قضية نبيل القروي تكشف عيوب مرفق العدالة في تونس
الأيام القليلة الماضية شهدت تحركات وأنشطة مكثفة لرئيس حكومتنا .. فبعد ليبيا، تحوّل هشام المشيشي مرفوقا بوزير المالية، علي الكعلي، إلى قطر حيث قدّم الوضع الاقتصادي المتأزم الذي تمر به تونس نتيجة الجائحة الوبائية .. هنا وهناك حضرت الوعود بالاستثمارات وكذلك الودائع في خزينة الدولة وحتى المساعدات .. تمشّي حكومتنا يذكّرنا للأسف بالمتسوّلين المرابضين قرب إشارات المرور الضوئية، لأن العمل مرهق، هم يفضّلون استجداء المال من سائقي السيارات على حساب كرامتهم الشخصية وحفظ ماء الوجه .. لأن الإصلاحات موجعة والمفاوضات مع الأطراف الاجتماعية الشريكة صعبة ومضنية، تخيّر هذه الحكومة أن تغرق الأجيال القادمة في الديون وتستجدي المال من الأمم المزدهرة .. هذه الحكومة لا يهمها إذا أهينت كرامتنا، المهم بالنسبة إليها تمويل ميزانية الدولة.
ورغم ذلك فإن الحل لأزمتنا الاقتصادية واضح .. صحيح أن تنفيذه صعب لكنه واضح .. هذا الموضوع تطرقنا له في أعمدة سابقة .. منفذنا الوحيد هو عملنا. ليس أمام الدولة من خيار سوى التفويت في المؤسسات العمومية الناشطة في القطاعات التنافسية والتقليص من المصاريف الزائدة عن الحاجة وتشجيع المؤسسات على المزيد من الإنتاج والتوظيف ودفع المواطن التونسي على مضاعفة الجهد.
غير أن المشيشي ليس مستعدا بعد لأن يطلب من التونسيين ومن شركائه الإجتماعيين، القيام بالتضحيات اللازمة، لأنه يعتقد أن الأمر محسوم وأن القضية خاسرة مسبقا. من بين عشرات الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا الصدد: ماذا سيحصل لو أن هشام المشيشي قرر الاستغناء عن العمل بنظام الحصة الواحدة خلال شهري جويلية وأوت لمزيد دفع الإنتاحية ؟ في غياب الشجاعة السياسية لمطالبة الشعب بأشياء لا تحظى بالشعبية اللازمة، فإن الحكومة (هذه وغيرها من الحكومات)، تفضّل التضحية بالأجيال القادمة والتضحية بكرامة هذا الشعب أيضا. عاشت ليبيا، عاشت قطر، عاشت فرنسا، عاشت الولايات المتحدة، عاش صندوق النقد الدولي، عاشت كل دولة تقرضنا بعض الفتات حتى نقدر على توفير لقمة العيش ومواصلة العيش في كنف الاسترخاء والكسل والعطالة الدائمة .. لنكن صُرحاء ونزهاء مع ذواتنا ولنحذف عبارة "كرامة" من الدستور (الفصل 4) ومن قواميسنا.
يوم الخميس الماضي عقد نوّاب "قلب تونس"، ندوة صحفية، لتنبيه الرأي العام إلى المظلمة التي تستهدف رئيس حزبهم، نبيل القروي. قبل ذلك بيوم اجتمع المكتب السياسي للحزب، بصفة استثنائية، للتداول في الملف القضائي للقروي وقد توصّل إلى أن الإيقاف التحفظي لرئيس قلب تونس غير قانوني.. كيف ذلك ؟ المكتب السياسي للحزب فسّر الأمر بوضوح .. حسب الفصل 85 من مجلة الإجراءات الجزائية فإن مدة الإيقاف التحفظي محددة بستى أشعر أي 180 يوما ولا يمكن أن يزيد الإيقاف عن هذه المدة، إلا إذا تم تجديده في الآجال، وهو ما لم يتم تطبيقه في قضية الحال.
يعتبر المكتب السياسي لقلب تونس أن نبيل القروي محتجز منذ يوم 4 ماي 2021، خارج القانون، مطالبا بإطلاق سراحه فورا. كما استنكر الإبقاء على رئيسه رهن الإيقاف التحفظي ومعتبرا أن في ذلك "خرق واضح للقانون .. هذه القضية سياسية بامتياز ووراءها أطراف معلومة تصرّ على الإبقاء على نبيل القروي رهين السجن لمنعه من ممارسة حقه المشروع في النشاط في الحقل السياسي". كما قال المكتب السياسي إنه يعتزم تدويل هذه القضية للتعبير عن استنكاره لعملية الإحتجاز "غير القانونية".
