عجزت عن العنوان
مدّة القراءة : 5 دقيقة
كم منّينا النفس بأنّ أحوال الحرم الجامعي ستتغيّر .. وكم تطلّعنا إلى وزير ملمّ بمشاكل هذا القطاع الحيوي وأن يسهم بمقاربة نقدية تتجاوز الراهن وتقدّم الحلول العاجلة والقادرة على إخراج السكين بأقلّ الأضرار من الجسد الجامعي الذي ظلّ يعاني طيلة عقود من التهميش وكسر الشوكة.
أذكّر الجميع أنّنا نحن الجامعيين صرخنا عاليا منذ اللحظة التي أحسسنا فيها ببوادر انخرام الجسم الجامعي.. حذّرنا منه في سياق الحديث عن الإطار الكفء القادر على التدريس والتأطير.. وفي التنبيه إلى أنّ التعليم العالي أصبح أشبه شيء بالتعليم الثانوي ، و يعلم الجامعيون جيدا أنّي لا أبالغ، و أنّ ما خفي هو أعظم... نحن نعلم جيّدا أنّ الداء كامن في سياسة كسر شوكة الجامعي الذي كانت له القدرة على الوقوف في وجه بن علي.. ولعلّ بداياتها تمثّلت في تغييب رجال التعليم عن القرارات التي لها علاقة مباشرة بقيمة الشهادة العلمية ، وتعويضهم بملحقين من الثانوي أو عرضيين.
الداء يا سادتي بدأ ينخر الوزارة منذ سنة 2000 عندما التجأت إلى الاستعانة بشبّان متعاقدين مرسمين في شهادة دكتورا، واعتبرته حلاّ وقتيّا، فلم يخضع انتداب هؤلاء لمقاييس موضوعية دقيقة، بل اكتفِيَ في كثير من الأحيان بشهادة الأستاذ المشرف، أو بعلاقات شخصية تجمع المترشّح ببعض من الأساتذة. لكن أدركنا أنّ هذا الحلّ الوقتيّ طالت مدّته، وخاصّة عندما لجأت كثير من الأقسام إلى عدم المطالبة بفتح خطط في رتبة مساعد أو أستاذ مساعد حتى تضمن الشغور للمتعاقدين، و طبعا ، فاستنادا إلى ميولات الأقسام قامت الوزارة بحذف هذه الخطّة وبصفة أخصّ في الإنسانيات لتترك الحبل على الغارب في التعاقد الداخلي العشوائي، لتصير الشهادة العلمية مسألة ثانوية.. وليتحوّل التأطير والتدريس إلى نافلة، وهكذا صارت العلوم الإنسانية ، بمشيئتهم، إلى ما يشبه المقعد الذي يعيق الجماعة عن الانطلاق. ولعلّ ما زاد الوضع تعفّنا هو مناداة جميع من تولّى الوزارة ومنذ ثماني سنوات بوجوب الاهتمام بالتكنولوجيا والإعلامية، وكأنّها اختصاصات لم تولد من رحم الإنسانيات، وغاب عنهم أنّ بلدا من دون انسانيات مثله مثل جثة بلا روح.
اليوم أقول لكم يا سادتي في مرارة: إنّ التعليم العالي يحتضر، وقريبا ستقيمون عليه صلاة الجنازة، ونحن السبب، فهو ضحية تهاوننا به.. والسبب كامن في أنّ الجامعيين صار يجمعهم الانقسام، وشقّتهم الإيديولوجيا ، شأنهم في ذلك شأن بقية مكوّنات المجتمع.. وحذار فلا تقارنوهم بأساتذة الثانوي الذين تربّوا على لحمة نقابية هي أقوى من الإيديولوجيا.. فمنذ 2011 والجامعي ساكت ومازال على سكوته عن كلّ التجاوزات.. والغريب أنّه لا يتحرّج في أن يجد لنفسه الأعذار.. كأن يتعلّل بأنّه فوق الجميع.. ولا ينزل إلى مستوى اللغط واللغو.. وفي الأثناء تغتصب الجامعة وأمام عينيه وبمباركته.. وإذا قام ساخطا بينهم فسرعان ما يحملونه على الهرج الذي لا يليق بجامعي..
