تقشف، تسوّل، عمى ...
شهدت مواقع التواصل الإجتماعي أمس الأحد نشاطا كثيفا بمناسبة الزيارة التي تؤديها نجلاء بودن إلى المملكة العربية السعودية حيث تشارك في قمة الشرق الأوسط الأخضر التي يسعى منظموها إلى وضع خارطة طريق لحماية كوكب الأرض والطبيعة .. "محلاها مدام بودن .. والله مسرارة رئيسة حكومتنا .. يعطيها الصحة كيف ما لبستش الفولارة .. قداشها ناشطة .. ناشطة أكثر من وحدة الإتصال متاعها .. بالحق مضخمة !" .. هذا التجاوب الإيجابي على منصات التواصل الإجتماعي مع نجلاء بودن متوقّع نوعا ما بما أنها تحظى بثقة 51 بالمائة من التونسيين.
لكن كيف يمكن منح الثقة لشخص لا نعرف عنه شيئا في السابق فنحن تعرّفنا إليها منذ حوالي شهر ولم تتوجّه لنا بأي كلمة حتى الآن ؟
وكيف للبعض أن يعلّقوا على هذا الوشاح (الفولارة) الذي لم تضعه فوق رأسها وتلك الإبتسامة الجميلة، دون أن ينشغلوا بما هو أهم من ذلك أي الأسباب الحقيقية وراء تلك الزيارة التي تؤديها رئيسة حكومتنا إلى السعودية ؟
هذا الشعب التونسي "العجيب"، الأذكى على وجه البسيطة، له دوافعه التي يجهلها العقل .. فالتونسي قبل أن يوافق على الرجل الذي يتقدّم لخطبة ابنته، يتقصّى في كل مكان عن أصله وفصله، لكنه حين يتعلّق الأمر بالوطن، تكفيه ابتسامة واحدة.
ومع ذلك فإن الحقيقة واضحة للعيان .. نجلاء بودن تحظى بشعبية كبيرة مثل رئيسها قيس سعيّد ومن غير المسموح مطلقا انتقادهما أو التشكيك في مشاريعهما وصدقهما ونزاهتهما وإلا كان مصيرك وابل من الشتائم وعبارات التخوين .. هناك حتى من زُج بهم في السجن على غرار الصحفي الإسلامي عامر عيّاد او المدوّن سليم الجبالي.
إذن تحوّلت السيدة بودن إلى السعودية ونحن مستعدون للاعتقاد بأن الزيارة مخصصة حصريا للمسألة البيئية.
هكذا إذن تخالف رئيسة الحكومة الأعراف غير الرسمية وهي عدم تخصيص زيارتها الأولى خارج البلاد إلى الجزائر فقط لاعتبارات بيئية.
هل أن نجلاء بودن على علم بأن جهة صفاقس بصدد الإختناق بسبب تراكم الفضلات وأنها ليست الولاية الوحيدة التي تعرف هذا المصير ؟
هل تعلم نجلاء بودن أن تونس ليس لديها أي مشروع ضخم لإنتاج الطاقة المتجددة وأن شركة الكهرباء والغاز (الستاغ) تحبط كل مبادرة في هذا المجال، لأنها هي الطرف المحتكر لإنتاج وتوزيع الكهرباء ؟
أليس من الأنسب أن تهتم السيدة بودن بالمناخ والبيئة في بلدها قبل الإنشغال بالمشاكل البيئية في الخليج وفي الكرة الأرضية ؟
ما لم يُقل هو أن نجلاء بودن اتخذت من هذه القمة البيئية ذريعة وتعلّة للذهاب إلى العربية السعودية والتسوّل هناك وطلب المال من قادتها لتمويل ميزانية الدولة وخاصة رواتب الموظفين للأشهر المقبلة.
لكن ما هو وضعنا اليوم ؟ يوم الخميس الماضي أصدر البرلمان الأوروبي قرارا حول تونس، عبّر فيه عن قلقه إزاء مستقل بلادنا إذ أكد أعضاء البرلمان على ضرورة "المحافظة على الدستور وعلى الإطار التشريعي وعلى أن تونس في حاجة إلى برلمان شرعي يعمل بشكل جيد في أقرب وقت ممكن، مع ضرورة احترام الحقوق الأساسية والحريات"، فضلا عن الدعوة إلى العمل الطبيعي للدولة في ظل الديمقراطية".
هذه المطالب ذاتها تبناها الكونغرس الأمريكي يوم الخميس 14 أكتوبر.
من جهتها خفضت وكالة موديز العالمية من التصنيف السيادي لتونس إلى "س أ أ 1" مع آفاق سلبية.
هنا وهناك تتعالى الأصوات التي تؤكد بأن الدولة ليس لديها الأموال الكافية لخلاص جرايات الموظفين بالنسبة إلى شهر نوفمبر.
أطلق البنك المركزي التونسي في بداية الشهر صيحة فزع في شكل تحذير شديد اللهجة.
حتى رئيس الدولة يبدو متشائما بشأن مستقبلنا فقد تحدّث يوم الخميس الماضي وللمرة الأولى عن التقشف.
