راشد الغنوشي أمام حتمية الإختيار بين الفشل والهزيمة
كانت نهاية الأسبوع ساخنة على الصعيد السياسي، فبعد التأكيد يوم الجمعة على أن الإعلان عن تركيبة الحكومة صار وشيكا وسيتم في بداية الأسبوع، وأنها ستتشكل من النهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وجركة وتحيا تونس، اختلطت كل الأوراق من جديد أمس الأحد وعادت المشاورات إلى نقطة الصفر وهو ما أربك وأحرج رئيس الحكومة المكلّف، الحبيب الجملي الذي بات في حيرة من أمره لا يدري ماذا يفعل .. ولو أنه لم يفعل شيئا منذ البداية بما أنه كان يلتزم بتنفيذ أوامر وتعليمات أصحاب الفضل عليه أي راشد الغنوشي ونور الدين البحيري.
حسب ما استقيناه من معلومات من قياديي التيار وتحيا تونس فإن الحبيب الجملي اتصل بهم لدعوتهم إلى الإنضمام إلى فريقه الحكومي .. متى كان ذلك؟ يوم 16 ديسمبر أي بعد شهر من تكليفه بتشكيل الحكومة وبعد يوم من انقضاء المدة الدستورية الأولى قبل أن يطلب التمديد بشهر آخر من رئيس الجمهورية وفق ما يقتضيه الدستور .. وهذا لا يعكس تمشّيا جدّيا بالمرة .. كل الذين شاركوا في اجتماع رؤساء الأحزاب المعنية ورئيس الحكومة المكلف صُعقوا لما أبداه الحبيب الجملي من ضعف أمام راشد الغنوشي "كنا نتوقّع أنه مجرّد دمية لكن ليس إلى ذلك الحدّ"، وفق ما أفادنا به أحد المقرّبين من دوائر ذاك الإجتماع .. فالرجل لم يقدّم للحاضرين أيّ برنامج لحكومته ولا حتى أسماء وزرائه ولا أي شيء يذكر باستثناء بعض الوعود التي يصعب الإيفاء بها وهذا أيضا سلوك خال من الجدية.
الحقيقة هي أن راشد الغنوشي في مأزق كبير ويبحث بكل الوسائل عن الخروج بأقل الأضرار .. فهو لم يخطط أبدا لدعوة التيار الديمقراطي وحركة الشعب إلى المشاركة في الحكومة والدليل على ذلك أنه لم يتّصل بهم إلا بعد انقضاء الفترة الأولى .. وبما أنه عجز عن تشكيل الحكومة بالشكل الذي كان يطمح له (بمشاركة تحيا تونس وقلب تونس وائتلاف الكرامة) كان لزاما عليه أن يجد كبش فداء لتبرير فشله. ولما كلب منه الرئيس قيس سعيّد التعجيل بجمع قيادات حركة تحيا تونس والشعب والتيار، حول طاولة واحدة، امتثل الغنوشي، غير أنه كان يريد من وراء صورة جماعية للمشاركين في الإجتماع، إيهام الجميع بوجود شبه وفاق على أن يتم الإعلان عن تركيبة الحكومة في أقرب الآجال. عقد بعد ذلك ندوة صحفية مشتركة لإعطاء الإنطباع بأنه تم التوصل إلى الوفاق المنشود مع توتير علاقة شركائه الجدد بمناضليهم وقواعدهم.. إدراكا منه مسبقا بأن التيار الديمقراطي سيرفض مقترحه لانعدام الجدية ولعدم تمكين التيار مما طلبه، أراد الغنوشي أن يلعب أمام الشعب دور الضحية .. وقد أعطى نور الدين البحيري إشارة انطلاق هذه الحملة للهجوم على التيار ونعته بالخيانة .. بالنسبة إلى حركة تحيا تونس فقد تأقلم يوسف الشاهد مع لعبة الشيخ لذلك لم تشمله الإتهامات رغم أن تصرفاته كانت مطابقة للتيار الديمقراطي.
راشد الغنوشي كان بحاجة إلى منفذ يخرجه من هذا المأزق وإلى كبش فداء في حجم التيار لأنه كان عاجزا عن تشكيل الحكومة طوال الثلاثين يوما الأولى المنصوص عليها في الدستور. ولا يخفى على أحد أن الإسلاميين لا يمكنهم أن يحكموا بمفردهم وأنهم يفتقرون للكفاءات اللازمة لتشكيل حكومتهم وأنهم فازوا في الإنتخابات التشريعية فقط لأن منافسيهم كانوا ضعفاء ومشتتين.
لو كان هناك حزب قوي أو رجل قوي واحد في بلادنا لما كان للنهضة حتى نصف حقيبة وزارية في الحكومة ولا شبه مقعد في منظومة الحكم برمّتها .. فمكانهم الطبيعي هو المعارضة. راشد الغنوشي على وعي تام بكل هذه الحقائق وهو يدرك جيدا أنه لو ينطلق فريدا سيكون مصيره الفشل في غضون أشهر قليلة.. أي السيناريو ذاته الذي عاشته البلاد بين 2011 و2013 وهو ما لا يريده الغنوشي. لكن نظرا لصبيانات ائتلاف الكرامة وحالة الانقسام صلب حركة تحيا تونس (بين يوسف الشاهد الذي يريد التحالف وقواعده وقيادات حزبه الرافضة) والسمعة السيئة لحزب قلب تونس، لم يبق للشيخ سوى خيار الإستنجاد بالتيار الديمقراطي وحركة الشعب.. لكن يا خيبة المسعى فقد قررا الإنسحاب بما ينبئ بهزيمة وشيكة وهي الفرصة التي سينتهزها شاكرا رئيس الدولة قيس سعيد فهو ينتظر بالمرصاد.