والنتيجة !!!! نزعت عن الجامعة قداستها، فغابت عبارة الحرم الجامعي، وهتك عرضها فسامها كلّ رخيص نجس ..بل الأدهى ، منذ حكم الترويكا فرضوا على طلبتنا وأمام أعيننا غذاء آخر، واهتماما آخر والكثيرون يصفّقون ويهلّلون.. فاختلطت الأوراق، وإليكم أمثلة:
• اقتحمت أجهزة مراقبة، وقيل لنا لحماية الكليات من الداخل.. وأنا أتساءل ماذا بقي لهم أن يحموه فحتى العقول مسبية!!!
• صار العميد في كلياتنا عبارة عن عمدة " كفر الشيخ" أو "كفر أبي داود"، وهو مدرك أنّ الوزارة نفسها لا تقدر على مواجهته... وتحوّلت بعض الكليات إلى ما يشبه القبيلة، وبعض المقرّبين من العمدة إلى وزراء يسندونه في ظهره ويصفّقون لكلّ كلمة ينطق بها. ولكم في المعهد العالي للعلوم الإنسانية ( ابن شرف) أفضل مثال اليوم لحال العفن الذي يسير إليه التعليم العالي: معهد بدون عميد، وبعض من رؤساء الأقسام استقالوا لعجزهم عن مواجهة التيار.. وفي الأثناء أين أنت يا سي خلبوص؟؟؟
• بعض الكليات لا تهتمّ حتى بالمستوى الأدنى من النظافة، تدخل قاعة الدرس فإذا بالتراب يلفّك، وإذا بالأوراق تتلاعب بها الرياح مثل تلاعبها بالشبابيك المخلوعة، تدخل أنت الأستاذ الهمام مدرج المحاضرات والعازم على إلقاء محاضرتك أمام جمع من طلبتك فإذا بالمصدح معطّب منذ السنة الماضية، فتبحث عن العامل فإذا به يجري لاهثا وراء العمدة.. تحاول أن تتجاوز العقبة وتطلب من أبنائك أن يساعدوك بالصمت فتهمّ بغلق باب المدرج فإذا بالباب لا يغلق، فينطلق الدرس والطلبة المتأخرون يجوبون أرجاء المدرج إلى نهاية الدرس. تحتج؟؟؟ ماهذا الافتراء، عليك بالصمت مثل العبد " الدنيء " كما يقول الفقهاء، وتصنّف في قائمة سوداء يسهر عليها من انتخَبتَه أنت ليمثّلك في النقابة، ولا عجب، فالأوراق اختلطت في زمن الثورة وفي " بلاد الترنّني" لأنّ من المناضلين من يدرّس 32 ساعة أسبوعية في الظروف التي ذكرت. وأترك لخيالكم الشاسع الحرية في احتساب عدد الساعات اليومية التي يدرّس. هذا المناضل يكون قد ساعد الوزراة على الاستغناء عن انتداب مساعدين اثنين أو أستاذين مساعدين من أبنائنا المعطّلين عن العمل والمعتصمين في الخيام مطالبين بحقّهم في التشغيل. ومن المفارقات أن تجد هذا "المناضل" يساندهم ويشدّ على أيديهم.
هذه بعض كلياتكم يا سادتي بعد الثورة.. وهذه حال أبنائكم وقد ضحيتم من أجلهم بثرواتكم وقوتكم لتضمنوا لهم عيشا محترما وهم في المدينة "يدرسون" ويتكوّنون...
