alexametrics
آراء

بلى إنها الخطبة البتراء!!

مدّة القراءة : 4 دقيقة
بلى إنها الخطبة البتراء!!

 

 

كان لقاء عفويا، ولا أدري إن كان نقل خطاب السيد الشاهد مباشرة في قناة خاصّة عفويا أيضا.. المهمّ أنّ الجمع فرض نفسه عليّ، فحملت على متابعة الخطاب، خاصّة لما تميّز به الخطيب من لهجة لم نعهدها فيه، ونبرة لم نألفها معه..

كان السيد الشاهد عفويا في كلمته، أو قل موهما الناس أنّ حديثه يسري من القلب إلى القلب.. و لا أدلّ على ذلك من انتفاضة الجمع الحاضر، ونشوة الجميع بقيادة بعض من الوجوه المعروفة التي كانت تنظّم الحوار بين الخطيب وقاعدته..

لكن، وسرعان ما انطلقت بي ذاكرتي إلى استحضار أشهر الخطباء في تراثنا الإسلامي، فإذا بي استحضر خطبتين من أشهر ما خلّد لنا التاريخ: خطبة زياد بن أبيه و خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي، ولأن صيت هاتين الخطبتين انتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم اعتبرهما المؤرّخون صنفا خطابيا خاصّا يندرج ضمن " الخطب البتراء".. فإذا برئيس حكومتنا، وبفضل حزبه الجديد يحي هذا الصنف من الخطب.

احترت في الحقيقة وأنا أتابع الخطبة، إلى أي من الخطبتين هي أقرب؟ خاصّة أنّ الظروف السياسية هي نفسها تقريبا: فبتراء زياد ألقاها على أهل البصرة حين عيّن واليا عليها . وبدأ خطبته مباشرة دون حمد الله والثناء عليه قائلا: ( أما بعد ) فإن الجهالة الجهلاء ، والظلالة العمياء ، والغي الموفى بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ، ويشتمل عليه حلماؤكم . من الأمور العظام ينبت فيه الصغير ، ولا ينحاش عنها الكبير ".

قامت خطبته على ما آلت إليه البلاد من فساد وابتعاد عن تعاليم الإسلام، وتماديهم في مناكرهم وفواحشهم ومعاصيهم، وهم بذلك يحاولون الرجوع إلى العصر الجاهلي من خلال عودتهم إلى العصبية القبلية، والمجاهرة بالمعصية . توعد أهل البصرة بالتهديد والتقريع إذا لم ينتهوا عن ترك المعاصي، و بأن آخرتهم ستكون على يده، وأنه لن يتساهل مع أي شخص سواء أكان على حق أم على باطل، وسيخلط الصالح بالطالح دون تفريق ولن يكف عن ذلك حتى يعدلوا عن أفعالهم الشنيعة. ثم يستدرك فيحاول أن يخفف من حدّة لهجته ببيان صفاء غرضه وأن نيته هي إصلاح الأوضاع المتردية و أن تكون البصرة خالية من أي نزاعات أو فساد، وأنّه مستعدّ لأن يتعاون مع أهل البصرة لبناء مدينتهم. ويختتم خطبته البتراء ملحّا على أنّه لن يتراجع عن سياسته ، وأنه أصبح سيدا عليهم رغما عنهم، وعليهم أن يلونه بالطاعة ، وأن مبدأه في الحكم هو العدل وما أمر به الله ، لكن إن خالفه شخص وخرج عن طاعته فلن يرحمه وسيعاقب بما يستحق.

أمّا بتراء الحجاج فقد قامت على جميع مكوّنات المسرحية، من فضاء وممثّلين، وأحسن من صوّرها عبد الملك بن عمير الليثي، قال:

فإذا به ( أي الحجاج) قد دخل المسجد معتما بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه، متقلدا سيفا، متنكبا قوسا، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، (...) فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه، ونهض، فقال :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني. ثم قال :" يا أهل الكوفة، أما والله إني لأحمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى أبصارا طامحة، وأعناقا متطاولة، ورؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقرق(..) إني والله يا أهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق ما يقعقع لي بالشنان، (..) وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا، فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتن، واضطجعتم في مراقد الضلال، وسننتم سنن الغي.أما والله لألحونكم لحو العصا، (..) ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل؛ فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وإني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أهم إلا أمضيت(..)أما والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعنّ لكل رجل منكم شغلا في جسده!"

