بلادنا تئنّ بعد ثماني سنوات: ملفّ التعليم العالي
ها نحن على أبواب ذكرى "الثورة"، مضى عليها ثماني سنوات. وإن طلب منّا تقديم ملخّص شامل لهذه الفترة، أو الوقوف عند بعض من الإيجابيات لبقينا صامتين، ولتساءلنا عن أيّ إنجاز يحقّ لنا أن نفخر به؟ حريّة التعبير؟ طيّب، ولكن ما فائدة أن تتكلّم وتنقد وتوجّه ولا من مصغ أو مجيب، تُحذّر فإذا بالأمور تتفاقم وتزداد تعقيدا. الفساد صار معلنا، والحديث عنه ممجوج. سياسيون ينبتون مثل الأعشاب الطفيلية ، وبقدرة قادر يتحوّلون إلى رموز قيادية، وقد نفِخَ في صورهم.. آخرون وعدوا وخذلوا في يوم وليلة، واليوم يقفون من جديد أملا في وعد جديد.
سأقف عند مسألة التعليم العالي وما عاناه من اعتداء كان له انعكاس على ما نمرّ به من اهتزازات:
فقد انحدر تعليمنا نحو التلاشي منذ عهد الترويكا وإلى اليوم، وكلّما استحضرت هذه الحالة أشعر بالخجل والضعف لأنّي، باعتباري أستاذة لم أستطع أن أحمي أبنائي الطلبة من هذا الغول الذي ابتلعهم. غول الرجعية، وكثيرا ما أتساءل لماذا لم نكن ، نحن الأساتذة، سدّا منيعا ضدّ موضة الدعاة التي شغفت بها الترويكا؟ علينا اليوم أن نقف وقفة صراحة، وأن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب من تربع ليحكمنا، لأنّنا لم نقاوم برنامجهم التربويّ بما فيه الكفاية، ولم نكن في مستوى الأحداث التي نخرت أجساد أبنائنا الضعاف. فلا نخفي رؤوسنا مثل النعام، وعلينا تشريح هذا الجسد المتعفّن بين أيدينا بعد أن رمى به الإرهاب على رؤوسنا.
سرعة مذهلة تميّز بها الإسلام السياسي حتى يستأثر بالجامعة . قد أُتّهَم بالمبالغة في التهجّم على الإسلام السياسي، لكن، ماذا تريدون منّي أن أقول: فكلّ مرّة أنطلق فيها متعقّبة لمشكلة من المشاكل إلاّ وانتهت بي إلى الإسلام السياسي.
لا أنكر أنّ برنامج الإخوان التربوي والاجتماعي قد وجد أرضية خصبة في الجامعة، ومن ذلك أذكر طبيعة الفساد الطاغية على منظومة التعليم، والمنظومة الإصلاحية التي كانت وفية لشروط البنك الدولي أكثر من وفائها لحاجيات المجتمع، ومن ذلك أيضا أذكر طبيعة التكوين الذي يتلقاه الطالب، وخاصّة في العلوم الإنسانية ، فصرنا نخرج طلبة صمّا بكما عميا لا يفقهون. بل من العادي جدّا أن تُكوّن طالبا طيلة ثلاث سنوات وأنت لا تعرف صوته. أضف إلى ذلك حال التسيّب الطاغي على أجواء الجامعة، وأقولها بصراحة ، من كثير من الأساتذة والطلبة والإدارة، وكلّ يغنّي على ليلاه. ولا أخفيكم أنّنا كنّا ننتج بالجامعة مشروع دواعش. كنت دائما أَصدم بمثل هذا الموقف، وأذكر أنّ وزير التعليم العالي دعاني في 2015 لمناقشة وضعية الجامعة التونسية، وقد أفشي سرّا عندما أقول لكم أنّني في ذلك اليوم حزنت ويئست من تحسين وضعنا بالجامعة التونسية، لأنّي وجدت وزيرا يخشى على كرسيه أكثر من خشيته على تكوين أبنائنا، اكتشفت وزيرا يقارب مشاكل التعليم العالي بآليات مهندس في الميكانيك يسعى إلى تعقّب العطب بآلة جامدة... ثرت عندما أخبرني أنّه مطالب بمعالجة الأمور "بالسياسة" ونبهته إلى العواقب الوخيمة في اتباع هذه " السياسة" ، ولم يخطر ببالي أنّ الطاعون بدأ ينخر جسد أبنائي الضائعين التائهين. أدركت اليوم أنّ معالجة الأمور في قطاع التربية "بالسياسة" لا ينفع سوى الغول المقنّع المتربّع في جميع أركان الكليات والمعاهد. وإذا بالجامعة يطغى عليها الفساد والتسيّب ، ويغمرها طوفان من التراخي والاطمئنان لغياب كلّي للمحاسبة. فالسياسة لا تعني سوى انعدام المحاسبة، وغلق المكاتب بالإدارة المركزية وترك هذه الجامعات لوحدها فريسة السبع والضبع.