هذه التحذيرات والمخاوف يبدو أنها لا تشكل مصدر قلق وإزعاج للمعنيين الأوائل بالوضع أي التونسيين .. مازال البعض يستعرض خصال الرئيس وقراراته ويتغنّى بشعر السيدة بودن والريح تهفهفه. مازال البعض أغشى لا يرى الحقيقة أو لا يود أن يراها .. فليواصل الصرصور الغناء ..
عوضا عن تقديم الحلول الحقيقية للأزمة الراهنة، مازال قيس سعيّد في برجه العاجي .. يتحدّث عن 13500 مليار منهوبة، متناسيا أن الناتج الداخلي الخام للبلاد (أي مجموع الثروات التي نساهم جميعا في خلقها) لا تتجاوز 100 مليار من الدنانير .. تحدّث عن رجل أعمال قام بتحويل مبلغ مالي قدره 500 مليون دينار إلى الخارج، دون أن يتساءل عن نوع الخدمات التي يمكن أن يقدمها شخص ما للحصول على مثل هذا المبلغ الهام.
طالما قلنا وكررنا القول بأن الرجل يخلط بين الملايين والمليارات وأن الأموال المنهوبة التي يتحدّث عنها لا وجود لها، لكن دون جدوى .. بالنسبة إلى البعض الرئيس لا ينطق عن الهوى ..
هو يهاجم المستثمرين وأصحاب المؤسسات، متناسيا أنه بفضلهم مازالت البلاد لم تنهر بعد وأنه لولا أموالهم لما كانت هناك سيولة لتمويل خزينة الدولة.
الرئيس ينتقد أصحاب السيارات الفاخرة في الوقت الذي يوجد فيه أشخاص يموتون من الجوع، متناسيا أنه يتقاضى راتبا يتكون من خمسة أرقام وأن موكبه يضم حوالي 50 سيارة فاخرة.
الرئيس يقصي من الحوار الوطني كل من يخالفونه الرأي أو من يعتبرهم من السارقين، متناسيا أن الحوار لا يتم إلا مع الخصوم وأن السلم لا يبرم إلا مع العدو.
للخروج من الأزمة يقترح قيس سعيّد تنظيم استفتاء شعبي ونظام حكم لامركزي، تنفيذا لوعوده خلال حملته الإنتخابية أو التفسيرية كما يحلو لأنصاره تسميتها .. بعض النصوص التي توضح هذا التمشي الغريب والسخيف بدأت في الظهور.
لماذا ننعتها بكونها غريبة وسخيفة ؟ لأن المشروع الذي يقترحه علينا الرئيس لا يوجد في أي مكان آخر في العالم .. كانت هناك بعض التجارب هنا وهناك ولكنها باءت جميعها بالفشل.
فبدلا من أن يطبّق الحلول الناجحة والتي أثبتت نجاعتها في كل الأزمنة والأمكنة، يسعى قيس سعيّد إلى إعادة تشكيل الكون من جديد والشروع في اختباراته وتجاربه.
السؤال المطروح اليوم: ماهو النظام الناجح في العالم ؟ قال وينستون تشرشل ردا على هذا السؤال القديم:” إن الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الآخرى التي تمت تجربتها" .. لا يمكن قيام ديمقراطية دون برلمان وصحفيين في السجون ..
ماهي الوصفة لتمويل ميزانية الدولة وتحقيق التنمية ؟ بكل بساطة هو العمل !
كيف نتمكّن من التخفيض في العجز التجاري وإحداث مواطن الشغل ؟ تحفيز الإستثمار وتشجيع المؤسسات على مزيد الإنتاج، من خلال التخفيف من الأداءات والتخلص من البيروقراطية التي تعيق عملها.
للأسف يرفض قيس سعيّد أن يرى هذه الوصفة البسيطة والتي تم تجريبها قبلنا وفي بلدان أخرى.
عمليا وإذا نصغي جيدا لخطاباته، فإن قيس سعيّد يرمي عرض الحائط بكل الوصفات الناجحة في الخارج ليفرض علينا وصفته "السحرية".
ومن هذا المنطلق فإن نظام الحكم سيتم اختياره على إثر استفتاء أو استشارة وطنية انتقائية، بعيدا عن دستور 1959 ودستور 2014 وعن البرلمان.
لتمويل ميزانية الدولة، هناك خياران أمام قيس سعيّد: استرجاع المال المنهوب والتسوّل لدى بعض الشركاء الأجانب. لكن في انتظار ذلك هاهو يدعونا إلى التزام التقشّف.
خلاصة القول أن خطة قيس سعيّد للمستقبل تتمثل في تجربة نظام لن ينجح وإنفاق مال لن نتحصّل عليه أبدا.
النظريات الأعجوبة والعجيبة التي يقترحها علينا قيس سعيّد، هناك جملة شهيرة في الكتاب المقدّس "ليس أسوا من العمى سوى من لا يريد أن يرى".
تعليقك
Commentaires