كم هي شبيهة بتراء الشاهد ببتراء زياد والحجاج.. وكم إن الأحداث يشابه بعضها بعضا؟؟ في الحقيقة احترت هل ألحقها ببتراء زياد بن أبيه؟ أم ببتراء الحجاج؟؟

ومع ذلك، حقائق لا بدّ من ذكرها: إذ بات واضحا أننا نحن أهل تونس صرنا نموذجا حيّا من أهل العراق. فالفساد قوتنا والشقاق خبزنا ، والنفاق هو ذاك الهواء الذي نستنشق.

بات واضحا يا سيدي أنّك لا تعيش في تونس، أو لنقل أنّك تعيش في تونس أخرى، صوّرها لك أنصارك، هي أشبه بتونس سنة 2011.. أمّا تونسنا نحن.. فليتك تراها!! هزلت وأنهك الضعف جسدها.. اقتلعوا منها عقلها وفقؤوا عينيها.. تونس اليوم فقيرة ، صارت تتكدّى ولا تخجل ، تسكن الشوارع وتقتات من المزابل .. تونس اليوم تلفظ أبناءها وبناتها وترمي بهم في عرض الطريق ، هي أشبه بالقطّة التي تأكل صغارها حتى لا يلتهمهم القطّ ..

لم تعد لدينا القوة لنصرخ .. صرنا نتابع ما يحدث لتونس ولا حول لنا .. فإلى أين نسير وقد بدأ الرعب يسكننا؟ رعب من الشارع، ورعب من النهار ورعب من الليل. مكاسبنا تنفلت من بين أصابعنا ، هل علينا أن ندرك أنّ المنية لن تدفعها عنا الحكومة وعلينا أن نبادرها بأيدينا؟ أليست هي بوادر حرب أهلية تدخلنا في دهاليز لن نخرج منها ولن نقدر على تجاوزها؟

إلى أين نسير ؟ وأحزابنا ما زالت تتلهّى ؟ و معارضتنا صبية تتعلّم كما قيل لنا وفي الأثناء وضعنا يتردّى شيئا فشيئا، وستدرك في الأخير أنّ الوصول إلى السلطة حلم بعيد مناله ، لأنها مازالت تتعلّم. معارضتنا تسير عرضا، ولم تتفطّن إلى أنّ الطريق تسير طولا.

إلى أين نسير؟ بعد أن بدأت منظمات المجتمع المدني تشعر بالكلل لأنّ اليأس صار يسكنها ، والتعب أنهكها، وأعتقد جازمة أنّ اليوم الذي يتأخر فيه المجتمع المدني عن التنبيه نكون قد بدأنا في خطّ أوّل السطور لتأخرنا فيبتلعنا الظلام ويأكل بعضنا بعضا.

سكتّ سيدي حيث كان يجب أن تتكلّم.. وراوغت كعادتك قضايانا المحرقة.. قضايا كبّلت عقولنا وأطلقت ألسنتنا، صرنا لا نتكلّم نفس اللغة، ولا نرى نفس القضايا بعين واحدة، وما صراخك يوم الأربعاء سوى دليل على اجتناب المواجهة المحرقة:

نحن نطالبك بالحديث على الأقل، وأن تكون جريئا في إثارة مسألة الخطر الناعم للإسلام السياسي في بلادنا، وما هي حلولك أمام سياسة التخدير قطرة قطرة لتونس.. نطالبك بالجرأة في الحديث عن جهازهم العسكري الموازي الذي تمكّن من دواليب الدولة وأمسكها من عنقها، مثلما أمسك بك أنت وبنا نحن من رقابنا.. فهل لديك ما تقول في هذا المرض الذي يخنقنا؟؟ لا أعتقد. ننتظرك صارما وشديدا معهم مثلما كنت شديدا مع هذا الشعب الذي أعتبرت نفسك منه وجلدته بالسياط..

فهل بإمكانك أن تتدارك ما فات؟؟ وأن تقترب منّا؟؟ يا ذنوبي..

 

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter

تقرؤون أيضا

03 جانفي 2022 16:04
0
30 ديسمبر 2021 16:29
0
27 ديسمبر 2021 17:00
0