هذه الظاهرة ، كما أشرت منذ حين، بدأت منذ سنة 2012. أي بعد سنة من تسلّط الترويكا على الحكم، بعد أن تفطّن الجماعة إلى أنّ الجامعة التونسية صارت أشبه بالرجل المريض والمحتضر بل عرضة ولقمة سهلة في يد كلّ غاز فاتح. فالجامعة فقدت حرمتها وقداستها اللتين كانتا ميزتها رغم حكم بن علي. وكانت غزوات السلفية عليها ، واضطرّ الأساتذة والطلبة إلى الدفاع عن حرمتها، وضاع التكوين وذهبت الدروس في خبر "ليس". ثمّ عشنا ظاهرة أخرى، هي قدوم الدعاة وافتضاض بكارة الجامعة التونسية. وفي هذه النقطة أتساءل: من أمّن حضور محمّد العريفي، على سبيل المثال بكلية رقادة في نوفمبر 2012؟ أليس الاتحاد العام التونسي للطلبة؟ وأحمد الله أنّ اللافتة مسجّلة على رأس الداعية في جميع الفيديوهات التي سجّلت الحدث. وليس للنهضة أن تنكر أو تتباكى من تهم باطلة. تابعوا محاضرته باليوتيوب وستجدون الإشارات اللازمة التي حقن بها أبناءنا حتى ينتجوا مشروعا إرهابيّا: من تبشير بدخول 100 ألف كلّ سنة الإسلام ، إلى تنبيه بأنّ التعاليم التي يتلقّاها هؤلاء الطلبة " هي الحقّ المبين". إلى التوعّد في يقين بأنّ الإسلام سيكون في 2025 الدين الأوّل ببلجيكيا وبقية الدول الأوربية. وطبعا لن يبلغ هؤلاء مقاصدهم سوى بتكوين جنود "الله" ، وخاصّة أنّ عنوان المحاضرة يحمل في ثناياه تحديا صارخا للمسلم المعاصر، ويحمله على الحركة والفعل" ماذا قدّمت للإسلام؟". هذا الشخص نفسه انتقل في مهمّة مدروسة وفي نفس الأسبوع إلى مدرسة المهندسين بصفاقس، وبفضل هذا الداعية الظلامي الذي حمته وزارة التعليم العالي آنذاك وبإشراف المنصف بن سالم، أمكن لجمعيات ما كنّا لنعلم بوجودها اصلا ،أن تهتك الحرم الجامعي، من أمثال جمعية دار الحديث ، وجمعية الفرقان، وللتذكير فإنّ هذه الجمعية هي فرع من أصل موجود في السعودية. لكن "أعلنت وزارة الداخلية ( للسعودية) تجميد أصول "جمعية الفرقان" في المملكة، معناه أنّ هذه الجمعية محظورة في السعودية وناشطة حرّة طليقة بتونس وترتع في فضاء مدرسة المهندسين بصفاقس، والتي من المفروض أن تكون أبوابها مغلقة دونها.
كان لوزارة التعليم العالي أيادي بيضاء في دفع مستوى التعليم إلى الانحدار : فقد أغلقت خطة مساعد أو أستاذ مساعد حتى تضمن الشغور للمتعاقدين، وهذا مظهر صارخ من مظاهر الفساد، فساد التكوين والتأطير. الأمر الذي أدّى إلى الاستغناء عن هذه الخطّة في جلّ الاختصاصات المتصلة بالعلوم الإنسانية، وسدّ وزراؤنا الموقّرون على تعاقبهم الفراغ بملحقين أو عرضيين.
يبدو أنّ وزارة التعليم العالي في حكومات الثورات غير معنية بقيمة الشهائد العلمية، وتعتبر مسألة التأطير والتدريس من المسائل الثانوية، بل إنّ العلوم الإنسانية هي بمثابة المقعد الذي يعيق الجماعة عن الانطلاق، ولهذا فأنت لا تجد وزارتنا مهتمة سوى بالتكنولوجيا والإعلامية، وكأنّها اختصاصات لم تولد من رحم الإنسانيات، وغاب عنها أنّ بلدا من دون انسانيات مثله مثل جثة بلا روح... الإطار القارّ في التدريس يسير نحو الزوال بحكم الخروج إلى التقاعد ولم يتمّ تعويضه. فهل ستجد الكليات نفسها في القريب العاجل قائمة على العرضيين؟ إنّه الموت، ولعلّ أوّل الضحايا مرّة أخرى هي العلوم الإنسانية. وقريبا ستقيمون عليها صلاة الجنازة، ونحن السبب، فهي ضحية تهاوننا بها، فكم سكتنا ومازلنا نسكت عن كلّ التجاوزات، ولم تكن تلك حالنا، فكم حمينا نظام التدريس من يد القهر في عهد الاستبداد السياسي الذي عجز عن أن يلحقه بسوء رغم محاولاته المتكرّرة، والسبب أنّنا كنّا حصنا يقي هذا الحرم من كلّ نجاسة.
المشكل أعقد ممّا تتصوّرون ، فنحن نواجه تحديات يقتضي منّا الوضع الراهن أن نتأنّى ونتريّث في استقراء الوضع الذي زاد تعقّدا منذ ثماني سنوات، وسيزيد تعقّدا إذا تجاهلناه. مع التنبيه إلى أنّ إفساد أبنائنا ليس بالأمر الصعب لأنّ الكثير منهم صار عجينة لينة العرك في أيدي المخرّبين، هذا إذا أضفنا الحال المتردية التي يعيشونها ومحاربتهم الجوع وقلّة ذات اليد .
تعليقك
Commentaires