إعلان طلب عروض من أجل اختيار رئيس للحكومة (2)
كبيرة هي التقلبات التي يمكن أن يشهدها نظام ديمقراطي في بلد ما وقد مرت بها عديد البلدان على غرار بلجيكا التي تبقى مثالا للتجارب التي عرفت فيها الحكومات وضعيات هشة للغاية، إذ أن بعض الأصوات فقط كانت كافية لحسم مسألة تكوينها أو حلّها وكذلك كان الوضع في إسبانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة .. ومن هذا المعيار، ومنه فقط للأسف، فإن تونس تعد بلدا ديمقراطيا بالفعل، لكن الحقائق تؤكد أنه ما زالت تفصلنا مسافات بعيدة لتحقيق ذلك.
ففي البلدان المذكورة أعلاه، لا نجد رئيسا للحكومة يتشبث بمنصبه، إلى أن يأمره رئيس الجمهورية بتقديم استقالته.. في هذه الديمقراطيات كان يفترض أن يكون القاضي لدى القطب القضائي المالي استكمل تحرياته وأصدر البطاقات اللازمة وحتى قرار منع السفر .. في مثل تلك الديمقراطيات لن تجدوا نائبا يطالب بمنع الصحفيين من الدخول إلى البرلمان ولا نواب مطالبين بتسوية وضعياتهم مع مصلحة الضرائب ومع ذلك يواصلون التجوّل بين روقة البرلمان .. في البلدان الديمقراطية لا يخطر في بال أحد أن يجرؤ مواطن على أن يشتم قاضيا ويتحداه أمام الملأ ومع ذلك يتمتّع بحريته المطلقة.. في هذه الدول لن تجدوا صاحب مؤسسة إعلامية في السجن، رغم وجود حكم صادر عن محكمة التعقيب يطالب بإطلاق سراحه، في الوقت الذي يوجد فيه صاحب مؤسسة إعلامية أخرى، زعيم حزب سياسي، مهدد بالضياع لو حاد عن الخط الذي رسموه له.. كما لن تجدوا في الديمقراطيات الحقيقية شخصا مصنفا خطيرا من قبل السلط الأمنية، يدخل مؤسسات الدولة ويغادرها كما ومتى يحلو له، مثله مثل أصدقائه المطلوبين لدى العدالة.. نعم تونس ليست بعد دولة ديمقراطية، رغم الوضعية الهشة لحكومتها الحالية وحالة التشظي والانقسام التي يعشها برلمانها.
في هذا المناخ غير المستقر، تم إيداع عريضتين خلال الأسبوع المنقضي، واحدة ضد رئيس الحكومة والثانية ضد رئيس مجلس النواب.. الأولى صارت لاغية على إثر استقالة المستهدف من العريضة (رغم تأخر تقديم الاستقالة) والأخرى ما زالت قائمة لكنها قد تسقط يوم عرضها للتصويت على الجلسة العامة.. فيكفي أن يتغيّب نائب واحد عن الجلسة ليحافظ رئيس البرلمان على منصبه وكرسيه. رئاسة مجلس نواب الشعب رهينة صوت واحد لنائب قد يستيقظ متأخرا يومها أو نائب لم يجد زسيلة للتنقل أو آخر اختار أن يبيع صوته مقابل حفنة من الدنانير.. هذا هو حالنا وواقعنا فإذا كنتم تتطلعون إلى الديمقراطية ؟ فهذه هي ديمقراطيتكم .. ولتواصلوا في فرقتكم وانقساماتكم باسم الديمقراطية وحساباتها الضيقة.
تونس اليوم تتدحرج سريعا نحو الهاوية .. فاقتصادها كان هشا بطبيعته قبل أن تفاقم أزمة الكوفيد من وضعه وذلك في ظل غياب الدعم والمساندة الفعلية من السلطات.. ومما زاد الذين بلة جاءت اضطرابات قفصة وتطاوين حيث لنا بعض الموارد من الفسفاط والنفط .. وهي نتائج مباشرة للغياب الكلي لدولة قوية وواعية بضرورة مساعدة المؤسسات .. فالبطالة ستتفاقم والأزمة الاقتصادية ستحتد وامكانية اندلاع أزمة اجتماعية حادة تزداد يوما بعد يوم .. وعاقبة كل هذه النتائج ستكون المجاعة والفقر على الأبواب مثلما قرعت أبواب لبنان وفينيزويلا .. إذا انفجرت الأزمة فإن الطبقة السياسية الحالية برمتها قد تدفع الفاتورة غاليا وقد يؤدي الوضع إلى اندلاع ثورة حقيقية في البلاد.
رغم هذا الوضع المتأزم، فإن أحزابنا السياسية بصدد تبادل التهم ومحاولة تسجيل نقاط على حساب بعضهم البعض.
بالرغم من هذه الوضعية الحرجة، فإن رئيس حكومتنا يتصرف كما يحلو له ويعفي وزراءه من مناصبهم.. وزراء أثبتوا كفاءتهم (على الأقل في ما يتعلق بلطفي زيتون وعبد اللطيف المكي) لكنهم يهانون ويخرجون من الباب الصغير لمجرد انتمائهم الحزبي.
