السيناريو الأسوأ لكتم حقيقة مدرسة الرقاب القرآنية
لم تبح قضيّة ما يعرف بالمدرسة القرآنية بالرقاب بكلّ تفاصيلها، وظلّت بين تجاذبين، الأوّل يعمل على وتر الهجوم السياسي والثاني استدرك الموضوع وأعاد هجوما معاكسا، مدافعا عن الحق والباطل فتمّ الكشف عن العديد من المعطيات، ولكن الجزء الأهم من الحقيقة لم يتمّ الكشف عنه، فما هو؟
ثلاثة مسارات واستنتاج، تؤسّس هذا المقال، الأوّل لماذا مدارس للقرآن؟ والثاني من عمل على نشرها في البلاد؟ والثالث لماذا؟ قبل الاستناج.
قبل الثورة كان راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة يحاول الإجابة عن سؤال الانتشار الكمّي للإرهابيين من أصول تونسية من أفغانستان وصولا الى العراق وخلايا أوروبا وخاصة في إيطاليا وفرنسا وبلجيكيا، اذ كان يقول إنّ غياب حزب إسلامي وسطي في تونس مع تجفيف منابع الدين جعل عددا من الشباب يردّ الفعل ويلجأ الى العنف والالتحاق بالمجموعات الإسلامية الراديكالية والمسلّحة.
هل أكّد التاريخ هذه الفرضية؟
بعد الثورة، انفتحت تونس على كل الإمكانيات وأصبحت الحركة فيها دون حدود وتمكّن الجميع من حرية النشاط بما في ذلك تنظيم القاعدة، الذي لم يجد مكانا آمنا في العالم مثلما وجده في تونس بعد الثورة حيث كان يعقد اجتماعاته العلنية، تحت عنوان ''أنصار الشريعة'' وقد بلغ الأمر حدّ وصف وسائل اعلام تونسية الإرهابي يسري الطريقي الذي أُعْدِمَ في العراق لتورّطه في تعذيب واغتيال الصحفية أطوار بهجت، بالبطل الشهيد، وأقيمت له جنازة علنية بعد تسليم جثته انطلقت من مطار قرطاج مدجّجة بأعلام ورايات أخطر تنظيم في العالم قبل أن يتولّى داعش افتكاك المبادرة منه.
كانت حركة النهضة تستثمر في تلك الحالة ''الهستيرية'' للإسلاميين الذين فاجأتهم الثورة، وقد استخدم الغنوشي استراتيجية الاستيعاب عملا بقاعدة توسيع جبهة الأصدقاء وتضييق جبهة الأعداء.
حركة النهضة تعتبر نفسها حزبا إسلاميا وسطيا، أصبحت تنشط بحرية بعد سقوط نظام بن علي الذي منعها وغيرها من التيارات السياسية المعارضة فعليا من النشاط، وأصبحت تستأثر بقاعدة جماهيرية قويّة عدديا وعقائديا، بل تمكّنت من السلطة بعد انتخابات أكتوبر 2011.
أثناء حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة أفادت كلّ التقارير المحلية والإقليمية والدولية أنّ تونس هي الأولى عالميا في تصدير عدد الإرهابيين الى مناطق الحروب، في ليبيا وسوريا والعراق وأوروبا...وتحوّلت صورة تونس من دولة الثورة الى دولة الإرهاب.
بهذا المعنى فانّ التاريخ والواقع أثبتا أنّ حكم حزب إسلامي سواء كان وسطيا أم راديكاليا، لن يقلّل من تفريخ الإرهاب وتصديره الى الخارج، وهو ما يعني خطأ فرضية الغنوشي التي كان يعتبرها مسلّمة.
أدركت النهضة، أنّ الرمال التونسية متحرّكة، وأنّ وجودها قد يكون الى حين، حسب ما كانت تردّده بعض الأصوات خاصة داخل الدولة العميقة لذلك، كان عليها التسريع في انجاز الاستراتيجيات المبنية على قاعدتي توسيع جبهة الأصدقاء والتعبئة ثمّ التحريض فالتمكّن.
