رسالة إلى الفخفاخ: عدم مساعدة الدولة لأصحاب المؤسسات سيؤدي إلى غياب الأجور
منذ حوالي شهر لم يكن فيروس كورونا المستجد منتشرا إلا في مدينة ووهان الصينية.. من كان يتصوّر أن الوضع سيتطوّر إلى هذا الحد ليصبح وباء متفشيا في كامل أرجاء المعمورة تقريبا؟ (باستثناء إفريقيا نسبيا).. فقد أصبحت أوروبا بؤرة عالمية؛ إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وعشرات البلدان المصنّعة والمتقدمة كلها صارت موبوءة وخاضعة للعزل والحجر الصحي.. حتى الولايات المتحدة وأستراليا قررتا عزل نفسيهما.. منذ ديسمبر 2019 وهو تاريخ ظهور هذا الفيروس الجديد من فئة الكورونا وإلى غاية منتصف مارس الجاري كان الجميع (بما فيهم نحن) يظنون أن الوباء لن يضرب إلا الآخرين .. فظهرت العنصرية بقوة ضد الصينيين في الشوارع الباريسية كما التونسية. لكننا نسينا وقتها أو تناسينا وجود ظاهرة إسمها العولمة تشمل البشر والبضاعة والأمراض أيضا .. اليوم صار من قبيل المؤكد أن الإنسانية صار لها تاريخ ما قبل الكورونا وما بعدها .. سجلّ هذا التاريخ قد دُوّن فيه بعد آلاف الضحايا في انتظار خسارة ستصل إلى آلاف الملايين بالدولار واليورو.
لكن أين نحن في تونس من كل هذا؟.. في كلمته مساء الجمعة 13 مارس، أعلن رئيس الحكومة، إلياس الفخفاخ إجراءات صارمة ترقى إلى مستوى المرحلة الثالثة في حين أننا مازلنا في الثانية. الإفراط في التعامل أفضل من التهاون.. ورغم بعض الإنتقادات من هنا وهناك فالمستقبل سيبيّن أن الحكومة أنقذت الكثير من الأرواح البشرية بإجراءات أعلنتها ذات يوم "جمعة 13"... بعض قياديي ائتلاف الكرامة يسخرون من قرارات رئيس الحكومة ويتساءلون عن سبب اختيار توقيت غلق المقاهي على الساعة الرابعة وليس الخامسة، في حين يتهجّم عليها الإسلاميون لأنها أقرت غلق صلوات الجماعة وصلاة الجمعة، كما استاء منها أصحاب الملاهي الذين برمجوا "سهراتهم" في وضح النهار.. رئيس حكومة ما عليه أن يكون فوق الجميع وأن يقود السفينة حيث يجب لها أن تذهب وليس حسب مشيئة البعض وأهوائهم. فالمصلحة العامة فوق الجميع ومن هذا المنطلق فإن إلياس الفخفاخ وسامي إطارات الدولة الذين يعملون معه قاموا بما يجب عليهم فعله.. الإجراءات الإستباقية التي اتخذتها تونس كانت مماثلة بل أفضل في جزء منها مما أعلنته عديد الدول الأوروبية.
المطلوب الآن هو أن تواصل الحكومة على هذا النهج وأن توفّر لنفسها الإمكانيات لتنفيذ ما خططت له، فالقائد الحقيقي ليس الذي يعطي الأوامر ويطاع وإنما ذلك الذي يحكم كرجل مسؤول.
إجراءات العزل المعلنة مساء الجمعة الماضي سيكون لها مخلفات على الصعيد الاقتصادي ومن واجب الدولة تحمّل تبعاتها.. صحيح أننا تفوقنا أو ضاهينا الأوروبيين باتخاذنا تلك الإجراءات الإستباقية لمنع تفشي الوباء، لكن علينا أن نتصرف مثلهم أيضا في ما يتعلق بالقرارات الإقتصادية.. مهما كانت تكلفة الإجراءات الإقتصادية التي سيتخذها إلياس الفخفاخ، فإنها ستكون أقل وطأة من كلفة عدم اتخاذها.
