الجوسسة في تونس: تورط سياسيين وفاعلين وحكايات عن الشعوذة في إدارة الدولة
طفت في الآونة الأخيرة قضيّة جوسسة يشتبه في تورّط الموظف التونسي بالأمم المتحدة المنصف قرطاس وموظف بالسفارة الأمريكية، ومن المرجّح أن يرتفع عدد المتهمين، إذا تمّت التحقيقات بشكل طبيعي ودون ضغوط.
هذه القضيّة، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فهي لاحقة لقيّة الموظفين التونسيين في عدد من البلديات الذين كانوا يقدّمون لعميل بالسفارة الروسية وسفير روسيا السابق بتونس معطيات دقيقة عن التونسيين البالغين من العمر بين 18 و 50 سنة، ونسخ ملفات ومضامين ولادة.
كما لا تزال قضيّة جون جاك ديمتري رجل الأعمال الفرنسي الذي يشتبه في أنّه شكّل شبكة في تونس بغاية الجوسسة وربط الصلة بعدد من السياسيين والنقابيين والمثقفين... الاّ أنّ القضاء لم يتجه نحو الإدانة على أساس الجوسسة لعدم توفّر أدلة الادانة واعتبرها قضيّة ارشاء.
كما تمّ الكشف سابقا عن شبكة تجسّس على منشآت حيوية في تونس وعلى شخصيات سياسية الاّ أنّه تمّ ترحيل المشتبه في تورّطهم في القضيّة أو أنهم تمكوا من مغادرة البلاد.
في نفس الاتجاه كشفت تحقيات عن تورّط عملاء لدول في اغتيال التونسي محمّد الزواري وتشير بعض المصادر الحقوقية والقانونية الى تورّط الموساد الصهيوني في تصفيته خاصة وأنهم تبيّن أنه منتسب الى حركة حماس.
سيكون لهذا الموضوع زاويتي نظر الأولى سياسية بمعنى كيف تمّ فسح المجال للجواسيس ولاختراق مؤسسات الدولة والثانية ستكون متعلّقة بمعطيات جديدة في قضيّة الجوسسة الجديدة، أو ما يعرف بقضيّةقرطاس.
قضايا الجوسسة، ارتفعت من حيث العدد ولا شكّ من جهة الكيف، خاصة بعد الثورة، وربما يعود ذلك الى ضعف الدولة وضعف أجهزتها الأمنية التي تعرّضت للعديد من الحملات والاختراقات الممنهجة، اذ أنّ تفكيك الدول يبدأ بتفكيك المؤسستين الأمنية والعسكرية.
منذ الرابع عشر من جانفي وبعد سقوط سلطة بن علي عملت الأطراف السياسية الحاكمة على تعيين قيادات أمنية قابلة للولاء على رأس بعض الأجهزة بوزارة الداخلية، وقد تمّ الكشف عن العديد من الأسماء التي وقفت وراء تعيينها حركة النهضة، كما تمّ العمل على اختراق تلك الأجهزة من خلال التعيينات في المواقع الحساسة والاستراتيجية وأصبحت العديد من الترقيات في المواقع المهمّة تتمّ على أساس الولاء وليس على أساس الكفاءة.
لقد كان للتدخّل السياسي في الأجهزة الأمنية تأثيرا سلبيا على آدائها وكان للتعيينات على أساس الولاء تأثيرا على آداء الكفاءات الحقيقية التي شعرت بالغبن والقهر.
إضافة الى ذلك فلقد عرفت البلاد منذ الثورة فراغا سياسيا يعود بالأساس الى عجز النخبة الحاكمة عن إدارة شأن الدولة وعن التحكّم في الأزمة حتّى بلغ عجزهم الى تهديد كيان الدولة لأوّل مرّة في تاريخ تونس، وأصبح من اليسير أن تجد شخصا ليست له مؤهلات تذكر وزيرا أو مسؤولا كبيرا في الدولة فقط لأنّه صاحب ولاء أو قريب من النهضة أو النداء أو أنه سليل عائلة اقطاعية لها من الجاه والنفوذ ما يخوّل له التأثير في القرار السياسي.
كما أنّ انتشار العديد من الجمعيات والمنظمات الأجنبية التي أصبحت تنشط في تونس دون رقيب... كلها عوامل سهّلت عمليات الاختراق وعمليات الاندساس وسط المواطنين وداخل أجهزة الدولة حتّى الأكثر حساسية منها.
لقد تحوّلت التقارير التي ترفعها بعض الجمعيات التونسية والأجنبية عن المؤسسة العسكرية وعن التسليح وعن البلديات وعن المعطيات الشخصية للمواطنين ولفئات معيّنة من التونسيين وعن المؤسسة الأمنية وأجهزتها وعن تحركات الوحدات الأمنية ومواقع الإرهابيين وحركة السلاح وعن القضاة والقضاء والوضع الاقتصادي ومخطّطات الدولة واستراتيجياتها في علاقة ببعض المعادلات والعلاقات... كلها تنجز وترسل على أنها من أنشطة المجتمع المدني وهي لا يمكن أن تكن غير تقديم معلومات عن البلاد الى جهات أجنبية مقابل الحصول على منافع مالية تحت عناوين الدعم والاسناد، ويمكن إحصاء المئات من الجمعيات الناشطة في تونس إن لم تكن بالآلاف والتي تتلقى دعما من جهات أجنبية مشبوهة ومنها من هو مرتبط بالمخابرات.
