أتمنّى أن يرفض صندوق النقد الدولي طلب المشيشي
مدّة القراءة : 6 دقيقة
الإثنين 3 ماي هو اليوم العالمي لحرية الصحافة .. عيد سعيد لكل زملائي في العمل وفي المهنة عموما .. عيد سعيد أيضا لكل القراء والمشاهدين والمستمعين الذين نستمد منهم غاية وجودنا ..
تحتفي تونس اليوم بهذا اليوم العالمي وهي تعرف تراجعا في ترتيبها العالمي .. ليس لنقص في مهنية صحفييها، مثلما يدّعي ذلك بعض الإسلاميين المتشددين، ولكن بسبب الضغوطات والهرسلة التي يتعرض لها الصحفيون التونسيون والمؤسسات الإعلامية من قبل السلطة الحاكمة والإئتلاف الداعم لها وعلى رأسه الإسلاميون المتشددون .. سنعود إلى هذا لاحقا لكن الأولوية الآن للإحتفال بما تبقّى لنا من هامش حرية.
في سياق آخر .. مازال البحث متواصلا عن الإسلامي المتشدد راشد الخياري الذي أصدرت في شأنه النيابة العسكرية منذ عشرة أيام بطاقة جلب .. أين هي الشرطة ؟ الأكيد أنها مثلنا تماما تتعرض لضغوطات من قبل أصحاب السلطة والنفوذ حاليا .. فوزير الداخلية يُدعى هشام المشيشي الذي تجمعه علاقة صداقة بالفار .. لا يهم إن كان على العدالة ودولة القانون أن ينتظرا قليلا .. فالمشيشي ليس ممّن يخذلون أصدقاءهم .. لو كان وفيا لقيس سعيّد لكان حال البلاد أفضل بكثير .. لكنّه يفضّل الوقوف إلى جانب إسلامي متشدد كان منذ زمن قريب يناصر تنظيم داعش الإرهابي ويبرّر مقتل الأستاذ الفرنسي صامويل باتي.
على الصعيد الوطني كشفت منظمة أنا يقظ (مكتب منظمة الشفافية الدولية بتونس)، فضيحة تتعلق بالنائبة النهضوية أروى بن عباس التي تلقّت التلقيح ضد الكوفيد قبل أن يأتي دورها، أكبر دليل على أن المحاباة مازالت راسخة في البلاد .. كنّا نأمل لو أن النائبة تحلّت بقدر من الكرامة وانسحبت من الساحة السياسية على إثر هذه الفضيحة .. لكن لا حياة لمن تنادي فالإستقالة ليست من عاداتنا .. لكننا لم نكتف فقط بعدم تلقّي طلب الاستقالة، بل تجرّأ حزبها وحاول تبير تلك المحسوبية والمحاباة. لكن لنتجاوز هذا الأمر فالنهضاويون لا يضيّعون فرصة من أجل التحيّل والسرقة .. هذا ما قلناه مرارا وتكرارا منذ عشر سنين.
منذ انتخاب جو بايدن، رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، هناك شيء تغيّر على الصعيد السياسي .. فالدكتاتور التركي أردوغان يسعى إلى التقرّب إلى مصر وكسب ودّها .. ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يسعى إلى إيجاد أرضية تفاهم مع إيران ويحاول الخروج من المستنقع اليمني .. ومنظمة أنا يقظ تدين فضيحة تتعلّق بنائب إسلامي .. وهذه سابقة منذ عشر سنوات ! نعم هناك أمر تغيّر ! المنظمة التي يموّلها جورج سوروس وجدت أخيرا ما تعيبه على حركة النهضة.
خلال الأسبوع الماضي استمع البرلمانيون الأوروبيون وأعضاء الكونغرس الأمريكي لقادة الدول ورؤساء حكوماتها لتقديم خططهم لإنعاش اقتصاديات بلدانهم بعد أزمة الكوفيد.
جو بايدن طالب ب 1900 مليار دولار لإنجاز خطته .. ألف مليار في شكل مساعدات مباشرة للعائلات .. 440 مليارا في شكل مساعادات للمؤسسات الصغرى والبلديات الأكثر تضررا من الأزمة الصحية و415 مليار دولار ستخصص لتعزيز الجهود في مجال مكافحة الكوفيد 19 والتلقيح.
