تآمر الرؤساء
رحم الله الشهيد سامي المرابط الوكيل في سلك الحرس الوطني الذي اغتيل أمس الأحد على يد ثلاثة عناصر إرهابية .. والسؤال المطروح: لفائدة من تم تنفيذ هذه العملية ومن خطط لها؟ التحقيقات الجارية من قبل السلط المعنية كفيلة بتقديم الإيضاحات اللازمة، لكن في انتظار ذلك تأتي هذه العملية الإرهابية لتذكّرنا بأن الخطر ما زال قائما وأن الوحوش الآدمية مازالت بيننا، على غرار أولئك الذين يأملون حصد نقاط سياسية بالإستثمار، بطريقتهم الخاصة، في دماء الشهداء.
رئيس الجمهورية، قيس سعيّد تحوّل بسرعة إلى مسرح وقوع الجريمة الإرهابية النكراء وكذلك فعل رئيس الحكومة هشام المشيشي. وعلى غير عادته جاءت كلمة رئيس الدولة محمّلة برسالتين قويتين: الأولى حين قال كل رصاصة تنطلق من عنصر إرهابي سيعقبها وابل من الرصاص تطلقها عليه الدولة .. وهذا ما أثبتته عناصرنا الأمنية التي كانتت رصاصاتها حاسمة. صحيح استشهد واحد من رجالنا البواسل لكن قُتل ثلاثة من الإرهابيين. الرسالة القوية الثانية التي وجهها الرئيس في كلمته مفادها أن كل من يحاول استثمار وتوظيف الأعمال الإرهابية لغايات سياسية فهو واهم.
هذه الرسالة على قوّتها فإن المقصود من ورائها يبقى مجهولا على الأقل بالنسبة إلينا .. لأن رئيس الدولة يبدو على معرفة بمن يتوجه له بهذه العبارات .. فهل يقصد حركة النهضة ؟ أم تيار الكرامة أم خصومهما ؟ الرئيس كعادته لم يشأ الإفصاح بالمزيد.
قبل هذه العملية بثلاثة أيام، ألقى رئيس الجمهورية خطابا ناريا يهاجم فيه من يتآمرون على الدولة. من كان يقصد يا ترى ؟ هنا أيضا يتواصل اللغز.. "سيأتي اليوم الذي تُكشف فيه كل الحقائق" هكذا التزم الرئيس لكن متى يفي بوعده ؟ لا أحد يعلم.
هذه اللغة المشفّرة بدأت تثير الإستياء إذ من غير المعقول أن يبقى المواطنون يجهلون تفاصيل ملفات تعنيهم مباشرة وتمس واقعهم اليومي. من غير الطبيعي كذلك أن السياسيين يواصلون الكذب ويخلفون وعودهم بكل وقاحة.
وأول من يخلف عهده هو رئيس الجمهورية حين يمسك عن كشف الحقائق كلها والتصريح بما يعلم.
من خطاباته وكلماته نستشف أنه على اطلاع بمجريات عديد الأمور وخفايا المتآمرين ونواياهم.. لماذا إذن لا يصدح بما في جُعبته ويكشف الحقائق والأسرار أمام الرأي العام، مثلما تعهّد بذلك سابقا وما يزال ؟.. من فرط عدم الإلتزام بوعوده سيفقد الرئيس حتما ثقة أنصاره فيه ويخيّب آمالهم.
لا يختلف اثنان اليوم في أن المشهد السياسي في تونس صار ملوّثا للغاية بل إنه غارق في الفساد إذا ما استندنا للتصريحات النارية التي أطلقها الوزير السابق المستقيل أيضا من رئاسة حزبه، محمد عبو.. فأين هي النيابة العمومية ؟ وأين هو القضاء ؟.
في نهاية المطاف يبدو أن الإعلام (السلطة الرابعة) هو الطرف الوحيد الذي بقي يضطلع بدوره كاملا في كشف الحقائق أما بقية السلط فقد فضّلت القول عن الفعل.
