عنق الزجاجة
أعترف أنّني نسيت هذه العبارة، لأنّ سياسيينا ومحلّلينا تركوها. لكن الشروخ التي أصابتنا هذا الأسبوع أحيتها في ذاكرتي، فإذا بي أجدها عبارة بليغة بعد أن كنت أراها سمجة، وصادقة بعد أن كنت أعتبرها مفرغة من المعاني.
أجل نحن في عنق الزجاجة وحشرتنا فيها حشرا دوّامة مجنونة أعلنت العصيان حتى على صانعها.. صار الناظر اليوم عاجزا عن مسايرة توتّر القوم، وانطلق الجميع وفي نفس الوقت يصرخون ويتحرّكون ويهيجون.. في الحقيقة هي حالة هستيرية نعيشها منذ شهر سبتمبر وإلى اليوم.
فالأحزاب في عنق الزجاجة: منها من استطاب له المقام في هذا العنق، واكتفى بمتابعة ما يجري في صمت، وإن رضي بهذه الوضعية فلضعفه أو لأنّ الأحزاب " الكبيرة" والكبير ربي لم ترض به شريكا.
والنداء في عنق الزجاجة: أعضاؤه يتناوشون ، وتلعب بهم أهواء حافظهم فضجروا بهذا الموقع، ولكن لا حيلة ، فهم بين أمرين أحلاهما مرّ ، بين الاستقالة وما ينتج عنها من إقصاء وابتعاد عن المصالح السياسية أو البقاء تحت سيطرة مزاجية ابن الرئيس المدلّل.
ورئيس الحكومة في عنق هذه الزجاجة: يعيش وضعا أعجب شخصيا من تمتّعه به، لأنّه اليوم بين مطرقة الاتحاد العام التونسي للشغل وسندان الالتزامات مع صندوق النقد الدولي، بين مطرقة من يتهمه بالتحالف مع النهضة والعمل على استرضائها، حتى وإن كلّفه ذلك أن يتنازل لها عن عشر وزارات، وحتى وإن كلّفه أن يقبل بمن عرف بانتمائه المتطرّف أو من كان خالي التجربة في الوظيفة العمومية فكيف به في تسيير وزارة، وبين سندان استشراء الفساد الذي صار بمثابة التنّين .. وغلاء الأسعار .. بين مطرقة العامل الذي تعرّى وظلّ بطنه خاويا وسندان المستكرش الذي ابتلع السوق. بين مطرقة وضعنا وقد هزّته الشروخ وسندان الآمال التي تحدو من يواليه من النائبات والنواب طمعا في إنشاء حزب ينقذ البلاد ويعد باقتناص المقاعد البرلمانية.. مفارقة عجيبة ينعم بها يوسف الشاهد، وكأنّه يشاهد فيلما مرعبا لا يمتّ له بصلة.
تعليمنا الجامعي في عنق الزجاجة منذ ما يقارب العشرين سنة.. التعليم العالي يعاني من فرض سياسات نظام أمد.. ويعاني ممّا تسرّب إليه من رغبة في اقتناص فتات من المطامع السياسية.. ولذلك لم يمتلك القدرة على مواجهة العواصف الآتية من خارج الكليات والسبب بسيط :خلعت أبواب الحرم الجامعي وخاصّة بالقيروان و فتحها الدعاة بتهليل من الترويكا.. ولا أنكر أنّنا واجهنا هذا التيار.. لكنّ المحظور حصل، ودنّست القيروان وبعض الكليات بصفاقس..لم نكن نعلم آنذاك أنّنا كنّا نقحم في عنق الزجاجة، والفضل طبعا يعود مباشرة إلى فئة من الجامعيين كانوا يرون أنفسهم " فوق الجميع" أي هم عبارة عن نموذج يتحرّك.. ومنهم من كان يؤاخذنا على نزولنا إلى الشارع واختيار الجهة التي سنناضل تحت رايتها.. بل منهم من فضّل مقاطعتنا حتى لا تطاله شبهة. وهذا النوع كان له الفضل فيما آلت إليه الجامعة التونسية .. لأنّه لا يطمع في الكثير : يكفيه قليل من الحظوة والبقاء في الصورة بالنسبة إلى إدارات الكليات أو الإسهام في تدعيم هذا المترشّح أو ذاك في الانتخابات بالكليات مقابل تذكرة سفر أو ساعات إضافية.. بل وحتى التمديد في سنّ التقاعد... هو نوع لا يُرتجى منه خير، سواء في تأطير الطلبة أو الدفع بالعملية الإصلاحية بالجامعة التونسية..