طبيعة الدولة في تونس منتجة لأزمات غير قابلة للحل
لم تكن سنة 2018 مكتملة في أزمتها، فالمشاكل التي تعيشها البلاد، لم تنته ليلة احتفال التونسيين مثل كلّ دول العالم برأس السنة الميلادية، فالفصل بين السنوات هو مجرّد فصل اجرائي، ولكن في مستوى سيرورة التعاطي السياسي والاقتصادي والاجتماعي ... فإنّ البنية التاريخية غير منفصلة بل هي في حالة تتطوّر ونموّ متواصل، التطوّر هنا لا يعني التقدّم وهو ليس في اتجاه واحد بل يمكن أن يكون في كلّ الاتجاهات.
يمكن اعتبار سنة 2018 بأنها كانت سنة اقتصادية، اذ شهدت تدحرجا خطيرا للدينار كانت نتائجه وخيمة على اقتصاد البلاد وخاصة على المقدرة الشرائية للمواطنين. صحيح انّ ما يسمّه الخبراء بانزلاق الدينار استفاد منه المصدّرون، ولكن لا يمكننا أن ننسى أن تونس ليست بلدا مصدّرا انما نحن إزاء مجتمع استهلاكي، وهو يستهلك ما لا ينتج، بل إنّنا أصبحنا نعيش في جزء من معيشنا اليومي من المواد المستوردة، وهي مواد يتم شراؤها بالعملة الصعبة وبالتالي فانّ تراجع قيمة الدينار أمام الأورو والدولار يؤدّي حتما الى ارتفاع أسعار تلك المواد، ومع اعتبار نسبة التضخّم الناتجة عن نفس الدائرة وهي دائرة انعدام الإنتاج مع الزيادات في الأجور التي لا تقابلها عملية خلق الثروة، فانّ المعادلة تكون واضحة وهي عدم القدرة على مجاراة نسق ارتفاع الأسعار.
رغم أنّ العديد من خبراء الاقتصاد يعتقدون أنّ تراجع قيمة الدينار أمام العملات الأجنبية ناتج عن وضعه الطبيعي، أي عن قيمته الحقيقية لأنّ قواعد الاقتصاد تنبني أيضا على قاعدة العرض والطلب.
هذا الوضع الاقتصادي، الذي تتم معالجته بطريقة التوازنات المالية أي وفقا للمعادلات الحسابية، هو في الحقيقة نتيجة لاختيارات سياسية تمّ إقرارها منذ السبعينيات، بعد فشل تجربة التعاضد وفشل النخبة السياسية الحاكمة في تلك الفترة في إرساء مقوّمات الدولة التعديلية أو الدولة الموجّهة للاقتصاد.
وهو نفس التمشّي الذي تمّ اعتماده الى اليوم مع اجراء تعديلات وتطوير من فترة الى أخرى، ولكنّه تدعّم أكثر خاصة في فترة التسعينات وتواصل نفس النهج الذي ارتبط أكثر بالاقتصاد الرأسمالي وتراجع تدخّل الدولة، وهو نفس التوجّه الذي تمّ اتباعه بعد الثورة.
هذه المقاربة السياسية للاقتصاد، لها استتباعاتها، على جميع المستويات حتى القيمية، اذ تترسّخ ثقافة الفردانية، ولكن في مقابل ذلك فانّه يمكن انتاج الثروة من خلال المشاريع الاستثمارية وتصبح الدولة مستثمرا مثل بقية المستثمرين ولكن في المجالات الاستراتيجية وغير التنافسية.
لكن هذه المقاربة، ليست ابتكارا تونسيا، بل هي ارتباط في حلقة من حلقات الاقتصاد العالمي، الذي يشهد أحيانا انتعاشة واحيانا أخرى انتكاسة، فتكون أزماته لها طابع دوري وطابع آخر هيكلي، وفي وقت الأزمات تعالج البنية الاقتصادية الرأسمالية ذاتها بذاتها فتبتكر الحلول وتقدّم التصوّرات وتصدّر أزماتها للتخفيف من حالة الركود التي تصيب اقتصادياتها من حين لآخر، وتعمل المنظومة الاقتصادية الرأسمالية على تطوير الاستثمارات وتطوير آليات وأدوات الإنتاج وتوفير كلّ أسباب الراحة والتنفيس للقوى المنتجة، فيجد العامل في عمله كلّ الظروف المناسبة والملائمة للإنتاج، وقد ابتكرت المنظومة الرأسمالية وسائل جديدة للعمّال.
لكن هل كانت الدولة التونسية عند اخيارها السياسي لنفس المقاربة الرأسمالية، حقّا دولة رأسمالية؟
حسب كلّ الدراسات فإنّ القطاع الفلاحي في تونس مازال قطاعا في جزء كبير منه بدائي، ومازالت الملكيات العقارية مشتّتة، وحتّى عملية المكننة لم تتماشى معها ذهنية الإنتاج باستعمال الآلة بل مازالت ما قبل رأسمالية، ومازال تشغيل الناس في الأرض يعتمد على نظام الخماسة والعشر، مثلما هو الشأن في عمليات جني الزيتون أو في الزراعات الكبرى أو التمور والقوارص... كما أنّ جزءا كبيرا من الإنتاج الفلاحي يعتمد فقط على الأمطار، ولم تزل العملية الإنتاجية غير عصرية حتّى في صورة استعمال أدوات عصرية.
