شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
هذا ما استحضرته وأنا أشاهد الأمن يضرب أبنائي الطلبة.. عصيّ ترتفع لترتاح على أجساد ضعيفة خانها الغذاء.. هراوات تولول في الفضاء لتستقرّ على رؤوس كم كابد الجامعي ليفتحها .. ومن قبله كم ضحّى الأبوان حتى تكبر وتينع.. وتساءلت : ألهذا الحدّ ينقم الشاهد، الجامعيّ والمحلّف أخلاقيا على استئمان أبناء شعب أكله الضعف وأنهكه التعب من اللهاث وراء القوت؟ وتساءلت.. ماذا سيكون موقفي لو شاهدت هؤلاء المسعورين وهم ينقضون على ابني ضربا وتكسيرا؟؟ هل سأسكت.. وأبكي حظّي وحظّ ابني لا غير؟؟ طبعا لا .. وإذا بي أصرخ من داخلي.. بل هذا الذي يضرب وتلك التي تجرّ على الطريق هما من أبنائك أيضا.. أبناء طالما آمنت بنبل وظيفتي فضحّيت لأجلهم.. وقطعت أسبوعيا طريقا فاصلة بين تونس وسوسة.. حتى أكون حاضرة ومستعدّة لتربيتهم: وكم علّمتهم أنّ العزّة أعظم كنز.. فإذا بعزّتهم تجرّ في الأرض الدنسة .. وكم لقّنتهم أنّ الكلام حياة فاذا بالشاهد يأمر من يقطع ألسنتهم.. وكم أثقلت عليهم بالقول إنّ كرامتهم في رفع رؤوسهم فإذا بهذه الرؤوس اليانعة تحشر في المستنقعات..
وإذا بقصيدة المتنبّي تحضرني.. وخاصّة قوله" لا تشـتَـرِ الـعَـبـد إلا والـعَـصَـا مـعــه *** إِن الـعَـبِـيــدَ لأنـــجـــاسٌ مَـنـاكــيــد " ..وأدركت مقتنعة أنّ عبيد القرن الحادي والعشرين هم الطلبة والجامعيون..
عفوا يا أبنائي.. لم نكن نعلم أنّنا الحلقة الأضعف بعد " ثورة 2011".. لم أكن لأصدّق أنّ لسائقي النقل العمومي دور أقوى من أدوارنا في تونس.. إذا هبّ منتفضا خفّ له الجميع مرتعشا... لم أقتنع أنّ الطبقة التي تعيش عالة على حكومة الشاهد هي طبقة المتعلّمين والمعلّمين.. فالسياط لا تظهر إلاّ معهم.. والسياط هي سلاح يهشّ بها الراعي غنمي.. لكن تفنّن السيد الشاهد.. سليل الديمقراطية والحداثة والعلم .. الشاهد المربّي الجامعي فزاد على السوط قنابل مسيلة للدموع.. إنّه التشفّي لا غير.. وكأنّه يقول لكم: عليكم أن تحمدوا الربّ على استنشاق الهواء.. ولأنّكم جاحدون فها إنّي أقطعه عليكم..
إلى هذه الدرجة يقلقك سيدي المشتغلون بالفكر؟؟؟ هل تعلم أنّك بما قدّمت من دلائل يوم الأربعاء قد اصطففت وراء من يرى بوجوب محاربة الفكر حتى يتيسّر بناء دولة طائعة ذليلة ومنقادة لإرادة أولي الأمر؟؟ ألم تتساءل لحظة عن الأسباب الكامنة وراء هذا الكم الهائل من البغض المكتوم الذي تكنّه الحكومات المتعاقبة لطبقة الجامعيين؟ أذكّرك بقولك عندما سئلت عن هجرة الأدمغة الجامعية وفراغ الجامعة التونسية.. ألم تقل " نحن نشجّع هذا المبادرات.. وهي بمثابة الإشعاع الدولي في تصدير الفكر التونسي" اهنأ الآن.. فلم يبق بالجامعة سوى أطلال .. وفراغ.. اهنأ فأصواتنا لن يردّ صداها سوى ناعق.. الناعق سيدي يسكن المقابر وجامعتنا تحوّلت قبور.. هجرها طيورها لأنّها تكره الظلام والموات..
اهنأ سيدي فقد فهمنا أنّنا أوّل ضحايا هذه الثورة.. لأنّها ثورة أيضا على الحداثة والعلم.. ولأنّها ثورة ركبت عليها الإيديولوجيا.. وكم هي المسافة شاسعة بيننا نحن الأحرار وبين الإيديولوجيا..
عفوا أبنائي الطلبة على كلّ مقالة سامية لقنّاكم إياها.. لأنّنا لم نقدر على حمايتكم من قيظ الاستبداد والعنف والجهل.. فهل استطعنا، منذ الثورة، أن نحميكم من القيظ الذي فتحوه عليكم؟ لا، هل تحركنا بما فيه الكفاية ضدّ موضة الدعاة التي شغفت بها الترويكا، فبشّروكم بدين جديد، ليقنعوكم أنّ إسلامكم الذي نشأتم عليه ليس إسلاما؟ لا، البتة.