مساجد للتحريض والتكفير ووسائل اعلام للقصف الذهني المباشر سواء منها الحاصل على الاجازة أو المتسلّل عنوة والتحاق جيش من الانتهازيين التبريريين ممن كانوا قبل أشهر فقط مع نظام بن علي واحتلال للشوارع وللفضاءات العامة مع تدفّق رهيب للأموال واحداث لجمعيات واعتماد خطاب سياسي عنيف مثل ''جرحى الانتخابات'' و ''حزب انداء أخطر من السلفيين'' و ''حيثما حلّ شكري بلعيد حلّ الخراب'' و''لقد قال الشعب كلمته وانتهى'' و'' عندما مائة ألف انتحاري'' و'' سننصب المشانق'' و'' من يستبيح الشرعية سيستباح في الشوارع''
ساندت حركة النهضة في فتراتها الأولى أنصار الشريعة، وكانوا يردّدون شعار ''وحدة وحدة إسلامية نهضة وتحرير وسلفية'' وكانت تغضّ النظر عن تكديس المجموعات المتشدّدة للسلاح في الجنوب التونسي، أو في أفضل الحالات لم تكن تريد اثارة الموضوع، كان السلاح في كلّ مكان وقد بلغ العاصمة وبدأت المخازن تنكشف شيئا فشيئا، تحت ضغط الاعلام والشارع وبعض القوى العالمية...
يوم 6 فيفري 2013 تمّ اغتيال الشهيد شكري بلعيد ثم في جوان من نفس السنة سقط حكم الاخوان في مصر وفي 25 جويلية تمّ اغتيال الشهيد محمّد البراهمي...
اختلطت الأوراق، وفشل تكتيك التمكّن من الدولة والمجتمع بالقوّة.
أصبحت النهضة تتوخّى تكتيك اليسار في أمريكا اللاتينية، وهو التسيير من الخلف دون الحكم، وبالفعل نجحت الى حدّ ما في ذلك، واختارت لذلك تكتيك التمكّن الهادىء من خلال الانبثاث في كلّ مكان، في المؤسسات والجامعات والإدارات ومفاصل الدولة والداخلية والدفاع وخاصة استهداف الأطفال عملا بمقولة '' استهدفوا أبناءهم'' التي روّج لها في فترة ما عبد الفتاح مورو قبل أن يعلن مؤخّرا (2019) التراجع عنها ويعتذر عن ذلك.
تمّ الاهتمام اكثر بالتعليم، والعمل على تشكيل الوعي لمراكمته قبل أن يجد المجتمع نفسه في مواجهة ثقافة واسعة الانتشار، المال المتدفّق لم ينته بل ظلّ متواصلا، وتمّ نشر المدارس القرآنية في كلّ الأحياء تقريبا، حتى قاربت 300 ''مدرسة'' تحت غطاء جمعياتي.
جزء مهمّ من تلك المدارس لم يكن فقط لتحفيظ القرآن بل كان لتفسيره وتأويله، وهنا تتمّ عملية التسريب والأدلجة والصناعة، حيث يُكفّر المجتمع وتُكفَّرُ رموزه وتستباح صورة المرأة ويتمّ ترسيخ موقعها بشكل دونيّ، كما يتمّ اعداد أطفال ليكونوا جاهزين للمنازلة في كلّ أشكالها.
بقطع النظر عن صدمة الاستغلال الجنسي للأطفال ومعاملتهم بسوء، فإنّ ما جعل مدرسة الرقاب تطفو على السطح كحالة فضيحة هو البعد الديني في الموضوع، بمعنى أنّ المخيال الشعبي لا يفهم المتديّن ورجال الدين الاّ من باب الفضيلة، لا يتوقّع ممن يعمل على تحفيظ القرآن ونشر قيم الدين الإسلامي النبيلة أن يصدر عنه ما يخالف الدين وتلك الفضيلة. من هنا جاءت ردّة الفعل القوية وانتشر الخبر كفضيحة.