أمّا بالنسبة الى الصناعة، فباستثناء المصانع الكبرى الاستراتيجية التي أحدثتها الدولة في الستينات والسبعينات والتي تآكلت وبلغت حالة من الاهتراء لم تعد معها قادرة حتّى على ضمان أجور عمالها وادارييها الزائدين عما تستوجبه المؤسّسة، ولم يتمّ إعادة هيكلتها واصلاحها. أمّا في القطاع الخاص، ورغم المبادرات الضئيلة والتي تواجه العديد من المشاكل والمعاناة، فانّه لا يمكننا أن نعتبر أنّ تونس هي دولة صناعية، وحتّى المنتجات الصناعية التي نجدها انما هي مرتبطة بشركات لتونسيين يحصلون على امياز التوريد بالنسبة الى علامة تجارية معيّنة لتوزيع وبيع منتجاتها محليا، مثلما هو الشأن مثلا للسيارات والعديد من التجهيزات الميكانيكية والمنزلية والكهربائة... في مقابل يحصل المستثمر التونسي على جزء من المرابيح فهو في نهاية المطاف يقوم بدور الوسيط لا غير، رغم أنّ ذلك يوفّر مواطن شغل ولكن اذا لم تكن هناك صناعة وطنية خالقة للثروة فانّ الاقتصاد لن يتطوّر.
امّا بقية القطاعات فهي في جلّها خدماتية لم تستطع أن تمثّل بديلا حقيقيا، بل إنّ متطلّبات السوق في كثير من الأحيان قد لا تجد اليد العاملة المختصّة، وهو ما يشير الى وجود فجوة بين الجامعة وسوق الشغل الأمر الذي يفتح الباب على طرح العديد من الأسئلة عن المنظومة التعليمية في تونس التي لا يختلف الفرقاء على أزمتها.
أمّا وضع العمّال في هذه الدولة التي تدّعي تبنيها منظومة الانتاج الرأسمالية فهي أقلّ بكثير من وضع العمال في دول المنشأ الرأسمالي، اذ يعاني العاملون في القطاع العمومي من حالة اغتراب رهيبة باعتبار عدم القدرة على الإنتاج بموجب مرض الإدارة من ناحية وبموجب اهتراء أدوات الإنتاج، أمّا العاملين في القطاع الإداري الخدماتي غير المنتج فهو يعاني حالة عطالة منذ سنوات تستوجب تدخلا عاجلا قبل الانهيار. في حين لا يجد جلّ العاملين في القطاع الخاص المهمّش الحدّ الأدنى من حقوقهم، ويجد العاملون لدى مؤسّسات خاصة تحترم القانون ويستوعب أصحابها عناصر البنية الرأسمالية فيحاولون محاكاة ما يقوم به أصحاب المؤسسات في دول المنشأ الرأسمالي مع ما يفرضه بعض العمال من كفاءة، قادرة على فرض وضع مهني ومالي متطوّر. لكن ذلك لا يعني أنّنا بصدد دولة رأسمالية.
اذن نجد أنفسنا أمام مفارقة، دولة اختارت توجّها رأسماليا لكنها لم تقدر على بلوغ مرحلة الدولة الرأسمالية، وهو ما جعل طبيعة أزماتها تكون هيكلية، وغير قابلة في مجملها للحل، الأمر الذي يجعل المنظومة السياسية في تونس تسعى من حين لآخر للتجدّد السياسي دون أن تبادر في اتجاه إعادة الاختيار وحسم المقاربة، فالبقاء ضمن دائرة دولة اقتصاد اللوبيات والمافيات والعائلات والوسطاء والسماسرة والمتهرّبين من الضرائب والمضاربين... لا يمكنها أن تكون دولة انتاج الثروة والرخاء، بل تكون جهازا لمسايرة الأزمات والحفاظ على مصالح قلّة قلية، تمكّنت من أجهزة الدولة واستعملتها لخدمتها، وبالتالي نحن أمام دولة متأزّمة تعيد انتاج نفس الأزمات المتكرّرة، وهو ما يعني أنها يجب أن تنتظر نفس ردّة الأفعال الجماهيرية التي تحدث كلّما بلغت الأزمة مداها، فتترابط بالعديد من العناصر الأخرى لنتتج غير المنتظر.
2019، التي هي انتقال اجرائي زمني، تتضمّن كلّ عناصر الأزمة التي تضمنتها كلّ السنوات السابقة ولكنها ستشهد انتخابات مما يعني أنّ عنصر التحريض السياسي سيكون أكثر حضورا من ذي قبل، وبالتالي قد لا تكون إجراءات القضاء على أسباب الأزمة ممكنة بل ستتواصل عمليات المسايرة حتى بلوغ الحتمي، اذ لا ينتظر التونسي من هذه السنة الجديدة أزمات بل ينتظر منها بداية الإقلاع.
تعليقك
Commentaires