شبابنا والمسكوت عنه
بإضرامه النار في جسده يوم 24 ديسمبر 2018، خلّف عبد الرزاق الزرقي وراءه حرقة كبيرة لدى أبنائه اليتامى والكثير من الغضب وأسئلة عديدة يتداولها الجميع لكن لا أحد يملك لها جوابا.
حادثة اشتعال النار في جسده تم تصويرها بالكامل، ممّا غذى فضول بعض "المتعطّشين" لرؤية الدماء وهي واقعة خدمت بالخصوص أولئك الذين يتربصون بالبلاد ويريدون إحراقها لتغيير النظام القائم بآخر لا يعرف ملامحه أحد.
موت الفقيد عبد الرزاق الزرقي لم تكن حدثا مفاجئا باعتبار أن هذه الحادثة الأليمة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة للأسف الشديد. لا أحد قادر على تحقيق مطالبه .. حتى أن الدولة عاجزة عن إخراجه من حالة الفقر والبؤس التي كان يعانيها فهو من بين الموجودين على قائمة المهمّشين من قبل نظام لا يؤمن إلاّ بالأفضل وبالمتميّزين وبالشجعان وبمن لهم فضل التشييد والعطاء والقدرة على التضحية والبناء .. نظام يمقت مبدأ المساعدة ومد يد العون وهي الضريبة التي تدفعها أيضا الدول المتقدمة التي تجد نفسها مجبرة على مجابهة بؤس مواطنيها المهمّشين .. فعديدة هي حالات الانتحار وكثر هم المشرّدون ويعدّون بالآلاف لكنهم لم يعودوا منذ عقود مادة للصحف والجرائد ولعناوينها الرئيسية.
كل ما كان يطلبه عبد الرزاق الزرقي هو عمل لائق لم تقدر الدولة على توفيره له وفي المقابل يتذمّر أرباب العمل يوميا من ندرة الكفاءات المطلوبة والقادرة على مباشرة العمل مع القبول بتقديم التضحيات التي يعرفها الجميع في بداية مسيرتهم المهني .. وفي الأثناء يلجأ البعض إلى إضرام النار في أجسادهم، في حين يسلك البعض الآخر طريق الهجرة غير النظامية ويلقي آخرون بأنفسهم في أحضان اليأس.
لكن يبقى السؤال المطروح: ما الذي يدفع بشاب إلى القبول بعمل هش في بلد أوروبي لا يستجيب لمؤهلاته لكنه يطالب بعمل لائق في بلده، يكون في مستوى شهادته الجامعية؟. لماذا يقبل شاب بالعمل في ظروف مزرية بأوروبا وليس في إحدى المدن التونسية؟. وما ذا يجبر شابا على قبول تربّص شغل بلا مقابل في أوروبا ليثبت كفاءاته في حين أنه يطالب في تونس ومنذ اليوم الأول بأجر مرتفع، قبل حتى أن يظهر قدراته، فقط لأنك حامل لشهادة الأستاذية من معهد عال أو ماجستير من كلية ما؟.
ففي فرنسا مثلا أثارت مؤخرا تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون جدلا واسعا حين قال إنه "يكفي للمرء أن يعبر الطريق ليجد عملا" فقد انهالت عليه الإنتقادات من كل حدب وصوب باعتباره أن قوله، حسب البعض، لم يكن منسجما ومناسبا للأزمة التي يتخبط فيها الشباب الفرنسي والفرنسيون بصفة عامة. في تونس أيضا سيقول لك أي صاحب مؤسسة إن مواطن الشغل وفرص العمل متوفرة، فقط على الشخص أن يضحي ويتحلى بالصبر حتى يثبت قدراته ومهاراته .. فأصحاب الكفاءات يتهافت على الإنتفاع بخدماتهم أرباب العمل لكنهم لا يجوبون الشوارع بحثا عن هذا العمل.
