحترف وممارسته ينطويان على التحرك في كل الاتجاهات الممكنة وتغيير وجهات النظر بتغير الظروف، فالسياسة منذ ماكيافيلي هي "علم الممكن"…وهذا يتضاد حتما مع "السيادية السياسية" التي تنطوي على فكرة العنف وضيق الأفق والشعبوية المقيتة، فضلا عن أنها محاولة بائسة للتموقع السياسي.
وسط عالم مخضب بمخاطر التغير المناخي وبالصراعات الاستراتيجية والحروب على مناطق النفوذ وبسط السيادة على مجالات جغرافية خارج الخرائط، بنية السيطرة على مصادر الطاقة والمعادن الثمينة وكذلك على المعابر والمضائق البحرية التي هي عقدة سلاسل الإمداد والتبادل التجاري الدولي، لا يمكن لتونس ان تختار الانكماش داخل "سيادتها" الجغرافية… فالاقتصاد لا ينمو أبدا بالسوق الداخلية، بل يستوجب البحث عن مجالات "سيادة تسويقية"، بعيدة أو مجاورة، لئلا تبتلعنا قوى دولية أو اقليمية أخرى، فتذهب ريح "سيادتنا السياسية".
وبرغم تجاهل القانون الدولي لها فإن "سيادة الدول" متعددة، تتمدد وتنحسر، تقوى وتضعف تبرز وتنضب بواسطة الأمر الواقع … فهناك السيادة العسكرية (وهي أن تصنع لجيشك كل السلاح الذي يحتاجه مع تطويره) وهناك سيادة تمارس وتهيمن عبر التكنولوجيا (أبرزها تكنولوجيا الاتصال الرقمي وبواسطة عمالقتها: غوغل وميكروسوفت وامازون وآبل وفايسبوك)، وهناك السيادة الغذائية (وهي أن تنتج الدولة كل ما يحتاج شعبها من غذاء)، وقس على ذلك من السيادة الطاقية والصحية والقانونية وحتى الابستمولوجية والابداعية …فاذا ضعفت إحداها كتب على "سيادة الدولة" التراجع والهوان.
وفي ظل هذا وذاك ذهب بعض الدارسين للقانون الدولي الى القول إن السيادة "مجرد وهم" وإن العالم من دون سيادة أصلاً، وهي فقط مسؤولية مشتركة بين جميع الدول والشعوب.
سيادة الشعب التونسي في دولته
ليس مذهب هذا المقال الدعوة الى التنازل عن السيادة الوطنية، بل هو دعوة الى تهذيبها وتشذيبها وتحديدها وجعلها وسطية متزنة وسلاح ناعم … وخاصة إبعادها عن التسويق السياسي الرخيص. فممارسة الحاكم لسيادة الدولة قد تقتل الشعب وقد تحييه.
إن الجانب التطبيقي لسيادة الشعب في أرضه هي أن يحكمها ويقرر في شأنها ما يشاء وقتما يشاء بالطريقة التي يشاء … ولضمان ذلك وجب إنشاء المؤسسات والقوانين والسلط الحرة المستقلة المنفصلة عن بعضها والمراقبة لبعضها (التنفيذية والتشريعية والقضائية) تكريسا لسيادة الفرد والمجموعة، وهو ما افتقده دستور 25 جويلية 2022!!
وانطلاقا من أن إرادة الشعوب في الحرية والانعتاق لا تقهر، فإن التونسيين لن يقبلو مطولا العيش في جو من إستلاب السيادة على قراره الوطني ولن يقبل بمصادرتها تحت أي مبرر.
ويجدر بالرئيس قيس سعيد ان يحث التونسيين الغافلين منهم على العمل والانتاج، إذ بدونهما لا معنى للسيادة الوطنية … فقيمة العمل هي الضامن الوحيد لقوة السيادة وإعادة بعثها إذا ما أصابها جرح. ولنا في الشعب الألماني مثال يحتذى… كيف لا وهو الذي أخرج بلاده من طور الاحتضار الى ديناميكية سيادية خارقة تجاوزت الحدود الجغرافية الى الإشعاع الحضاري.
كما يجدر بقيس سعيد أيضا العمل على حماية سيادة التونسيين الرقمية بعدم رهن الأخبار والمعلومات الوطنية لموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك، هذا الغول الرقمي الأجنبي القادر على إختراق كل المعطيات الشخصية والكلمات المفاتيح والأسرار البنكية لمستعمليه.
تعليقك
Commentaires