من خلال ظهوره الإعلامي هذا الأسبوع، يبدو أن رئيس الجمهورية قلقا على إثر المعطيات التي تصله والأكاذيب المختلفة التي يلاحظها في الساحة السياسية. ما الذي يمنعه إذن من التحرّك وإحالة كل المخالفين على القضاء ؟ ما الذي يصدّه عن كشف أسمائهم وتحركاتهم ؟
تريدون جوابا عن كل هذه التساؤلات ؟ إذا كان قيس سعيّد يتحدّث كثيرا دون أن يفصح عن شيء محدد، فلأنه لا يمتلك الحجج الدامغة التي تدينهم قضائيا. لو كان لديه دليل واحد على أي مؤامرة ضده أو على الدولة، مثلما زعم هو لكان أبلغ النيابة العمومية حتى تتحرّك ونبّه وسائل الإعلام إلى ذلك. في هذه الحال يبدو الاستنتاج بسيطا فالرئيس قيس سعيّد يتحدّث كثيرا ولا يقول شيئا أي أنه يتكلّم بما هو أشبه بالثرثرة وهذه معيبة في حق رئيس للجمهورية.
الثرثار الثاني لهذا الأسبوع والذي يتحدّث ولا يقول شيئا ذا بال هو سيف الدين مخلوف، رئيس كتلة ائتلاف الكرامة. فحتى قبل صدور نتائج التحقيقات والتحقيق مع المشتبه به الموجود في حالة إيقاف، قال سيف الدين مخلوف إنه متأكد بما لا يدع مجالا للشك من أن الاستخبارات تقف وراء العملية الإرهابية.. أي استخبارات ؟ هنا أيضا لغز آخر . من أين له بهذه المعلومات ؟ لا أحد يعلم.
الحقيقة أنه لا يعلم شيئا، بل هو مجرّد مهووس بنظرية المؤامرة، مسكون بأحلام وأفكار تليق بتلميذ في الإبتدائي أو أقل من ذلك وهو ما قد يتبادر إلى ذهن رئيس الجمهورية.
على غرار قيس سعيّد، فإن سيف الدين مخلوف بصدد مغالطة ناخبيه وإخلاف وعده .. فقد كان قبل الإنتخابات، يشتم ليلا نهارا، نبيل القروي وحزبه الذي كان معروفا بإسم (حزب المقرونة) .. كان مخلوف يؤكد مرار وتكرارا أن القروي هو الممثل الأعلى للفساد .. أما اليوم فقد تحالف الحزبان بل أسوأ من ذلك، صارت "سهام" مخلوف، موجّهة نحو حزب التيار الديمقراطي وهو حزب ثوري مثل الإئتلاف.
كما أن سيف الدين مخلوف على غرار قيس سعيّد أيضا، يطلق عبارات فضفاضة وجملا في الفضاء وتهيّؤات ومشاهد من وحي الخيال .. فهما يتحدّثان عن مؤامرات وعن استخبارات حتى يكسبا كلامهما شيئا من الغموض بما يظهرهما في هيئة جدية أمام السامعين .. فهما يوحيان الناس بأنهما على معرفة بتفاصيل الأمور لكن ليس بمقدورهما كشف التفاصيل كما لو أن المسالة تتعلق بأسرار الدولة. هذا ما يمكن استنتاجه بعد الاستماع إلى كلمات خاوية وعبارات فضفاضة وتهم بلا دليل أو وبراهن ملموسة.
في ظروف مغايرة كنا سنقول لابد من القطع مع نظرية المؤامرة ومغالطة الرأي العام عبر روايات من وحي الخيال .. لكن علينا الاعتراف بأن هذا التكتيك ناجح مع صنف من الناخبين وأفضل دليل على ذلك يأتينا من الولايات المتحدة الأمريكية التي أضحى رئيسها الحالي مختصا في نظرية المؤامرة وفي الشعبوية الرخيصة .. مثلما نجح في أمريكا فإن هذا التكتيك ينجح أيضا في تونس وهو ما يدركه جيدا كلا الرجلين أي قيس سعيّد وسيف الدين مخلوف. فهما يعلمان جيدا أنهما بصدد تخدير ناخبيهم بهذا النوع من الخطاب. قلعة الدفاع الوحيدة لمثل هذه الخطابات الجوفاء، هي دولة قوية وإعلام متين .. الولايات المتحدة تمتلك كليهما ولهذا نجحوا نسبيا في كشف ألاعيب دونالد ترامب .. أما في تونس فإن الدولة تترنّح ووسائل الإعلام تحتضر.
تعليقك
Commentaires