التعليم صار رهينة في أيدي " رجال" لم يقدر أيّ وزير على إزاحتهم منذ أن نصّبوا في 2011.. تعاقب الوزراء وجميعهم صمتوا أمام مسخ صورة التعليم الجامعي: أوهمونا بالإصلاح لكن في عهودهم خلعت أبواب الكليات للدعاة.. أسئلة كثيرة تتزاحم في ذهني، لأنّ كلّ من يتابع نشاط وزارة التعليم العالي يصدم بهذه الحقائق، بل إنّ كلّ من يقرأ الخطط المفتوحة لا يملك أن يصاب بالصرع، ويمكن أن أقف عند نموذج بسيط من الخطط حتى تدركوا سياسة الوزارة التي رسمت لها، نموذج أوحى به إليّ الوزير الحالي عندما بشّرنا بأنّه سيفتح خططا بالوزارة بعد أن أغلقت طيلة سنتين: وهل أقدر على سؤاله وسؤال الحكومة بأسرها: وطيلة هاتين السنتين؟؟ ماذا وفّرتم لجيل كامل من الطلبة في تكوينهم؟؟ ألا ترون مثلي أنّ كلّ طالب هو بمثابة مشروع تبنيه بحسب ما تراه فإمّا أن يكون مشروعا بانيا أو مشروعا هادما؟؟؟
فقد بشّرنا سي خلبوص بفتح خطط، وأنا أسأله عن هذه الخطط، هل هي من صنف الخطط التي فتحها من سبقك في المعهد العالي لأصول الدين؟ من علوم اقتصادية وعلوم جيولوجية وأخرى تشكيلية؟ ومالية ومحاسبة؟ كيف لك أن تدافع عن تسلّل مثل هذه العلوم في معهد يدرّس أصول الدين؟ هل تحوّل الاقتصاد والمالية والمحاسبة إلى علوم أصول؟ مثلها مثل العقيدة والحديث وعلوم القرآن؟ ثمّ كيف يمكن أن نقحم علم الأرض في مناهج الأصوليين والمحدّثين؟ آه عفوا.. فقد نسيت أنّ مثل هذه الشعب في معهد أصول الدين ستدعو إلى مراجعة مسلّمات ونظريات علمية ، من صنف البدعة التي خرجت من إحدى كليات صفاقس لتثبت أنّ الأرض مسطّحة!!! وحدث هذا في عهدك طبعا..
وبالمقابل فإنّ كلية العلوم الاقتصادية بصفاقس فتحت اختصاصا: وهو الفقه ومنحتها الوزارة خطة في أستاذ مساعد. وهنا تبوح الخطط بما هو مكتوم، لتذكّرنا بالذي مضى مع السيد منصف بن سالم في عزمه على أن يشقّ في التعليم العالي طريقا في المالية الإسلامية، بل ويقرّر بعث ماجستير في المالية الإسلامية، كأنّ انقاذ البلاد مرتهن بهذا الاختصاص العاقر وكأنّ في التراث الإسلامي اقتصادا استثماريا أصلا. وذاك هو المشروع الإخواني الذي رمى بأصابعه في جميع المجالات وطال جميع الأعمار من الطفولة إلى الشباب.
هذا هو حال الجامعة عموما: فنحن صرنا نسهم في تكوين، هذا إن كوّنّا طبعا، أجيال بكماء وخرساء، تسمعك تتحدّث ولا تنصت إليك، ألسنتهم صارت يابسة وأدمغتهم متكلّسة ولغتهم هي أقرب إلى الدارجة.
فهل تطمحون بعد هذا يا سادتي إلى أن يصلح حال أبنائكم؟ وهل تأملون في أنّكم تعدّون جيلا طيّب الأعراق؟ لا ، بل أقولها ، وعلى مسؤوليتي وبمرارة: تحوّلت الجامعات إلى محاضن آهلة بالمشاريع الداعشية، لأنّ الخوف سكن حيطانها، والدم جمد في عروق طلبتها، والفضل فيه طبعا يعود إلى حال التسيّب الذي مررنا به في السنوات الأخيرة، سنوات احتمى فيها مسؤولو وزارة التعليم العالي بمكاتبهم، وأخفوا رؤوسهم، بل كانوا يتحرّجون من كلّ صرخة صادقة تخرق الصمت، ويجتهدون في إقصائها لأنّها تُتعبهم. بضع سنوات كانت كافية لتتحوّل فيها القيم، ويستهان فيها بالقوانين وتطال حتى الامتحانات .
هذه نقطة من بحر سيتحوّل حتما إلى قبر تدفنون فيها الجامعة والتعليم العالي، وستدفنون فيها الفكر النقدي الذي نعمل على تكوينه.. بل إنّ المدارس القرآنية التي نعاني منها ستكون أكثر إشعاعا من أفضل الكليات عندنا، والحال اليوم أفضل بكثير من السنة القادمة.. فالجامعة ستكون خالية من أساتذة التعليم العالي، فمنهم الملحق، بتشجيع من الوزارة ، للعمل بالخليج ... ومنهم اليائس الذي خيّر الخروج للتقاعد قبل أن يضيع ما تبقّى من ماء الوجه.
في الحقيقة المسؤولية يتحمّلها الأساتذة، وتتحمّلها نقابة التعليم العالي التي صارت تعيش حالة تواجد مع الوزارات المتعاقبة .. فمتى ستستفيق النقابة وتجمع إليها الجامعيين للدفاع عن التعليم العالي؟
نائلة السليني
تعليقك
Commentaires