متى وكيف تكون المقاطعة الإعلامية؟
مدّة القراءة : 3 دقيقة
سألتني زميلة محترمة عن رأيي في موضوع المقاطعة الإعلاميّة لطرف سياسيّ ما، هل تصحّ؟
جوابي هو الآتي:
الصحفي من واجبه أن يؤدّي وظيفة أساسيّة، وهي تلبية "حقّ الجمهور في الإعلام"، أي أن يُعلمه بكلّ ما يهمّه في مواضيع الشّأن العامّ بدون إقصاء أو انتقائية أو تغليب رأي على آخر.
فالصحفي يجب أن يكون في خدمة هذا الجمهور، وليس في خدمة أي طرف سياسي. كما على الصحفي، ألّا يعتمد المقاطعة كردّ فعل ذاتي (انتقاما لتعرضه للنقد مثلا) ، لانّ ذلك يُخرجه عن حياده.
لكن تطبيق مبدإ احترام حق الجمهور في الإعلام له ضوابط أخلاقية مهنية وحدود يمكنُ أن تصلُ في أقصاها إلى وجوب المقاطعة.
فما هي الحالات؟
هي مُتعدّدة، مثل مقاطعة أيّ متحدّث أو طرف سياسي وغيره:
- يدعو إلى ممارسات فيها خرق للقانون، بما في ذلك الدفاع عن الإرهاب أو الإشهار له، والتحريض على العنصريّة وممارستها.
- لا يحترم الدستور ومضامينه، اعتبارا إلى أنّ الدستور هو المنظم لمختلف الظواهر السياسية في إطار الدولة، وبالتالي فإنّ هذه المضامين هي اتفاق مشترك بين كلّ فئات الشعب ولا يمكنُ المساس بها.
- لا يحترم معتقدات الشعب الدينية والأديان الأخرى.
- عدم احترام حقوق الإنسان في كونيتها بما في ذلك الاستهزاء بعناصر الهوية لأي شعب من الشعوب كاللغة والثقافة وطريقة العيش، ألخ...
وهناك حالات تدخل في باب التحفظ عن التعليق على الأخبار أو الخوض فيها بالنقاش لما يتعلق الأمر بقضايا تمّ التعهد بها قضائيا حتّى لا يتمّ التأثير على سير المحاكمات. ويجري في هذه الحالات الاكتفاء بالخبر المجرّد عن سير القضية (إحالة/استنطاق/إدانة/ بدء محاكمة/ صدور أحكام...). ولا يجوز فتح المجال للتعليق والتحليل إلا بعد صدور الحكم القضائي النهائي.
كيف تتمّ المقاطعة؟
المقاطعة تكون أساسا بتجاهل أي طرفٍ يُعرف بمواقفه التي تتكرّر فيها تجاوزاته القانونية والأخلاقية من منطلق إيديولوجي أو عقائدي أو فقط لكسب الشهرة، سواء منها تصريحات أو بيانات، وعدم إعطاء هذا الطرف الفرصة للتعبير عن هذه المواقف المرفوضة (باسم الجمهور، وليس بصفة شخصية من الصحفي). فالإعلام في دول الديمقراطيات العريقة يتجاهلون بالكامل تصريحات وأنشطة النازيين الجدد أو المتطرفين اليمينيين من دعاة العنف، وحتّى المدافعين عنهم.
لكن الإعلام يتحدّث عنهم إذا أتوا بأعمال خطيرة (شغب، مظاهرات عنيفة، اعتداءات...) لكن بدون استجوابات لأي واحد من أعضاء هذه المجموعات، أي أن الإعلام يتحدث عنهم (تلبية لحق الجمهور في الإعلام)، ولا ينقلُ منهم مباشرة...
ومعروف أنّ البعض من تلك المجموعات السياسية أو السياسيين يُكثِرون من التحركات والتصريحات المُستهجنة أو الخطيرة أحيانا حتى يهتمّ بهم الإعلام. لذا، فعلى الصحفي ألاّ يسقط في فخّ الضغط عليه بكثرة هذه التصريحات، وعليه أن يتجاهلها، خاصة إذا لم يكن فيها جديد وجب إعلام الجمهور به.
وهل ينطبق الأمر حتى على من هو منتخب من الشعب؟
نعم. فعادة ما تكون مثل هذه المجموعات السياسية أقلّيات. ويمكن أن يوجد في برلمانات الدول الديمقراطية من هو معارضٌ للدستور وحتى لنظام الحكم في الدولة، لكن تعامل الإعلام معه قليل جدا. ففي بريطانيا يوجد في برلمانها حاليا سبعة أعضاء من حزب "شين فاين" الجمهوري الإيرلندي (أي مناهض للملكية التي يتمسك بها البريطانيون عموما) ، وأحدهم عضو في البرلمان الأوروبي. لكن حديث الصحافة البريطانية مع البرلمانيين الجمهوريين هو قليل ومناسباتي جدا (مثال : معارضة الشين فاين للبريكسيت اعتبارا إلى أنه يهدد السلم في إيرلندا الشمالية).
وفي الولايات المتحدة الأمريكية المعروفة بالثنائية القطبية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، توجد العشرات من الأحزاب السياسية الصغيرة (بما فيها حزب شيوعي تأسس سنة 1919)، والتي لبعضها مقاعد في البرلمانات المحلّية على مستوى الولايات. لكن الإعلام الأمريكي لا يهتمّ بأخبار تلك الأحزاب ولا يُدعى زعماؤها للنقاشات الإعلامية التي تخوض في الشأن العام لأن رأيهم لا يهمّ إلا فئات قليلة أو لا أحد.
وهل ليس للأقلّيات حقّ في إبلاغ صوتها في الإعلام، أقله احتراما لمبدئي التوازن والحياد؟
نعم، لهم الحقّ في ذلك. لكن التقيّد بمبادئ الحياد والتّوازن والإنصاف والنّزاهة لا تعني ضرورة توزيع توقيت البثّ في السمعي والبصري أو المساحات على الصفحات بالتّساوي الكامل لكلّ الأحزاب سواء في البرنامج الواحد أو على مختلف برامج الشّبكة من ذات النّوع أو النسخة الواحدة للجريدة. فالنّزاهة تنطوي عادة على أكثر من مجرد مسألة "توازن" بين وجهات النظر المتعارضة. وتقول القاعدة الأساسيّة التي تعتمدُها مواثيق السّياسات التّحريريّة في الإعلام السّمعي والبصري العمومي بالدّول الدّيمقراطيّة، إنّه يجب السّعي إلى تحقيق "الوزن الواجب"، بمعنى أنّه لا ينبغي بالضرورة إعطاء وجهات نظر الأقليات وزنا أو أهمية مماثلة للمجموعات التي تتمتع بدعم أكبر، أو بالإجماع من قبل الجمهور.
ومن الأخطاء الشائعة في إعلامنا، أنّه يفتح المجال واسعا لسياسيين لا يمثلون إلا أنفسهم أو يمثلون بعض الفئات القليلة، بسبب أفكارهم المستهجنة أو الغريبة، رغم أن النسبة الأكبر من الجمهور ترفض تلك الأفكار.
والحلّ في مثل هذه الحالات ليس بالمقاطعة الكاملة والمباشرة (يا طورة يا فورة)، بل بعدم إعطاء أي طرف حجما أكبر من حجمه الحقيقي، وبشرط أيضا ألا يكون تورط في حالة من الحالات المذكورة أعلاه والتي تدعو للمقاطعة .
تعليقك
Commentaires