مسائل عديدة لا نصرّح بها لشبابنا أو نادرا ما نبوح بها من بينها أنه لا يمكن التطلّع إلى الفوز بعمل لائق عندما يتحصّل الإنسان على شهادته العلمية بواسطة الغش، ثم يتقدّم للحصول على هذا العمل بهندام لا يليق، مع نسخة من سيرته الذاتية مليئة بالأخطاء أو حتى الترشّح دون سيرة ذاتية أصلا ليكون أول سؤال يطرحه على مشغّله "كم ستدفع لي كراتب شهري؟" قبل حتى أن يثبت كفاءته.
فإن كان المترشّح غير قادر على أن يقدّم نفسه ومطلبه بالشكل اللائق والمطلوب، لا يمكنه العثور على عمل جيّد لأنه لن يتمكن من تمثيل مؤسسته في أحسن صورة، إلا إذا كانت المؤسسة التي سيعمل بها تعكس صورته هو فهذا يصبح ممكنا حينها ..
هناك أمور لا بد أن نصدح بها عاليا وبقوة .. فمن السهل إلقاء اللوم على الدولة وانتقاد المشغّلين وهي ظاهرة أصبحت شائعة منذ 2011 وحتى قبل ذلك .. الأمثلة القادمة من الخارج لا تشجّع على تغيير مثل هذا الخطاب وأول مثال على ذلك احتجاجات "السترات الصفراء" في فرنسا لكن يجب أن نفسّر لهؤلاء الشباب ولكل أصحاب السترات الصفراء والحمراء لماذا يجد البعض عملا بسرعة في حين يعجز البعض الآخر عن ذلك؟ وهنا علينا الإعتراض على التسليم بإجابة تبدو بديهية للكثيرين وهي أن من يتحصّلون على عمل في وقت وجيز هم أبناء عائلات ميسورة وأصحاب نفوذ.. علينا أن نقول لكل من يرحل عن هذا الوطن، إن العشب ليسا أكثر اخضرارا هناك وإنه إذا كنت قادرا على النجاح في الخارج فأنت حتما قادر على أن تنجح في بلدك الذي تتقن لغته وتأقلمت مع ثقافته ومحيطه ومناخه .. علينا أن نقول لكل المطالبين بأن تكون الدولة راعية ومساندة لهم: "عليكم أولا التعويل على ذاتكم والتضحية من أجل وطنكم قبل أن مطالبته هو" .. يفترض أن يكون المربّون والأستاذة في طليعة من يلقّن شبابنا مثل هذه القيم والمبادئ، لكن للأسف حتى الأقلية منهم يتم إخماد صوتها من قبل ضوضاء الأغلبية.
في الأثناء تتواصل أزمة نقابة التعليم الثانوي التي تهدد بمقاطعة امتحانات الثلاثي الثاني بعد أن كانت قاطعت امتحانات الثلاثي الأول. كما أنه تم الإعتراض على انتداب وزارة الإشراف للمعلمين النواب .. أي أن الشغّالين بصدد منع العاطلين عن العمل من الحصول على شغل قار فضلا عن أنهم يطالبون دائما بالمزيد .. فأي رسالة يريد هؤلاء توجيهها للتلاميذّ؟ .. هل هم على وعي بأن هؤلاء التلاميذ المراهقين الذين يتم تهديدهم بعدم إجراء الإمتحانات وبسنة دراسية بيضاء، هم ضعفاء؟ .. فيم عساهم يفكرون حين يرون أستاذهم يهددهم بعدم إجراء الإمتحان في حين أنهم قضوا الليل في المراجعة؟ وماذا تراهم فاعلون إزاء أستاذ يقف أمام تحقيق حلمهم الوحيد في الحياة حاليا ألا وهو النجاح بتفوق في مناظرة الباكالوريا؟ .. أي أجيال للمستقل يعدّه لنا هؤلاء الأستاذة المضربون؟.