أليس تقديم تقارير عن أنشطة الحكومة بكلّ تفاصيلها هو نوع من التجسّس، أليس تقديم تقارير عن الوضع العسكري في تونس والنشاط الأمني واستراتيجيات الأمن هو نوع من التجسس، أليس تقديم تقارير عن حركة السلاح وقيمته من الناحية الرسمية تجسسا، وإن لم يكن كذلك فهل يمكن ان نجد له تسميات أخرى.
إنّ حالة الانحلال التي تعيشها الدولة بسبب فشل القائمين عليها في ادارتها وتسيير أبسط مؤسساتها مع ارتباطاتهم بما يعرف بالمحاور الإقليمية والعمل على إيجاد مساندين وداعمين خاصة فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا إضافة الى بعض دول الخليج، كلّ ذلك يجعل من المرتبطين بتلك الجهات غير معنيين بالمصلحة العامة ولهم اهتمام فقط بمصالحهم الشخصية وتموقعاتهم لذلك لا تهون عليهم تقديم تقارير ومعطيات للسفارات ولمنظمات تلعب دور الوساطة في نقل المعلومة.
هذا على المستوى السياسي أمّا على مستوى قضيّة المنصف قرطاس ومن معه ومن سيكون معهما، فلقد كشفت عن نخبة سياسية هشّة قابلة للاختراق بسهولة، اذ تفيد المعطيات الأولية المتعلّقة بالقضيّة أنه تمّ الكشف عن تفاصيل خطيرة من قبل المؤسسة العسكرية التي أبلغت عن الجريمة سياسية قبل اتخاذ القضاء القرارات اللازمة، وقد تبيّن حسب نفس المعطيات ارتباط شخصيات سياسية مهمّة بأحد الموقوفين في القضيّة وارتباط شخصيات عامة بالقضيّة وذلك من خلال تبادل المعطيات وتوفير معلومات حول سير الدولة من الداخل، اذ يتم التجسس عن منشآت حيوية وعن الأنشطة الرسمية غير المعلنة وعلاقات المسؤولين المالية والشخصية والخارجية وتوريطهم في تجاوزات حتّى أخلاقية ليسهل ابتزازهم، كما يتمّ اعتراض بعض المكالمات الهاتفية لشخصيات رسمية للتجسس عليها وكشف ما يجري داخل الدولة التونسية وأجهزتها للسيطرة عليها أو تفكيك بعضها لضمان استغلالها وتركيع البعض منها، الاّ أنّ الكشف عن الشبكة أفشل العديد من المخطّطات وارعب العديد من الشخصيات خاصة وأنّ أحد المتهمين حسب نفس المعطيات الأولية كشف عن بعض الأسماء المتعاملة معه، كما يجري القيام باختبارات فنية على أجهزة الهاتف المحجوزة والتي يمكن أن تكشف حسب مصادرنا عن طبيعة المكالمات التي كانت تجري ونوعية الاتصالات والارساليات التي كان يتمّ بعثها في شكل تقارير تفصيلية وقضيّة حكاية القاعدة الأمريكية العسكرية في تونس وحقيقة العديد من الملفات بما في ذلك لجوء سياسيين في الدولة الى الشعوذة والتنجيم والاتصال بمنجمين ومشعوذين للاستشارة في ادارة بعض الملفات السياسية الحارقة والعلاقات النافعة وضرب الخصوم...
قضيّة المنصف قرطاس، قد تكشف عن معطيات خطيرة إذا تمّ التعاطي معها على أنها قضيّة جوسسة وإذا لم تخضع بعض الأطراف الرسمية في الدولة الى ضغط الأمم المتحدة وضغط بعض الجهات الأمريكية والإيطالية، ويمكننا أن نعتبر أن تحرّك قوى ومنظمات أجنبية ومجموعات ضغط داخلية وخارجية مؤشّرا على حجم وطبيعة الضغوط الأجنبية لحل المشكل واغلاق ملف القضيّة.
من المعتقد أن تشهد القضيّة إذا أخذت مساراتها القضائية الطبيعية بعيدا عن الضغوط والتدخّلات، تنازع اختصاص بين القضاء العدلي والقضاء العسكري، فالجوسسة من الملفات الخطيرة التي تمسّ من أمن الدولة وسلامتها خاصة وأنّ الفصل 18 من الدستور ينصّ على أنّ «الجيش الوطني جيش جمهوري... يضطلع بواجب الدفاع عن الوطن واستقلاله ووحدة ترابه...» وبالتالي فإنّه يكون من الملفات التي يمكن أن يتعهّد بها القضاء العسكري، غير أنّ القضيّة مازالت الى حدّ الآن في طور التحقيقات تحت اشراف النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس أي تحت أنظر القضاء العدلي.
مهما كانت الجهة التي ستنظر في القضيّة، فإنّ المطلوب هو عدم الخضوع للضغوط والكشف عن الحقيقة كاملة ومحاسبة المتورّطين في ارباك الدولة والعاملين على تدمير أركانها وتفكيك نسيجها الاجتماعي.
تعليقك
Commentaires