المرتزقة سيصبحون وزراء
سنكون خلال الأسبوع أو الأسبوعين القادمين على موعد مع كم هائل من الأخبار الكاذبة وغير الصحيحة فالأيام القليلة القادمة ستشهد اختيار الفريق الحكومي القادم أي الوزراء الجدد.. وطبعا بهذه المناسبة سنكتشف تباعا أسماء الشخصيات المرشحة لكل منصب وزاري وسنتابع وابلا من الهجمات والإفتراءات على كل المرشحين الجديين من خلال توجيه كل أنواع الأكاذيب والمغالطات بشأنهم.
أولى مظاهر وتجليات هذه المساعي المحمومة تجسدت في تلك المحاولة للمرة الألف من أجل تشويه وسائل الإعلام وخاصة أكثرها تأثيرها.. من ذلك الإحتفاظ في ظروف قاسية بسامي الفهري صاحب قناة الحوار التونسي (الثانية في تونس من حيث نسب المشاهدة) فالرجل ينام منذ أيام فوق الأرض بلا فراش، إمعانا من أصحاب القرار في إهانته.. الإيقاف جاء بقرار من النيابة العمومية دون استشارة قاضي التحقيق ودون أدنى تحقيق فعلي بالمرّة.. وهو ما أثار قلق الملاحظين والفاعلين في المشهد الإعلامي التونسي. فهذه الحادثة أي إيقاف سامي الفهري جاءت بعد إيقاف نبيل القروي، صاحب القناة التلفزية الأولى في البلاد والذي قبع طيلة شهر ونصف وراء القضبان قبل أن يتم إطلاق سراحه. في تلك القضية أيضا لم يصدر أي قاض قراره بإيداع القروي في السجن. فهو على غرار سامي الفهري كان ضحية افتراءات وتهم ملفّقة من الألف إلى الياء فقط لغاية في نفس يعقوب.. فمن مازال اليوم عن تلك الحكاية المتعلقة بعميل الموساد السابق والمختص حاليا في عمليات اللوبيينغ وهي قضية شغلت الرأي العام طوال الأسبوع الأخير من الحملة الإنتخابية الرئاسية؟.
دائما في إطار مسلسل تشويه وسائل الإعلام، تم مساء الجمعة الماضي بث إشاعة وفاة محمد الناصر وقد تداولت الخبر العديد من المؤسسات الإعلامية الكبرى ومن بينها وكالة تونس إفريقيا للأنباء وهو ما جلب لهذه الوسائل التعاليق المستهزئة والسخرية في صبيحة اليوم التالي إذ انخرط بعض الزملاء في تقديم الدروس والمواعظ كما أن نقابة الصحفيين أصدرت بيانا من قبيل جلد الذات دعت فيه المسؤولين عن بث إشاعة وفاة الرئيس السابق إلى الإعتذار .. أما عامة الشعب فيعتبرون أن وسائل الإعلام هي آلات لبث الإشاعات والأخبار الزائفة دون التمييز بين تلك المؤسسات، غثها وسمينها.
من الذي بادر الأول بنشر هذا الخبر الإشاعة؟ لمن لا يعلم ذلك إنها نائبة رئيس مجلس نواب الشعب.. فمن الناحية التقنية والمهنية هي تعد مصدرا رسميا. من أكّد الخبر؟ إنه رئيس الحزب الإسلامي حركة النهضة هذا الحزب الحاكم صاحب الأغلبية في البرلمان المتخلي والمقبل. فهو يعتبر مصدرا رسميا أو على الأقل مصدرا موثوقا به.. بالإضافة إلى هذين المصدرين نجد وكالة الأنباء الرسمية (وات) التي بثت الخبر عبر خدمة الإرساليات القصيرة أي أن الصحفيين العاملين في الوكالة مساء الجمعة لم يرتكبوا أي خطإ يذكر في هذا الشأن.. وبما أن المصائب لا تأتي فرادى شهدت نهاية الأسبوع الماضي بث مقطع فيديو لأحد القيادات الأمنية وعنصر سابق في فرقة مكافحة الإرهاب والذي أشار إلى مخطط جهنمي في الوردانين.. لماذا إذن كل هذا التحامل من قبل رجال السياسة وفي مواقع التواصل الاجتماعي، على وسائل الإعلام التونسية؟ من المستفيد من هذه الجريمة؟ ومن يقف وراء كل هذا؟..