زميلنا الهادي الحامدي والمختص في الإقتصاد راضي المدّب كانا أثارا هذه المسألة عبر استعراض بعض المقترحات التي يجب على الفخفاخ اتباعها فورا حتى يتفادى حدوث كارثة اقتصادية. وقد استبق الرجلان من كان يفترض بهم أن يكونوا في المقدّمة لكنّهم تميزوا بغيابهم عن الركب أي نزار يعيش وزير المالية ومروان العباسي حافظ البنك المركزي التونسي وسمير ماجول رئيس منظمة الأعراف وطارق الشريف رئيس منظمة كونكت. لماذا صمت هؤلاء في الوقت الذي كنا ننتظر سماعهم؟ لماذا وقفوا عاجزين في حين كنا نترقّب ردود أفعالهم؟ فالخطر داهم وهو بيننا فلتتحركوا مثل الأوروبيين والآسيويين الذين أرفقوا إجراءات العزل بأخرى اقتصادية.
البنك المركزي الأمريكي أعلن تخفيضا جديدا في نسبة الفائدة المديرية في حدود 0 و 0.25 - ٪ في حين أن هذه النسبة كانت منخفضة أصلا أي تتراوح بين 1.5 و 1.75-٪ في بداية السنة. أما في تونس فمازالت هذه النسبة في حدود 7.75 ٪ إلى غاية اليوم الإثنين 16 مارس 2020 !.
البنك المركزي الأمريكي قال إنه سيتخذ قرارات بالتنسيق مع كبرى البنوك المركزية في العالم على غرار البنك المركزي الأوروبي، لتوفير السيولة بالدولار للأسواق العالمية. بل أغرب من ذلك فإن البنك الفدرالي الأمريكي دعا إلى استعمال مئات المليارات من الدولارات من الأرصدة الذاتية والسيولة المخزّنة منذ الأزمة الإقتصادية، للرفع من قيمة القروض الممنوحة للشركات والعائلات، حسب ما أوردته وكالة رويترز في إحدى برقياتها.
رئيسة اللجنة الأوروبية، أورسولا فان دير لاين، كانت أعلنت منذ 10 مارس عن إحداث صندوق للإستثمار، تفاعلا مع أزمة كورونا وقد تبلغ الاعتمادات المخصصة له 25 مليار يورو ليكون بذلك قوة استثمارية بيد المؤسسات الصغرى والمتوسطة وكذلك سوق الشغل وبصفة أشمل "الفئات الأكثر هشاشة في إقتصادنا" الذي يعاني من انتشار فيروس كورونا المستجد.
الحكومة الفرنسية وضعت خطة متكاملة لمساندة المؤسسات ستبلغ كلفتها عشرات المليارات من اليورو حسب ما أعلنه برونو لومار وزير الإقتصاد والمالية.
فأين نحن من كل هذا؟ مازلنا نتردد في اتخاذ القرارات.. مازالت نسبة الفائدة المديرية عند مستوى 7.75 ٪ وما زال من يفترض بهم أن يتحركوا ويحثوا الحكومة على التحرك، في عداد الغائبين.
وعلينا أن نذكّر في هذا الموضع بأنّ كل من ذكرنا أسماءهم آنفا هم من أصحاب المؤسسات ممن لهم فكرة واضحة عن إجراءات العزل وكلفتها على المؤسسة. نزار يعيش، وزير المالية لديها الوسائل والإمكانيات أكثر حتى من العباسي وماجول والشريف، نظرا لكونه مر بشركات كبرى في الخارج واشتغل في القطاعين العام والخاص في تونس.
لكن يبدو أن صاحب ذلك المقهى الشعبي هو من كان أكثر ضغطا على الدولة وعلى الفخفاخ أن يفكّر في مثل هذا الرجل لأن معظم المؤسسات الصغرى والمتوسطة التونسية تعمل على طريقته في التسيير باعتماد أسعار منخفضة ودون خزينة احتياطية تقريبا.
