" الطلقاء" يعيثون فينا فسادا!!!؟
عشنا أمس يوما أسود.. يوما توقّفت فيه العقول عن التفكير.. وجمد فيه البصر.. أحداث تتوالى اللاحق منها ينسيك سابقه .. حتى عقارب الساعة اضطرب توازنها.. ومارت الأرض تحت أقدامنا فأصابنا دوران شبيه بالغثيان.. خلنا للحظة أنّنا نعيش علامات الساعة الأخيرة، فاضطربنا وارتبكنا ولم ندر أيّ نهج نسلك أو مقرّ نستكين إليه..
في الحقيقة كان يوما عاديا جدّا، وفي حيّ شعبيّ جدّا، خرج التونسيون لقضاء حوائج عادية جدّا، منهم المرأة العادية جدّا .. يحملها همّ مواجهة غلاء القوت.. وكيفية التدبير لتوفير غذاء الأطفال.. ولا بأس إن بقي لها بضع من النقود أن تعرّج على القرانة عسى أن تعثر على ضالتها في " بالة فريب".. ومنهم الشيخ العادي جدّا يبحث عن طريقة في أن يقتل الوقت ومكان يتظّلل به من قيظ الحرّ.. ولا بأس إن قادته قدماه إلى سوق العصر عسى أن يعثر على قطعة يفتقدها لإصلاح حنفية أو قفل يصلح لإغلاق أحد أبواب البيت المخلوعة... ومنهم التي نزلت إلى نهج الكوميسيون ، نهج الفقراء، لما فيه من تنوّع في البضائع بأسعار مقبولة عسى أن تكمل جهاز عرس قريب أو مولود قادم..
تلك هي الصورة التي ارتسمت في ذاكرتي وأنا أتلقّى السهم الأوّل الذي يحمل خبر العملية الانتحارية في أصدق مكان يعيشه التونسي العادي، ويلتقي فيه بأجمل أناس وأطيبهم.. أدركت أنّ " عزازيل" أرسل أحد أبنائه إلى هذا المكان لتنجيسه وقرأت الحادثة بغير العين التي قرأ بها غيري: لم أستحضر، كما قالوا المناطق " الحساسة" لشارع بورقيبة، من سفارة فرنسا إلى الكاثيدرالية و وزارتي الداخلية و المرأة.. ولم أقارن مكان الحادثة وزمانه بما سبقه من أحداث.. وذلك لسبب بسيط لأنّ مثل هذه المناطق هي هدف كلاسيكي بالنسبة إلى أبناء عزازيل.. ولم يذهب تأويلي لما حدث بأنّه ضرب للسياحة.. لأنّ مناطق أخرى تكتنز رمزية السياحة وما يمكن أن تثيره في وجدان أبناء عزازيل من إيحاءات وشهوات يسعون جاهدين إلى إبادتها.. بل استأسرت هذه الصورة ذهني، لأنّي أعرف هذه المناطق جيّدا، وكم بحثت عن راحتي النفسية فيها إذا ما ضاقت في وجهي السبل، وكثيرا ما أجد فيها وجه الجدّة التي هدتني إليها وأذاقتني حلاوتها.. وفهمت أنّهم اليوم يريدون اقتناص لحظات السعادة الصافية البريئة التي تغذّي التونسي العادي والتي تقوّيه ليصمد في وجه القادم الغريب والمنبتّ.. فهمت أنّهم يريدون طمس هويتنا التونسية المنتصبة درعا يحمي تونس..
ثمّ تتالى الأخبار من هنا وهناك عن أزمة " حادة" يمرّ بها رئيس الجمهورية ليقطعها خبر محاولة انتحارية ثانية بالقرجاني.. وإذا بأحداث 11 سبتمبر تتقاطع في ذهني بما أسمعه يوم 27 جوان، ولكن بفارق .. وأيّ فارق!!! فأحداث اليوم تريد تهشيم ذاكرتنا العميقة وليس التجارة العالمية كما كان الحال في نيويورك.. حينذاك أشفقت على أبناء وطني وقد سلبوا الراحة والاطمئنان في هذه الشوارع القديمة الفقيرة .. وفي الحقيقة إنّما أشفق على نفسي لأنّ زادنا الشعبي دنّسوه بدمائهم، زادنا الذي حفظناه في وجداننا وتناقلناه جيلا عن جيل فإذا به يُسلب منّا قسرا وعنوة..