من المستفيد؟
حين نحاول تحليل الأمور بعمق، نجد أنّ موجات الأخبار الزائفة والأكاذيب تنتشر عادة خلال الفترات الإنتخابية) أو في مناخ سياسي يتسم بالتوتر وتفاقم التحديات السياسية وهو ما نحن بصدده اليوم فالمشهد السياسي يعيش على إيقاع تشكيل الحكومة الجديدة واختيار الوزراء غير أن الأسماء المتداولة للشخصيات المرشحة لا تنذر بخير.. فمن وجهة نظرنا نحن أي وسائل الإعلام المدافعة عن قيم الجمهورية والعدل والديمقراطية والمبادئ الحداثية والعلمانية فإن الأشخاص الذين تم تداول أسمائهم تحوم حولهم بعض الشبهات أو يمثلون خطرا أكيدا على البلاد بسبب تطرّفهم أو شعبويتهم. من بين الأسماء المتداولة هناك شخصيات معروفة بارتباطاتها مع المخابرات الليبية والإيرانية وآخرون يشبهم في كونهم جواسيس وغيرهم ممن كانت تربطهم علاقات بأعتى الأنظمة الدكتاتورية، من معمّر القذافي إلى حافظ الأسد (أو نجله بشار) مرورا بصدّام حسين. هناك من لهم روابط صداقة وأعمال تاريخية بأشخاص متهمين في قضايا إرهاب وتآمر ضد أمن الدولة.. يُذكر أن البعض من المرشحين قد تتوفْر فيهم كل هذه العيوب مجتمعة.
يبقى أن الأطراف الوحيدة القادرة على كشف كل هذه الحقائق أمام عامة الشعب والضغط على السياسيين حتى لا يعيّنوا هؤلاء المرتزقة، هي وسائل الإعلام الكبرى بالأساس.
ليس من قبيل الصدفة أن نلقّب بالسلطة الرابعة.. ففي الدول الديمقراطية تعيّن وسائل الإعلام الوزراء وتعزلهم وحتى الرؤساء.. في 2017 كانت الصحيفة الهزلية « Le Canard enchaîné وراء خروج فرنسوا فيون من السباق الإنتخابي الرئاسي. هذه الصحيفة تسببت في إقالة واستقالة عديد الوزراء.. في 1974 كان صحفيو "واشنطن بوست" وراء تنحية ريتشارد نيكسون من منصبه في البيت الأبيض بسبب القضية الشهيرة فضيحة "ووتر ڨايت" والتي تم الكشف عنها في 1972 أي قبل توليه المنصب الرئاسي .. فحين يكون الصحفيون متشبثين بالحقيقة ويقف وراءهم قضاة نزهاء ومحايدون ورأي عام مستنير وواع تصبح السلطة الرابعة ركيزة أساسية في الديمقراطية.
وهذا ما ستتجه نحوه البلاد حتما وهو ما لا يخفى عن منصف المرزوقي والترويكا لكن ما أبعد أن نكون سلطة رابعة بأتم معنى الكلمة.. صحيح لدينا العديد من الأعداء والعراقيل الواجب تخطيها وفي مقدمتها السياسيّون.
في 2012 تم وصم وسائل الإعلام غير المتماهية مع الترويكا بإعلام العار.. كلنا نتذكّر الإعتصام أمام مقر مؤسسة التلفزة التونسية ثم مقر الإذاعة الوطنية..
وفي انتخابات 2019 اتفق الإسلاميون و"الثوريون" على إسقاط "إعلام العار" حتى يتمكنوا من العمل ويتفادوا غضب الرأي العام.. فهل يعلمون أن ضرب وسائل الإعلام التي لا تتفق معهم في الرأي لن ينجر عنه إلا التسريع بعودة الدكتاتورية؟.. هل هم مدركون لتاريخ الشعوب وأن دور الإعلام هو المصلحة العليا للسلطة المضادة التي يمثلها في سبيل ديمومة الديمقراطية؟ هذا أمر يرقى إليه الشك.
الأكيد أنه ليس من مصلحة حركة النهضة أن تكون هناك وسائل إعلام قوية في البلاد كذلك الشإن بالنسبة إلى شخصيات مثل الصافي سعيد وماهر زيد وسيف الدين مخلوف الذين نجدهم دائما في طليعة من يشتمون ويشوّهون المؤسسات الإعلامية غير الموالية لهم. ماذا إذن عن رئيس الجمهورية الجديد قيس سعيّد؟ كغيره من رجال السياسة هو أيضا ليس من مصلحته وجود وسائل إعلام تقلّب في دفاتره القديمة والجديدة.. لكنه على غرار معظم السياسيين فإن خطابه مطمئن حين يتعلق الأمر بالإعلام فتجده يعبّر عن تضامنه معنا ويتبرّأ من كل المتهجمين على الصحفيين وهو ما أكّده لدى استقباله لممثلي هياكل الصحافة والإعلام يوم الثلاثاء الماضي.