من ناحيتها ستقوم أوروبا بتعبئة 750 مليار أورو لإنعاش اقتصاديات دول الإتحاد الأوروبي .. وسيتم توزيع التمويلات الأوروبية حسب حاجيات كل بلد في القارة .. إيطاليا ستتسلّم 190 مليارا وإسبانيا 69،5 مليارا وفرنسا 40 مليارا وألمانيا 23 مليارا .. ما لا يقل عن 37 بالمائة من هذه الاعتمادات ستخصص لتمويل الانتقال الطاقي و20 بالمائة للتحوّل الرقمي.
في تونس ما زلنا بعدُ لا نعرف ما معنى خطة إنعاش .. لا أحد يثير المسألة .. قد تتعرّض مؤسساتنا للإفلاس .. أين المشكل إذا مات المرضى في وطني وانتحر العاطلون عن العمل ؟!.
الإثنين 3 ماي يتحوّل وفد تونسي يرأسه وزير المالية علي الكعلي إلى واشنطن للتفاوض من جديد مع صندوق النقد الدولي. القرض الذي تتطلّع تونس للحصول عليه وقيمته 4 مليارات دولار (11 مليار دينار) سيخصص لاستكمال ما ينقص من ميزانية الدولة والتي قدرت ب 52،6 مليار دينار بعنوان سنة 2021. في الوقت الذي يتداين فيه الأمريكان والأوروبيون لإنعاش اقتصادياتهم وتطوير بنيتهم التحتية، نحن في تونس نتداين لتعويض النقص الحاصل في الميزانية .. لكن لنتجاوز الأمر فهذا هو دأبنا منذ عشر سنين !
هذا القرض قذر لأربعة أسباب .. إثنان لأسباب شكلية وآخران لأسباب جوهرية.
من الناحية الشكلية، فإن قادة الدول الأوروبيين والأمريكان مرّوا عبر برلماناتهم لمناقشة تلك القروض التي سيخصصونها لإنعاش اقتصادياتهم .. تحاوروا طوال مئات الساعات في وسائل الإعلام حول خططهم. كل دولة قامت بصياغة وثيقة يتراوح حجمها ما بين 2000 و5000 صفحة مفصّلة، لتفسير مآلات تلك الأموال المرصودة. في تونس تغاضى الكعلي عن كل هذه التفاصيل وهو يستعدّ لطلب التمويلات دون المرور بالبرلمان، ممثل الشعب. بالنسبة إلى هذه الحكومة فإن البرلمان هو غرفة تسجيل .. غرفة للمصادقة البعدية على قرض أي بعد التفاوض بشأنه .. الأدهى والأمرّ هو أن هذا الوزير ذاته يؤكد أن البرلمان يعطّل عمل الحكومة !
مهما كان موقفنا من مجلس نواب الشعب وهو سلبي بالتأكيد، فإن هذا البرلمان يمثّل الشعب ومن الواجب استشارته قبل الذهاب إلى صندوق النقد الدولي. يجب مناقشة مبدأ اللجوء إلى طلب هذا القرض بصفة علنية أي عبر وسائل الإعلام، قبل التوجّه إلى صندوق النقد الدولي. هكذا تكون الديمقراطيات.
السبب الثاني من الناحية الشكلية والذي يدفعني نحو الاعتقاد بأن هذا القرض قذر هو أن تونس قد سبق لها أن تسلمت قروضا من الساحة الدولية مقابل الالتزام باتخاذ جملة من الإصلاحات. فهل تم اعتماد هذه الإصلاحات ؟ الجواب بالنفي .. !
تونس غالطت صندوق النقد الدولي بالالتزام ببعض النقاط التي أخلّت بها لاحقا .. قبل اعتزام طلب قرض جديد، كان على تونس أن تفي بالتزاماتها وعهودها السابقة.
الأدهى والأمر هو أن الإصلاحات المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي هي في مصلحتنا .. لو أننا قمنا بتلك الإصلاحات لكان وضعنا أفضل ولكنا ربما تخلّينا عن طلب هذا القرض.
هذا من حيث الشكل .. من ناحية الأصل فإن السبب الأول هو أن هذا القرض الجديد ليس موجّها للباب الثاني أي لإنجاز الطرقات والمحولات وبناء المستشفيات والمدارس .. فهو ليس مخصصا للبنية التحتية، بل لخلاص أجور ورواتب الموظفين بالأساس.
أرى أنه من المحزن مواصلة دفع ثمن ما نستهلكه اليوم في المستقبل .. الإقتراض ليس عيبا في حد ذاته، شرط أن يخصص ذلك القرض لمشاريع مستقبلية.
القروض التي تحصلت عليها الدولة في عهد بن علي ذهبت أموالها لإنجاز مشاريع البنية الأساسية .. منذ الثورة لم يتم إنجاز أي مشروع للبنية التحتية .. كل المشاريع التي هي بصدد الإنجاز تم التخطيط لها في زمن "الدكتاتورية".