ما لم يتم تناوله في قضيّة مدرسة الرقاب خاصة وعموما ما يسمّى بالمدارس القرآنية، هو علاقة بعضها بحركة النهضة.
لا يمكن اثبات العلاقة التنظيمية العضوية، ولكن يمكن اثبات العلاقة السياسية والأيديولوجية، فجلّ النهضاويين والإسلاميين عموما كانوا يدافعون عن المدرسة بقطع النظر عمّا كان يجر داخلها، بالنسبة إليهم هي مدرسة للقرآن وكفى.
ثانيا، لقد تمّ التعامل مع الدين كمعطى سياسي، وتمّ التعامل مع القرآن كورقة لتأجيج مشاعر الناس في اطار ذلك المعطى السياسي، أي أنه تمّ احتكار الدين الإسلامي والقرآن الذي هو ملك شعبي مشترك بين كلّ التونسيين، وتحويله الى مجال ضيّق من مجالات الاستخدام السياسي البراغماتي.
ثالثا، تُبيّن الحقائق التي لم يتمّ الكشف عنها علاقة بين صاحب المدرسة القرآنية الذي كان يعيش حياته خلافا لقوانين الدولة التونسية، فهو من غير المعترفين بها ثقافيا وايديولوجيا، وبين قيادات نهضاوية توصف بالصقور، كما تثبت علاقته المتينة بأحد الناشطين الاسلاميين من أئمّة المساجد المعروفين بدفاعهم عن مثل تلك المشاريع، فضلا عن علاقاته المالية...
اذن نحن أمام مشروع، سياسي يستهدف الدولة والمجتمع، يرتبط بثلاثية التعبئة فالتسليح ثمّ المواجهة، في باب التعبئة يتم توخّي وسائل ليّنة بعد ثبوت فشل الأساليب العنيفة، والتعبئة هنا تشمل توسيع العدد وتمتين التسريب وصناعة الوعي الزائف الذي يصنع عدوّه منذ الصغر. أمّا التسليح، فإنّ العديد من المعطيات القضائية تؤكّد أنّ بعض مخازن السلاح مازالت خفيّة لم يتمّ التوصّل اليها بعد، كما تفيد معطيات تمّ الكشف عنها في ما يعرف بالغرفة السوداء بوزارة الداخلية أنّ حركة النهضة أحدثت جهازا سريّا يتجسّس على عدد من أبناء الشعب التونسي من مثقفين واعلاميين وسياسيين ورجال أعمال وفاعلين وقد تمّ تأليف معطيات عن العديد منهم بشكل وهمي لاستعمالها من قبل كتائب الكترونية تمّ احداثها بأموال كبيرة غايتها استهداف الخصوم. أمّا معطى المواجهة فإنّ النهضة تعمل على دعم الشخصية الماسكة اليوم بماكينة الدولة ومفاصلها وهو يوسف الشاهد، بعد أن تأكدت من نهاية دور الباجي قائد السبسي وانتهاء حقبته (الى حين) وهي تريد استعمال يوسف الشاهد للتمركز من جديد في السلطة والدولة، ثم بلوغ الحكم في نهاية 2019 وبداية المواجهة مع المجتمع باستعمال جزء من أجهزة الدولة واستنهاض القوى الخفية في المعركة القادمة بما في ذلك تلك المدارس التي يقال إنها لتحفيظ القرآن مثل مدرسة الرقاب.
إنّه السيناريو الأسوأ الذي يمكن وصفه بلحظة معركة التدمير الشامل للعقل والانسان والمجتمع، الاّ إذا أدرك يوسف الشاهد أنه يُسْتَعْمَلُ كحصان طروادة لتدمير القلعة التي لن تُدكّ الاّ من الداخل.
ومع ذلك يبقى مجال للمقاومة، فالاتحاد العام التونسي للشغل مازال يحتفظ في خصائصه السياسية على نواة تمنع تفكّك الدولة وانهيار المجتمع.
تعليقك
Commentaires