رغم هذا الخطر الذي يتهددنا جميعا، فإن لدينا أحزابا بصدد القيام بحسابات ضيقة ..فالبعض يحاولون تمرير لائحة لوم ضد الحكومة رغم أنها مستقيلة.. والبعض الآخر يسعون إلى استبعاد 16 نائبا من عريضة أخرى، فقط حتى لا تختلط أسماؤهم في لائحة واحدة.. والسؤال المطروح دائما: ألا يوجد حكيم عاقل واحد في هذه البلاد؟.
اقتصادنا يحتضر ونحن نتخاصم من أجل أمور تافهة .. فمن سيعلن عن انتهاء فترة الاستراحة؟ الأكيد لن يكون رئيس الجمهورية في كل الأحوال.
وفقا لدستور البلاد فإن من واجب رئيس الدولة استشارة الأحواب لتكليف شخصية برئاسة الحكومة .. وهو سيناريو عشناه في الماضي القريب حين اختار الرئيس إلياس الفخفاخ من بين الكل.. والعجيب أنه لا أحد ينتقد أو يلوم رئيس الجمهورية على خياره ذاك، رغم الفضيحة التي تلاحق الشخصية التي اختارها.. والغريب أيضا أن شعبية قيس سعيّد ما انفكت تزداد رغم هذا الخيار الفاشل.
لكن يبدو أن رئيس الدولة سيستعمل الأدوات والوسائل ذاتها التي استخدمها في المرة الماضية ومع ذلك هو ينتظر تحقيق نتائج مخالفة هذه المرة.. فقد وجه الرئيس لمختلف القوى السياسية في البرلمان رسائل ليطلب منها اقتراح شخصية لتشكيل الحكومة يتولى هو اختيار واحدة منها. لكن على ماذا ينص الفصل 89 من الدستور؟ "يقوم رئيس الجمهورية في أجل عشرة أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر". غير أن الرئيس له قراءة مغايرة لهذا النص الدستوري، فالإستشارة في نظره كما لو كان الأمر يتعلق بصفقة عمومية.. يتقدّم الطرف المعني، بطلب عروض ويتنافس على الصفقة من يقترح السعر الأدنى .. وهذا ما حصل في فيفري 2020 حين اختار سعيّد الفخفاخ رغم أن هذا الأخير كانت حظوظه ضئيلة جدا ولم يحظ بمساندة الأخزاب .. فهل سيتوخى الرئيس المنهجية ذاتها؟ كل المؤشرات تدل على ذلك.
رغم أن ما سأقوله الآن لن يجد آذانا صاغية من أحد ولا من القوى السياسية ولا من رئيس الحكومة ومع ذلك فإن من واجبي الإدلاء برأيي حتى يحتفظ به التاريخ ويبقى راسخا على أعمدة هذه الصحيفة التي ستكونون بقراءتها شهودا أوفياء على مضامينها.
نظرا إلى الأزمة الراهنة، فإن الوقت ليس لتسجيل النقاط السياسية وتشويه وسائل الإعلام، بل لإنقاذ البلاد وإلا فإن السقف سينهار على رؤوس الجميع والسياسيون في مقدمتهم وعلى الرئيس أن يدرك ذلك جيدا.
ما يجب فعله هو ترك خلافاتنا جانبا والتفكير سويا في بلورة خطة إنقاذ شاملة وهي من مهام قيس سعيّد كذلك.
علينا الإلتزام بهدنة سياسية تجمع حول طاولة واحدة، نواب ائتلاف الكرامة والنهضة والدستوري الحر والتيار الديمقراطي وقلب تونس وتحيا تونس وبقية الأحزاب لصياغة خطة الانقاذ هذه بإشراف رئيس حكومة توافقية ومن واجب قيس سعيّد فرض هذه المسألة.
على الطبقة السياسية كافة، بمختلف أطيافها، أن تدرك وتعي الوضع الذي تمر به البلاد وتوجّه رسالة إلى أفراد الشعب، بصوت واحد، مفادها أننا سننقذكم .. وبالنظر إلى الشعبية التي يحظى بها الرئيس قيس سعيّد فإنه بإمكانه توجيه مثل هذه الرسالة إلى الشعب التونسي.
بحكم الأزمة الاقتصادية الحادة التي نمر بها، فإن من واجب قيس سعيّد اليوم توجيه الدعوة إلى هذه الطبقة السياسية وإقناعها بأن السفينة ستغرق بالجميع إذا لم يتفق قياديوها حول الوجهة القادمة.. وهذا من الأمور اللازمة والعاجلة.
وفي الختام أستشهد بمقولتين، إحداهما لأبرهام لينكولن وهي تعني الكثير لرئيس الجمهورية: "الديمقراطية هي حكم الشعب من قبل الشعب، من أجل الشعب".. أما الثانية فهي أيضا في مفهوم الديمقراطية وهي لأوسكار وايلد: "قمع الشعب من قبل الشعب، من أجل الشعب" .. ولقيس سعيّد الاختيار.
ملاحظة: تم استعمال عنوان هذا المقال منذ أشهر في مقالة سابقة وهو أكبر دليل على أن التاريخ يعيد نفسه في بلادنا ..
تعليقك
Commentaires