إذا كانوا هم أنفسهم يعانون شيئا من الجهل ويفتقرون لأبجديات التعامل السليم في الحياة، فضلا عن افتقارهم لأساسيات التعليم البيداغوجي وعدم تحملهم المسؤولية تجاء التلاميذ، فكيف لهم أن يعدّوا أجيال المستقبل؟ .. هؤلاء الأساتذة المضربون هم الآن بصدد خلق جيل جديد من أمثال عبد الرزاق الزرقي وحمل الأثرياء وحتى من المنتمين إلى الطبقة الوسطى، على إخراج أبنائهم من المدارس العمومية لإلحاقهم بمؤسسات التعليم الخاص (حتى يزداد أصحابها الأثرياء ثراء) .. هؤلاء الأساتذة المضربون هم بصدد تعبيد الطريق أمام واقع لا مناص منه وهو أن أبناء الأثرياء سيتجهون نحو المدارس المرموقة التي تجرى فيها الإمتحانات بصفة عادية حيث لا إضرابات .. في حين سيلجأ أبناء العائلات المعوزة والفقيرة إلى مدارس تفتقر إلى وسائل العمل اللازمة وإلى أساتذة أكفاء يمتلكون الحس البيداغوجي.. هذا هو المستقبل الذي يعده لنا أساتذتنا المضربون.
أما عبد الرزاق الزرقي، رحمه الله فهو ضحية منظومة بأكملها .. ضحية جشع أرباب العمل وقانون ينص على أنه هو من ينفق على أبنائه .. ضحية منظومة تربوية لا يفكّر فيها الأساتذة إلا في أنفسهم .. ضحية إدارة بيروقراطية للنخاع .. ضحية حالة عامة من الأمّية والجهل لا تُثمّن قيمة العمل ولا تفكّر إلا في الزيادة في الأجور وفي ساعات العمل بالحصة الواحدة .. عبد الرزاق، رحمك الله، أنت ضحية منظومة ظالمة لكنك أيضا ضحية مجتمع يرفض أن ينظر في المرآة حتى لا يرى عيوبه أو يوم بعملية نقد ذاتي لنفسه .. مجتمع يفضّل انتقاد حكّامه الذين يراهم كبش الفداء المسؤول عن بأسه وتعاسته.
مساء يوم 23 ديسمبر 2018، لقي فاليكو كوليبالي، رئيس جمعية الجالية الإيفوارية بتونس، حتفه، بعد تعرضه لعمل إجرامي تمثل في الإعتداء عليه بواسطة آلة حادة (سكين)، من قبل مجموعة من المنحرفين أرادت افتكاك هاتفه الجوال، وقد تم القبض على بعض المشتبه بهم ممن تنتظرهم أقصى العقوبة في صورة ثبوت التهمة عليهم.
البعض يتحدّث عن جريمة عنصرية، رغم أنه لا شيء يثبت ذلك إلى غاية الآن ومع ذلك فإن مثل هذه الأحداث الأليمة تزايد عددها في تونس .. في حين اختارت المنظومة الأمنية للأسف الإهتمام بشابين (فتى وفتاة) يتبادلان القبل وبشباب يستهلك مادة القنب الهندي (الزطلة) أو كذلك بالمقاهي والمطاعم التي تفتح نهارا في شهر رمضان شهر الصيام أو كذلك بالحانات التي تفتح أبوابها خلال الأعياد الدينية ... شرطتنا أصبحت بسبب تدهور الوسائل والإمكانيات أقل نجاعة من ذي قبل وهذا أمر واقع علينا الإقرار به مثلما علينا أن نعترف جميعا أن مجتمعنا يعاني من ظاهرة العنصرية والنعرات الجهوية.
التقصير في حماية ضيفنا الإيفواري، أمر لا ريب فيه لكن هذا لا يعني أن مقتل فاليكو كوليبالي رحمه الله يندرج في خانة الجرائم العنصرية، لاسيما وأنه لا وجود لأي دليل أو إثبات على صحة ذلك.
وإذ نتوجه بتعازينا الحارة والصادقة لكل أفراد الجالية الإيفوارية المقيمة في تونس والإيفواريين عموما .. أنتم ضيوفنا المبجلون وفخر لنا أن نستقبلكم بيننا .. في أي مكان من هذا الكون يوجد مجرمون وعنصريون لذا علينا أن نضع اليد في اليد ونقصي هؤلاء من مدننا حتى وإن اقتضى ذلك تعاقب أجيال أخرى.
تعليقك
Commentaires