السبب الثاني من حيث الأصل هو أن الاقتراض ليس الحل الوحيد أمام الحكومة لسد النقص في الميزانية أو تمويل المشاريع (إن وُجدت) .. هناك حلول أخرى ترفض الحكومة الحالية (والتي سبقتها) اللجوء إليها لأنهما لا يملكان الشجاعة السياسية الكافية لذلك .. ولأن هذه الشجاعة تعوزهما فإنهما تتداينان وترتهنان أبناءنا !.
حين نمرّ بأزمة .. حين نتعرّض لحادث .. حين نحتاج للمال، أول ما نبادر إليه هو بيع مجوهرات العائلة .. أما الدولة فحين تريد أن تسد النقص الحاصل في الميزانية، عليها أن تلجأ لخصخصة مؤسساتها، لاسيما تلك التي ترهق خزينة الدولة .. لماذا لا تفوّت الدولة في الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد أو في جزء من شركة الخطوط التونسية قبل تعريض أبنائنا للتداين؟ لماذا لا تتم خصخصة الطرقات السيارة ؟ لماذا لا تتم خوصصة السكة الحديد ؟ ألا ينبغي التفكير جديا في إدراج منافس لشركة الكهرباء والغاز (الستاغ) ؟ لماذا لا تعوّل الدولة على الطاقات المتجددة بما يمكنها من التقليص من العجز الطاقي وتوفير الآلاف من مواطن الشغل ؟ .. كلها هذه الحلول لا تتطلب الكثير من الوقت بل حدا أدنة من الشجاعة السياسية .
هناك حل ثان يتطلب الكثير من الشجاعة السياسية وهو القطع مع الوظائف الوهمية التي تكلّفنا مليارات الدنانير .. في عديد الجهات ولتحقيق السلم الإجتماعية، قامت الحكومات السابقة بإحداث شركات (بيئية) تشغّل آلاف الأشخاص دون أن ينتج هؤلاء أي شيء يُذكر .. لو أن كل واحد منهم غرس شجرة واحدة كل شهر لكانت لدينا غابة تضاهي الأمازون في قلب الصحراء !
يوجد حل آخر يتمثل في تسريح وطرد كل الموظفين الذين تم انتدابهم على إثر العفو العام .. هؤلاء ممن يعتبرهم البعض ضحايا القمع، تم تعويضهم بفضل الإسلاميين من خلال انتدابهم صلب الإدارة التونسية .. وبالتالي تم إثقال كاهل الميزانية بمليارات أخرى من الدنانير دون أن يكون هناك في المقابل أي إنتاجية تُذكر.
الأكيد أن تونس تمر بأزمة خانقة اليوم وعوض إيجاد حل للمشاكل وعلاج موطن الداء واقتلاعه من جذوره، فإن الدولة تتوخّى سياسة الهروب إلى الأمام وإجبار الأجيال القادمة على التداين ! .. ما يحدث لا أخلاقي بكل المعايير .. فقد ترك لنا من سبقونا بنية تحتية ومؤسسات ودولة قائمة الذات .. ونحن سنترك للأجيال المقبلة ديونا ثقيلة.
اقترضت الحكومات المتعاقبة وقد يُقبل هذا باسم الثورة والانتقال الديمقراطي لكن في وقت ما يجب التوقف عن ذلك .. عوض الحصول على قروض، قوموا بعملكم كحُكّام، عبر طرد الحثالة التي تنخر ميزانية الدولة وإقناع الأطراف الاجتماعية الشريكة بضرورة خوصصة المؤسسات العمومية.
كل البلدان الأوروبية والأمريكية لجأت للخوصصة وللتخفيف من موظفي الإدارة .. هذه الوصفة نجحت في أماكن أخرى وهي الوصفة التي يطالب باعتمادها دون غيرها صندوق النقد الدولي.
لكن لأنه ضعيف وتنقصه الشجاعة، فإن هشام المشيشي اختار الحل الأسهل حتى وإن كان ذلك على حساب تكديس الديون على ظهر أبنائنا !
لذلك كلّه أرجو من أعمال القلب أن يقول صندوق النقد الدولي "لا" .. أن يقول له "اذهب وأنجز ما التزم به من سبقوك إلى الحُكم ثم عُد إلينا بمشاريع تخدم الأجيال القادمة ! صتدوق النقد الدولي لن يموّل حياتك المترفة ورواتب موظفيك الكسالى".
تعليقك
Commentaires