الحجر الصحي انتهى في جمهورية أريانة !
9 صباحًا - جولة بالسيارة بحثًا عن الزيت.
في مداخل المدن، ولمسافة 5 كيلومترات، الحجر الصحي ساري المفعول. عميـقًا، خلف كلّ أسوار التقسيم التُرابّي المغروسةِ كيدًا بيننا، يوجد شرّ عظيم. مزيجُ كره وأنانيّة وشؤم وأذية وفساد؛ سقط على ظهُور الكادحين فإعوجت ظــلالهُم. نحنُ في أريانة نعيش تحت قُبّةٍ خارج الزمان والمكان، لا توجد كورونا، الكورونا إشاعة واللي يلقى كورونا يجيبهالي؛ هنا يوجد ما هو أبشع.
أتعلمون ما إسمُ الأحدب الذي يتجوّل نهارًا في حي التضامن وسيدي عمر وجعفر خارقًـا الحجر الصحّي، أتعلمون ما إسمُ الأحدبِ الذي يُزاحم الأنفاس، مئات الأنفاس، التي تُجمع وتُفصل أمام معتمدية رواد؟ يُدعى الفقر.
لا أعلم متى وُلد، لكنه وُلد من رحمٍ ميّــت؛ ضخم الجُثّةِ قبيحَ المُحيَّ، قصير اليدينِ أبطحَ القدمين، أعمى البصيرة ظــمِئ النّــقمة.
10:00
مازلنا خارجا ولا أثر للزيت، ضاع نصف الوقت في الصفوف الطويلة أمام المغازات الكبرى.
ماذا غنّى الرحباني؟ ''أنا مش كافر.. بس الجوع كافر، المرض كافر، الذل كافر.. شو بعملك إذا اجتمعوا فيّ كل الاشياء الكافرين؟" أظن، أن كل شيء خارج رُقعتنا هادىء، بطيء، وبعد حجر كيلومتر 5، الناس في حفلة تحت الشّمس يتبولون على الاجراءات الوقائية.
يحبون عبد اللطيف المكي ونصاف بن عليا، ويعدون الشيب الجديد على رؤوسهم ويحزنون للسواد الذي يُخيم تحت أعينهم، ويشاهدون كل ندواتهم الصحفية ويدعون لهم بالخير، لكنهم لا يطبقون تعاليمهم، تماما كما يُحبون الله ويعصونه، الله غالب. ماذا يقول الأريانيّ للعالم؟ الان، انتهى العهد القديم. لا هذا وطننا ولا هذا ديننا ولا هذه أسماؤنا. اتركونا نبحثُ عن قوتنا وقوتِ أبنائنا. هذه أخطائنا، أقربُ لنا من فضيـلة لم نخترها وجمال نُسب لنا دون وجه حقّ. 'ولاية الورد' ؟ تبّا للورد، هل يُؤكل الورد؟ هل يشتري الوردُ خبزًا ودواءً! تبّا للورد. كل صباحٍ يخرجون إلى الشوارع ليدونوا قانونًا جديدا، و تراكميّا سيكون لأريانة بعد الحجر دستور جديد لم تخطّه أيدٍ غريبة عنها و قريبًا ستتملّصُ أريانة من كلّ وصاية ممكنة و تملكُ نفسها ؛ مملكة، جمهورية، أم حديقة حيوان؟ لا نعلم بعد.
تتدلى أفواهُ الأمنيين جدبـًا، جفت ألسنتهم من الصياح، لا أحد سيعود إلى منزلهْ. تدور سيارة الشُرطة حول نفسها، لا أحد سيعود إلى منزله. الكل خارجًـا، خارج أنفسهم، خارج ثوبِ الخوف، خارج القانون. تتحول مسافة المترين في الصفوف إلى متر واحد، ثم إلى نصف متر، ثم إلى سنتيمترات.. ثم تختفي : كأنه مشهد من فيلم The Human Centipede .اكتبوا هذا العنوان في غوغل وستفهمون هذه الإستعارة، المُـقرفة، أعلم أنها مُقرفة.
10:30
كان أبي يطل على المدينة من نافذة سيارته وكأنه يريد أن يتوقف على الرصيف ويمشي على قدميه هو أيضا، كـأنه يريد أن يقول، أنا منحاز إليهم، بعقلي وقلبي، إنهم أهلِي، أحرقُ الأعلام والدساتير وجسدي فتيلاً كي يمرّوا. لكنه لا يقول هذا، لأنه لا يريد أن يكون مثالا سيئا. أتذكر هذه الجولة ذاتها في جانفي 2011، المشهد ذاته والسيارة ذاتها وشعار الافريقي نفسهُ يتدلى من المراة العاكسة، حينها كانوا يسرقون "الجيان" وكان أبي يبتسم.
-خلّي الجواعة تاكل.
هكذا تُـصنع العصابيّة والكره، هكذا، في مطبخِ الجوع وفي قِــدر الحاجة. 'اقعد في دارك' أيها الفقير، كُل الهواء واشرب ماء الحنفية واشكر الله. ألجم أبناءك أو احبسهم في الخزانة واصبر صبرا جميلاً فالمنحةُ قادمة! المنحة.. المِنحة أهم من الحياة.
لم نجد الزيت على رفوف المغازات، وجدناه في دكان تاجر صغير لا صف أمامه !
14 ظهرا.
على مجموعة فايسبوك لسكان حي الغزالة، نشر طالب افريقي طلب نجدة، نفذت مؤونته منذ أيام ولا يملك مالا، ولا يقدر على خلاص كراء شقته. الطلبة الأفارقة يعيشون عبودية جديدة هنا، يدفعون ضعف معلوم الكراء وضعف أجرة التاكسي وضعف ثمن الباقات ويشتغلون بنصف الأجرة في المقاهي والمطاعم. والان خسروا مصادر رزقهم القليل.
أخبرتكم مرة أنه لا شك أن المسيح كان أسمرا. أخبروني الان، أتصدقون النظرية التي تقول أن الصدمة تنتقل بين الأجيال ؟ أنا أصدق أن كلّ الأفارقة يعيشون صدمات أسلافهم، ان حُرق سـلـفك، ستشب كارها للنار، ان رمي سلفك من سفينة تجلبُ العبيد من افريقيا ليصير طعاما للقروش، ستكره السباحة.. قرأت عن هذا مرة، وكنت أظن أن هذه مجرد نظريات هسترة، الى أن رأيتُ نظرة القهر في عيني أبي وهو يقود سيارته بين الحاجين الى مقر المعتمدية.
الساعة 17 وربع.
صمتا. الان يبدأ مسلسل 'قمرة سيدي محروس'. أسخن وعاء الشربة وأحمله الى الأريكة في طبق به كأس ماء وضعت فيه شريحة ليمون وبعض النعناع. سأشاهده مائة مرة وسأبكي كل مرة في مشهد الاستقلال. في العادة، أحمل عشائي الى الأريكة على الساعة السابعة مع مسلسل الليالي البيض، لكن اليوم ندخل النصف الثاني من الحجر الصحي مع مسلسل جديد وسأغير عاداتي من أجل عيون الوطنية 2. سأغلق الستائر وأحجب الضيّ وأدّعي أن المساء حل.
ماذا نجد في الدراما التونسية حتى تمنحنا هذه الدرجة من السكينة، هي ملجأ الجميع كل مساء، رغم أنه ليس مساء بعد. مازال العالمُ خارجا يستحم من سقمــه في شمس الأصيل الدافئة. دعوهم تحت الشمس.. Il me semble que la misère
Serait moins pénible au soleil.
الى الغد.
تعليقك
Commentaires