علينا اليوم أن نقف وقفة صراحة، وأن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب من تربع ليحكمنا، لأنّنا لم نقاوم برنامجهم التربويّ بما فيه الكفاية، ولم نكن في مستوى الأحداث التي نخرت أجساد أبنائنا الضعاف. فلا نخفي رؤوسنا مثل النعام، وعلينا تشريح هذا الجسد المتعفّن بين ايدينا بعد أن رمى به الإرهاب على رؤوسنا.
لقد تركوا الجامعة، قصدا، طيلة هذه السنوات الأخيرة فريسة الفساد والتسيّب ، حتى يغمرها طوفان من التراخي والاطمئنان فكان غياب كلّي للمحاسبة. وتركت هذه الجامعات لوحدها فريسة السبع والضبع...
بدأت هذه السياسة منذ سنة 2012. أي بعد سنة من تربّع الترويكا الحكم، بعد أن تفطّن الجماعة إلى أنّ الجامعة التونسية صارت أشبه بالرجل المريض والمحتضر بل عرضة ولقمة سهلة في يد كلّ غاز فاتح. كانت الهجومات السلفية عليها ، واضطرّ الأساتذة والطلبة إلى الدفاع عن حرمتها، وضاع التكوين وذهبت الدروس في خبر "ليس". ثمّ عشنا ظاهرة أخرى، قد أسمّيها بالغزوات أو قل الفتوحات : وتتمثّل في قدوم الدعاة وافتضاض بكارة الجامعة التونسية. وفي هذه النقطة أتساءل: من أمّن حضور محمّد العريفي، على سبيل المثال بكلية رقادة في نوفمبر 2012؟ أليس الاتحاد العام التونسي للطلبة؟ الابن المدلّل اليوم والذي ينعم هانئا في أحضان الشاهد... تابعوا محاضرة العريفي باليوتيوب تجدون الإشارات اللازمة التي حقن بها أبناءنا حتى يقحمهم في مشروعه الإرهابيّ: من تبشير بدخول 100 الف كلّ سنة الإسلام ، إلى تنبيه بأنّ التعاليم التي يتلقّاها هؤلاء الطلبة " هي الحقّ المبين".. إلى التوعّد في يقين بأنّ الإسلام سيكون في 2025 الدين الأوّل ببلجيكيا وبقية الدول الأوربية. خاصّة أنّ عنوان المحاضرة يحمل في ثناياه تحديا صارخا للمسلم المعاصر، ويدعوه إلى ثورة إسلامية " ماذا قدّمت للإسلام؟". هذا الشخص نفسه انتقل في مهمّة مدروسة وفي نفس الأسبوع إلى مدرسة المهندسين بصفاقس، وبفضل هذا الداعية الظلامي الذي حمته وزارة التعليم العالي آنذاك وبإشراف المنصف بن سالم، أمكن لجمعيات ما كنّا لنعلم بوجودها أصلا، أن تهتك الحرم الجامعي، من أمثال جمعية دار الحديث ،وجمعية الفرقان، وللتذكير فإنّ هذه الجمعية هي فرع من أصل موجود في السعودية. لكن "أعلنت وزارة الداخلية ( للسعودية) تجميد أصول "جمعية الفرقان" في المملكة، وحظر تعامل السعوديين معها، ومن لهم صلة بها، وذلك وفقاً لنظام جرائم الإرهاب وتمويله، والأمر السامي رقم أ/ 44. ويتم تعطيل تمويل الجمعية في إطار مكافحة تمويل الإرهاب وملاحقة ممولي الإرهاب، وعلى وجه الخصوص من يتخفى منهم وراء العمل الخيري". معناه أنّ هذه الجمعية محظورة في السعودية وناشطة حرّة طليقة بتونس وترتع في فضاء مدرسة المهندسين بصفاقس، والتي من المفروض أن تكون أبوابها مغلقة دونها.
أرأيتم المستنقع الذي تغرق فيه الجامعة التونسية، وهذه نقطة من بحر يواجه أمواجه التعليم العالي. وفي أثناء ذلك، وزارتنا نائمة في العسل، بل ينبري علينا الأستاذ خلبوص مؤدّبا ومتشفيّا :فإذا قام جامعي مناديا في ردّ الاعتبار عنّفه.. وإذا انتفض طالب يصرخ بحقّه في الوجود .. جلده.
المشكل أعقد ممّا تتصوّرون ، فنحن نواجه تحديات يقتضي منّا الوضع الراهن أن نتأنّى ونتريّث في استقراء الوضع الذي زاد تعقّدا منذ تسع سنوات، وسيزيد تعقّدا إذا تجاهلناه. لأنّ خلبوص يستقوي بالشاهد والشاهد يستقوي بحكومة تدير خيوطها النهضة..
التعليم العالي يئنّ ولم تعد له القوة على الصراخ .. ولا أبالغ عندما أقول إنّه يلفظ ما بقي له من أنفاس.. فهنيئا للنهضة.. ضربت العروسة بيد القطوسة..
تعليقك
Commentaires