الخوض في ملف نبيل القروي أمر حسّاس لأسباب مختلفة أولها أن طائفة كبيرة من الشعب تعتبر (سواء كانت محقّة أو لا) أنه مذنب. قد لا يكون موقوفا للأسباب التي كان يجب أن يحاكم لأجلها، لكنه مذنب. لا أحد نسي تلك "القوافل الإنسانية" التي ساهمت في الدفع بحزب قلب تونس إلى مقدمة الساحة السياسية والحصول على 416 ألف صوت في الإنتخابات التشريعية و36 مقعدا في البرلمان. نبيل القروي نفسه تحصّل على 525 ألف صوت في الدورة الأولى من الإنتخابات الرئاسية وأكثر من مثليون صوت في الجولة الثانية .. كما وظّف قناته "نسمة" التي تصدرت نسبة المشاهدة (في كثير من الأحيان)، للقيام بحملاته الإنتخابية في التشريعية والرئاسية. لولا جمعيته الخيرة "خليل تونس" ولولا قناة "نسمة"، لما أمكن لحزب قلب تونس ولنبيل القروي النجاح على الصعيد السياسي هذا أمر لا ريب فيه كما أن التهم الموجهة ضده لا يرقى إليه أي شك.
غير أن نبيل القروي ليس موقوفا من أجل هاتين القضيتين .. فهو أصلا لم تتم متابعته قضائيا من أجل ذلك .. نبيل القروي تلاحقه شبهة في تبييض الأموال والتهرب الضريبي وقد تم إيقافه لهذا السبب في المرة الأولى عام 2019 في أوج الحملة الإنتخابية وقد سجن لذلك. ثم في 24 ديسمبر 2020 .. إذا كان إيقافه في المرة الأولى مشبوها وتشتم منه رائحة تصفية الحسابات السياسية، فهذا لا ينطبق على إيقافه في المرة الثانية والذي تم استنادا لتقرير تقدّم به قاضي التحقيق .. تقرير شككت في نزاهته هيئة الدفاع وكذلك أصدقاء اليوم (أعداء الأمس) أي النهضة وائتلاف الكرامة الذين يعتقدون جازمين بأن نبيل القروي بريء وبأنه محتجز سياسي.
بالنسبة إلينا في بيزنس نيوز فإن مبدأ العدل فوق كل المبادئ الأخرى .. نحن مقتنعون قناعة راسخة بأن العدل أساس كل شيء وبأنه دون عدل لا يمكن أن يتحقق ازدهار ولا يمكن الحديث أصلا عن مجتمع .. في غياب العدل تصبح الحياة مجرد غابة حيث يسود قانون الغاب.
لذلك كنا ضد توجهات الكثير من "الثورجيين" الذين طالبوا في 2011 بالزج برموز النظام السابق في السجون، مهما كانت درجة مسؤوليتهم .. ولهذا السبب أيضا كما ضد الروح الإنتقامية التي تعاملت بها سهام بن سدرين، الرئيسة غير المستقلة لهيئة الحقيقة والكرامة.
مبدأ إعلاء العدل معمول به في معظم الدول الديمقراطية وهو ما سمح لهذه الديمقراطيات بأن تصبح دولا عظمى مزدهرة.
العدل منصوص عليه بوضوح في دستورنا التونسي وتكفله عديد الفصول.
حين نتأمل في ملف نبيل القروي وبقطع النظر عما إذا كنا مقتنعين بكونه مذنبا أو لا، نلاحظ وجود خرق واضح وجلي لستة فصول من الدستور..
"المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز" (الفصل 21). "تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد وتمنع التعذيب المعنوي والمادي (الفصل 23).
"المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تُكفل له فيها جميع ضمانات الدفاع في أطوار التتبع والمحاكمة" (الفصل 27).
"لا يمكن إيقاف شخص أو الاحتفاظ به إلا في حالة التلبس أو بقرار قضائي، ويعلم فورا بحقوقه وبالتهمة المنسوبة إليه، وله أن ينيب محاميا. وتحدد مدة الإيقاف والاحتفاظ بقانون" (الفصل 29).
"تعمل الدولة على نشر ثقافة حقوق الإنسان" (الفصل 39).
"تتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك". (الفصل 49)
هناك مبدأ آخر من مبادئ العدالة، ليس منصوصا عليه في الدستور لكننا مقتنعون بأهميته ويتمثل في أن الإيقاف يجب أن يكون هو الاستثناء والحرية هي القاعدة.