الأمر بسيط فالدستور ينص على أنه في صورة فشل راشد الغنوشي في تمرير حكومته أمام أنظار البرلمان، فإن رئيس الجمهورية يشرع في ظرف عشرة أيام في إجراء مشاورات مع الأحزاب والإئتلافات والكتل البرلمانية قصد البحث عن شخصية ثانية يتم تكليفها بتشكيل الحكومة في أجل لا يتجاوز الشهر. وهذا السيناريو يشكل كابوسا بالنسبة إلى حرمة النهضة ففشلها في تشكيل الحكومة يعني فشلا آخر مرتقبا في أول محطة انتخابية.. وفي صورة خروجها من الحكم (للمرة الأولى منذ تسع سنوات) فإنه سيصبح من المستحيل على النهضة أن تعود للحكم من جديد.
هذا ما ينتظره بفارغ الصبر أنصار قيس سعيّد فهم يحلمون بتكوين حزب الرئيس.
كل الظروف ملائمة لتحقيق هذا الحلم وقيس سعيّد يعمل جاهدا من أجل ذلك وأكبر دليل على ذلك الخطاب المرتجل والشعبوي الذي ألقاه يوم 17 ديسمبر 2019 بسيدي بوزيد .. فمثل ذلك الخطاب كان يفترض أن لا يأتي على لسان رئيس للدولة يفترض فيه أيضا أن يكون رئيس كل التونسيين .. فقد كان خطاب الإنقسام والتفرقة مثل خطابات منصف المرزوقي الذي كان يتحدث بلغة (هم ونحن) فعن أي "هم" وعن أي "نحن" يتحدثان ؟.
قيس سعيّد يستعمل نفس معجم الألفاظ وفلسفة المرزوقي من خلال الحديث عن المؤامرات والغرف المظلمة ... من يستهدفون بعباراتهم تلك؟ الأكيد هم لا يقصدون اللوبيات بل يشيرون إلى الإسلاميين وقادتهم في الحكم الذين يرفضون الإستسلام والتخلي عن منظومة الحكم.
بعد أن هيّأ الأرضية، جاء دور مديرة الإتصال برئاسة الجمهورية، رشيدة النيفر لتسلط الضوء على حيث يتجه إصبع الرئيس .. كثيرون سيركزون على إصبعه لكن راشد الغنوشي لن يرى سوى إلى حيث يتجه ذلك الإصبع.
في مداخلة عبر أمواج الأثير تحدثت رشيدة النيفر عن تعطّل على مستوى مؤسسات الدولة وعن بعض المقترحات التي تقدّم بها الرئيس دون أية متابعة أو تنفيذ.. هذا يعني أن الموجودين في الحكم بصدد تعطيل عمل مؤسسة الرئاسة لذلك أرادت السيدة النيفر كشف الحقيقة أمام رأي عام يجهل دواليب الدولة وعمل الجهاز الإداري والتشريعي. لذلك قدّمت للناس رئيسا قادرا على حل كل المشاكل والصعوبات بفضل مقترحاته المستنيرة لكن في المقبل هناك منظومة حكم متعطلة لا تريد إنجاز أي شيء لأنها لا تريد الخير لتونس .. علما وأن العلاقات جيدة جدا بين يوسف الشاهد وقيس سعيّد أي أن الجهة المستهدفة هي حركة النهضة. والفكرة المتداولة اليوم هي أن النهضة لا ترغب في الدولة وإنما تفضل الخلافة كما أن قيادات الحركة ثروا وزادت مكاسبهم من عرق الشعب وأنهم لا يرغبون في التخلي عن الحكم .. قيس سعيّد ورشيدة النيفر ركبوا هذه الموجة الشعبوية لتهيئة الأرضية لتأسيس حزب الرئيس.
إننا بصدد متابعة مباراة في الشطرنج تُلعب بين قرطاج ومونبليزير وما نحن (معشر التقدميين والحداثيين والعلمانيين) سوى بيادق .. نحن نتابع اللعبة عاجزين عن فعل أي شيء لأننا خسرنا الإنتخابات ولأنه ليس فينا إمرأة أو رجل قوي قادر على توحيدنا مع احترامه مبادئ الديمقراطية والعدل والحقوق والحريات وأسس الجمهورية.
المباراة تُلعب اليوم بين إسلاميين صاروا ضعفاء وفوضويين ليسوا أقوياء بعد .. أحد الطرفين سيكسب لكن بقطع النظر عن إسم الفائز سيكون طرفا فاشلا سيخلف وراءه كثيرا من الدمار .. فتونس لن ينقذها لا حزب قيس سعيّد الذي مازال يعيش في ستينات وسبعينات القرن الماضي ولا حركة النهضة التي مازالت تترنّح بين الفتوحات الإسلامية في القرن الثامن والإمبراطورية العثمانية في القرن الثالث عشر.
(ترجمة عن النص الأصلي بالفرنسية)
تعليقك
Commentaires