ولعلّ الصورة المتداولة اليوم للجنة مناقشة الناطق الرسمي لأنصار الشريعة برقادة خير مثال للقاع الذي بلغناه.. المفروض من الأساتذة المحسوبين على النخبة التي من واجبها حماية الدار أن تستعمل جميع الوسائل لحماية أبنائنا.. فنحن نعيش حربا ضدّ التطرّف والإرهاب، وحربا ضدّ استقطاب شباب غرّ، وفي كلّ حرب يسعى المحارب إلى سدّ الثغور وأن يعيش كلّ لحظة على أنّها لحظة الإيقاع به وبوطنه.. المفروض أن لا يعيش هذا الشخص مثل "العصفور في وكرو يغنّي" لا محاسبة ولا هم يحزنون .. بل هو ينعم بعصر ذهبيّ هيّأته له النهضة واحتضنه هؤلاء الأساتذة ورعوه بفضل سياسة تسمح لهم بأن يكونوا أصدقاء الجميع.. قال شنوة قال أنا أستاذ.. إيه بابا أستاذ لكن ليس في معنى الإخصاء الذي ذُكِر في المعاجم.. وأن تضيع منك الكلمة .. بل أستاذ في فرض المقاربة ومنح آلة الردّ إلى الطالب الغضّ... فهؤلاء الأساتذة سيبرّرون تدعيمهم للناطق الرسمي لأنصار الشريعة بالقول نحن مع العلم لا غير لكن أعلم أنّ في هذه اللجنة من عرف بميوله النهضاوية، وهو موجود لميله الإيديولوجي لا غير... لكن أعلم أنّ في هذه اللجنة من عرف بميوله النهضاوية، وهو موجود لميله الإيديولوجي لا غير... ثمّ إنّ الجامعي على حدّ قول بعض المفكّرين " يدرك أن الديمقراطية وحقوق الإنسان يتعلل بها من لا يؤمن بها إلى أن يتمكّن.. وهو المصطلح الاثير عند جماعة الإسلام السياسي.. ألم يقل ابو عياض اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا؟.. ومحاولاتهم اختراق أسوار الجامعة وان يكون لهم فيه موطئ قدم يخدم مثل هذه الغايات.."
وفي الأخير سنتفطّن بعد فوات الأوان أنّ هذا الإرهابي قد منِح عذرية جديدة لينتصب " شرعا" بين الطلبة ويبثّ سمومه فيهم .. بَلا هو إرهابي تقلّد أهمّ منصب في منظّمة ولدت من رحم القاعدة، فبالله عليكم أنيروني كيف تصنّف منظّمة ضمن قائمة الإرهاب، ويظلّ قياديوها نظاف كيف " الفرفوري" ؟.. ستدركون لا محالة بعد أن يقع الفاس في الراس أنّ للشريعة أنصارها، وأنّها فرقة لم تندثر بل حفظوها في الصدور... ثمّ بعد ذلك تتساءلون من أين دخل الإرهاب إلى جامعتنا؟؟؟
إنّ ما أخشاه أن يكون أمثال هؤلاء هم من تستشير الوزارة، وتتعامل معهم باعتبارهم خبراء في مجال إصلاح التعليم، لما عرفوا به من " رصانة وحكمة وتمييز الأمور والعدل بين الطالب المعتدل والمتطرّف، فتلك أمور لا تعنيهم، لأنّهم يعيشون في صندوق عاجي".
عنق الزجاجة الذي حشر فيه التعليم العالي ضيّق جدّا ولا سراح له سوى بتكسير هذا العنق ولن تخرج منه جامعتنا دون شروخ.. وخوفي أن يخرج مارد من فوهة الزجاجة .. مارد يأتي على الأخضر واليابس، وذلك بفضل وزير التعليم العالي ورئيس الحكومة المحسوب على الحداثة أو قل "الوسطية" كما يحلو له ذلك.
أمّا النهضة فأيّ عنق زجاجة حبست فيه؟!!! وأكتفي بالإشارة لا غير. ولا ننكر أنّ لجنة الدفاع عن الشهيدين كانت من أهمّ الأسباب في إدخالها في نفق الزجاجة ، لكنّها يسّرت لغيرها ولنفسها الوقوع في الفخّ، لعلّ الحديث يطول ويقتضي منّي حتى أكون منصفة أن أخصّص لها مقالا لوحدها.
تعليقك
Commentaires