لنفترض أن نبيل القروي اقترف فعلا تلك الجرائم الاقتصادية التي يشتبه في ارتكابه لها، فهو يبقى "بريئا إلى أن تثبت إدانته" (الفصل 27 من الدستور).
ولنفترض أن نبيل القروي ليس سياسيا، فهل كان سيتم احتجازه في السجن ؟ لم نسمع من قبل بأن أشخاصا زُج بهم في السجن من أجل التهرب الضريبي، بما يجعلنا نعتقد بأن رئيس قلب تونس يقبع وراء القضبان فقط لأنه رجل سياسة .. في حين أن الفصل 21 من الدستور ينص على أن المواطنين والمواطنات "متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز".
القانون التونسي واضح في هذا الشأن وبالتحديد في الفصل 85 من مجلة الإجراءات الجزائية والذي ينص على أن الإيقاف التحفظي لا يجوز أن يتجاوز الستة أشهر .. وإذا اقتضت مصلحة البحث إبقاء المظنون فيه بحالة إيقاف يمكن لقاضي التحقيق تمديد فترة الإيقاف مرتين لا تزيد مدة كل واحدة أربعة أشهر. إلا أن القاضي المكلّف بملف نبيل القروي لم يقرر التمديد في فترة الإيقاف وهو ما يعد خرقا للفصل 29 من الدستور.
حين يتم خرق هذا الكم من الفصول الواردة في الدستور في قضية واحدة، مهما كانت قناعتنا بمسؤولية المشتبه به، يجب التريّث والضغط على المكابح .. لا يمكن الإستمرار هكذا.
إيقاف نبيل القروي في 2019 كان لأسباب سياسية وقد تم تقديم ما يلزم من الأدلة والقرائن في تلك الفترة لتبرير قرار الإيقاف .. كان يوسف الشاهد، خصمه السياسي في تلك الحقبة، ورئيس الحكومة وقتها، وراء ذلك الإيقاف.
عملية إيقافه في 2020 يمكن قبولها بشكل طبيعي لأن القاضي قد تكون بحوزته عناصر تسمح له بإدخال نبيل القروي السجن. إنكار هيئة الدفاع لا معنى له ويجب ألا يشكك في نزاهة القاضي .. بعض الإشاعات التي تقول إن رئيس الجمهورية هو من يقف وراء عملية الإيقاف الثانية، هي أيضا لا معنى لها ويجب ألا تشكك في ثقتنا في مرفق العدالة.
لكن يبدو أننا تجاوزنا هذه المرحلة بما أن الآجال القانونية للإيقاف قد تم تجاوزها .. هذا التجاوز وهذا الإيقاف التعسفي وغير القانوني، يضع القضية برمتها محل تشكيك بل كذلك المسار التحقيقي.
إذا كان القضاء يسمح لنفسه بأن يبقي شخصية عامة (رئيس حزب سياسي)، تحت الإيقاف التحفظي حتى بعد تجاوز الآجال القانونية، فما هو فاعل مع سائر المواطنين العاديين ؟.
منذ 2011 ونحن نتحدّث عن التجربة الديمقراطية التونسية، في حين أنه لا يمكن الحديث عن ديمقراطية دون قضاء مستقل يطبّق حرفيا النصوص القانونية .. استغلال النفوذ وخرق القانون يربكان ديمقراطيتنا ويحوّلان بلادنا إلى أشبه ما يكون بجمهورية الموز.
تقنيا وبسبب قضية نبيل القروي فإننا اليوم بصدد قضاء يخرق القانون ونصوص الدستور وهذا لا يليق بديمقراطية حقيقة تحترم نفسها وتفرض الإحترام.
أي فرق يوجد بين النظام السابق والنظام الحالي إذا كان من المسموح به التحايل والغش قصد التأثير على الإنتخابات وتوظيف القضاء لأغراض سياسية وذلك في كنف الإفلات من العقاب ؟ كثيرا ما خضنا في مسائل الديمقراطية والثورة والوقائع لا تكذب .. فالأحزاب تغش والشخصيات السياسية تحتال والقضاء يخضع للتعليمات والأوامر .. حين نتأمل في التعاطي القضائي مع ملف نبيل القروي، فإنه بإمكاننا القول: لا شيء أتم إصلاحه في هذا البلد .. ممارسات الماضي مازالت سائدة .. فقط الأطراف الفاعلة هي التي تغيّرت.
تعليقك
Commentaires