صحيح ،كما يقولون، أنّها كانت عملية يائسة، لكن، كيف لنا أن نمحوها من ذاكرتنا؟ وكيف لنا أن نغيّبها حتى لا نتأذّى منها كلّما ملأنا هذه الأنهج الصارخة بصمتها ؟
لن أقف محلّلة هذه المرّة.. فالأحداث تتسارع وساذج من يتوهّم أنّه قادر على التحليل. لأنّ الأوراق مختلطة أيّما اختلاط، وكلّ مقاربة هي من قبيل الثرثرة.. ولعلّه لهذا السبب رددت الدعوات إلى الحديث عمّا حدث.
أسئلة كثيرة من الإعلام سمعتها أمس: من نوع كيف تفسّر هذه العملية؟ هل هي من صنف الذئاب المنفردة؟ وماهي انعكاساتها على السياحة التونسية؟؟ فعن أيّ تفسير يبحثون ونحن ما زلنا نعيش الأحداث في بدايتها، ونقاوم حتى نخرج بأقلّ الأضرار؟ وهل يعلمون ما هو المقصود بالذئاب المنفردة في أدبيات الإرهاب؟ ومتى يلتجئ إليه أبناء عزازيل؟؟ ومتى ينتقل الدواعش من التنظيم العنقودي إلى الذئاب المنفردة؟ وأين هم أبناء وبنات حارتنا الطيبة والراضية ممّا يتحدّثون؟
ليس لي أن أقف سوى عند هذه النقطة: فقد أدركوا جيّدا، واستعمل ضمير الغائب لأنّي أبحث عنه، وهو غائب لأنّه متنكّر حتى يضمن حضوره بيننا يتنقّل في اطمئنان ويتكلّم في راحة. قلت إنّهم تفطّنوا إلى أنّنا شعب صامد رغم الهزّات، بل هو عازم على أن يأخذ الأمور بين يديه. صحيح ماطل كثيرا لأنّ " رخفان الحبل" طبعه الأصلي، لكن إذا ما قام فلن يتراجع. وجميع الدلائل تنبئ بأنّ هذا الشعب الأسد بدأ يتحرّك في عرينه، لذا فإنّ أفضل طريقة " الهشّ والنشّ" ، و" فجعان الذيب ولا قتلانه" . خاصّة إذا انضافت إلى الوضع الاجتماعي المهلهل مرض الرئيس الشيخ.. وخاصّة إذا استحضرنا أنّ الاهتزازت العميقة تفزع التونسي ، ثمّ إنّ مرض الرئيس الشيخ ليس بالخفيّ عن الناس.. وهو ظرف خارجيّ هامّ تحوّل إلى قيد يكبّل يديه ويلجم لسانه. فُتحت أبواب البلاد لعودة الإرهابيين تحت راية التوبة.. وتركوهم يجولون بيننا أحرارا إن لم أقل أسيادا.. ولا رقيب سوى عن بعد.. فغيّروا من مظهرهم وإذا بصورة الإرهابيّ بعد تفجير نفسه تخبرك أنّه حليق الذقن ولبس السروال .. وإذا به شخص عاديّ يعيش معنا.. تطوّر الإرهاب يا سادتي وأخذ من مظاهر الحداثة لباسا يقيه أعين الناس فتيسّر له أن يعيش بيننا يراقب اللحظة المناسبة لتنفيذ الأوامر..يا ويلنا إن كانت هذه الشكوك صحيحة، فذاك دليل على أنّ الشرّ بيننا إن لم ينغرس في عروقنا ويوجّه حركاتنا وأنظارنا..
وعلى كلّ حال ما يجب أن نستحضره في هذا الظرف العصيب: أنّ هذا الظرف ليس بأعسر ممّا عشناه في جانفي 2011، وأنّنا شعب عنيد، لا يملّ من المواجهات، علينا أن نتمسّك بالعروة الوثقى.. أن نتّحد مع بعضنا بعضا.. هي بلا شكّ مرحلة عصيبة ، وقدرنا أن نمرّ بها، لذا فلنتحلّى جميعنا بالصبر.. وقد يأتينا الغد بأحداث ما كان لنا أن نقدّر حدوثها.. لنكن بمثابة الجسم الواحد.. والإرادة الواحدة.. والصوت الواحد.. نحن نمتلك أفضل سلاح للمقاومة هو " المادّة الشخمة" فلنحسن توظيفها ولنحسن الظنّ مع بعضنا بعضا.. وبقدرة واحد أحد ننجو من التنين ونطرد عزازيل وأبناءه من أرضنا الطيبة.
فاذهبي يا تونس إنّك من الناجين..
تعليقك
Commentaires