صاحب هذا المقهى الشعبي والمؤسسات الصغرى والمتوسطة المشابهة له يمثلون النواة الرئيسية للنسيج الاقتصادي التونسي.. فهم من يدفعون الأجور وهم من يسددون القروض البنكية التي تستنفد مواردهم وهم الذين يتحملون الأعباء الجبائية والإدارية المجحفة. نعم صاحب المقهى هذا وباقي المؤسسات الصغرى والمتوسطة مطالبون ومجبرون على احترام إجراءات العزل والتخطيط للعمل عن بعد (وهو ما لا تنص عليه مجلة الشغل)، لكن على الدولة كذلك أن تساعدهم لأن هذه الإجراءات لها كلفتها.. وإذا لم تتحمّل الدولة هذه التكلفة فإن المؤسسات ستكون مجبرة على تسريح عمّالها أو ربما غلق الشركة وحينها سيكون الثمن باهظا كثيرا بالنسبة إلى الدولة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماهو شكل المساعدة التي يطلبها الأعراف وأصحاب المؤسسات من دولة تعاني المديونية ومفلسة أصلا ؟.. في ما يلي بعض الإجراءات المقترحة من عديد الأعراف والشركات والتي تم إقرارها في عدد من البلدان:
/ تأجيل مواعيد خلاص الأداءات الجبائية (25 و28 مارس) والتغطية الإجتماعية (15 أفريل).
/ تخفيضات مباشرة من الضرائب.
/ التوقّف فورا عن الخلاص الاعتباطي والمجحف للأداء على القيمة المضافة على الفواتير، وتطبيق مبدأ خلاص القيمة المضافة بعد أن يسددها الحريف مثلما هو معمول به في باقي دول العالم. وهذا سيعزز خزائن الشركات بما نسبته 19 ٪ تقريبا.
/ تخفيض كبير (ليس في حدود 200 نقطة فقط) على مستوى نسبة الفائدة المديرية بما سيسمح بتوفير قروض فورية بنسبة فائدة منخفضة لضخ الخزينة.
/ اعتبار الدولة واعترافها بفيروس كورونا حالة قصوى وظرفا قاهرا بالنسبة إلى الصفقات العمومية وبالتالي فإن الدولة تعفو عن خطايا التأخير في علاقة بهذه الصفقات.
/ خلاص الأقساط والديون غير المدفوعة من قبل الشركات لدى الإدارات والمؤسسات العمومية.
/ اتخاذ الحوافز الجبائية في مجال الإستثمار المنتج.
/ إطلاق خط تمويل من أجل إعادة هيكلة الشركات التي تعاني صعوبات اقتصادية ومالية بمساعدتها في حدود 90 ٪ (عوضا عن إجراء الشهرين من رقم المعاملات المعمول به حاليا).
/ وضع خط لإعادة تمويل المؤسسات المانحة للقروض الصغرى.
الأكيد أن هذه الإجراءات سيكون لها ثمنها بالنسبة إلى نزار يعيش لكنه يدرك جيدا أنها ستوفّر عليه تكاليف مرتفعة جدا خلال الأشهر القليلة القادمة. في كل الأحوال ستكون لفيروس كورونا مخلفاته، لكن فلنحاول على الأقل الحد من وطأتها.. كل الدول ستتحمّل خسائر وكلها قبلت بمساعدة الشركات والمؤسسات للخروج بأخف الأضرار. إلياس الفخفاخ تصرّف بشكل سليم وحكيم يوم الجمعة الماضي عبر إعلان إجراءات استباقية شجاعة تذكر فتشكر لذلك عليه أن يواصل على هذا الدرب باتخاذ إجراءات مماثلة لتلك التي أعلنتها الدول المتقدمة لفائدة الشركات وستكون الدولة هي الرابح الأكبر بعد ذلك.
(ترجمة عن النص الأصلي بالفرنسية)
تعليقك
Commentaires