إلا أنّ هذا الخطاب مغاير للواقع فقيس سعيّد إما أن يكون سياسيا منافقا أو أنه محاط بمستشارين سيئين وإلا كيف نفسّر عدم استقباله لأعضاء الهايكا الرقيب الرسمي للقطاع السمعي والبصري في حين أنه كان يجدر به أن يبدأ بهذه الهيئة الدستورية؟.. كيف نفسّر مقاطعه للإعلام المحلي خلال الحملة الإنتخابية؟.. وكيف نفهم ذلك العنف خلال الحملة الحاقدة والمغرضة التي شنها أنصاره ضد وسائل الإعلام التونسية وخاصة الحوار التونسي التي تجرّأت على انتقاده؟ وكيف نفسّر أن بعض المقرّبين منه أو على الأقل يدّعون ذلك، مازالوا يهاجمون الإعلام والصحفيين الذين ينتقدون ولو من بعيد قيس سعيّد؟ يوم الثلاثاء الماضي وفي الوقت الذي كان يستقبل فيه ممثلي هياكلنا النقابية، تهجّم أحد المقربين من الرئيس على بيزنس نيوز وعليّ شخصيا بسبب مقال الرأي الذي نشرته الأسبوع الماضي وقد تعمّد توجيه التهم القذرة وعبارات الثلب..
قبل قيس سعيّد وحتى قبل انطلاق الحملة الإنتخابية كان أحد المقربين من نبيل القروي (ترشّح للتشريعية ولم يحالفه الحظ من حسن الحظ) نشر قائمة في أسماء صحفيين كبار قيل إنهم تسلموا مئات الملايين (لا نعلم بأي عملة).. ثلاثة أعضاء في المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين التونسيين وعضوان في مكتب الجامعة التونسية لمديري الصحف (من بيهم صاحب هذا المقال) ذكرت أسماؤهم في هذه القائمة. قمنا بتقديم شكاية في الغرض ومازلنا في انتظار ما ستؤول إليه هذه القضية.. كما تقدمت بشكوى للقضاء ضد منصف المرزوقي من أجل الشتائم والثلب ومازلت أنتظر لغاية هذه الساعة.
قبل النهضة وقيس سعيّد اختص منصف المرزوقي في التهجّم على وسائل الإعلام وقبله كان زين العابدين بن علي نجح في تكميم أفواهنا وحتى الزج بنا في السجن مثل ما حصل مع التوفيق بن بريك والفاهم بوكدوس وغيرهما في حين كان الإسلاميون والمرزوقي خارج أرض الوطن أما قيس سعيّد فكان منهمكا في تقديم محاضراته الجامعية في الوقت الذي كان ذلك المقرّب منه مختفيا أو يرتبط بشبكة الإنترنات بطرق ملتوية.
خلال هذا الأسبوع المخصص لتسمية الوزراء، تعدّ وسائل الإعلام ملفاتها ضد بعض المرشحين لجلب انتباه أصحاب القرار والرأي العام. هذا دورنا وواجبنا وعلى كل رجل دولة أن يحترم هذا الواجب ويحمينا ويساعدنا على القيام به.. لكن الواقع مغاير تماما فكل رجل دولة يسعى إلى تعطيلنا ومنعنا من أداء واجبنا تحت شتى الذرائع والتعلات. لأننا ندافع عن إيديولوجيا ما (سواء كانت شعبوية أو إسلامية أو تقدمية أو غيرها) يعتبرون أننا نعطّل مصالحهم ونمثل خطرا على الشق السياسي المنافس. وللقضاء علينا يبدو أن كل الأساليب مشروعة من قبيل تلفيق التهم الكيدية والقضايا المفبركة وكذلك الاستفزازات والعنف بأشكاله.. كما قد يصل الأمر إلى حد التصفية الجسدية.. حسب منظمة مراسلون بلا حدود فإن 50 صحفيا في العالم قُتلوا في 2019 بسبب ممارستهم لمهنتهم مقابل 84 صحفيا في العام الماضي.. لذلك فإن المستفيد من الجريمة هي الدكتاتورية.. هذا ما يقترفه السياسيّون وأنصار رجال السياسة من خلال التهجّم على وسائل الإعلام المخالفة لهم في الرأي وتشويهها.
إذا كنتم ترغبون في حكومة تتكوّن من المرتزقة والوشاة والمخبرين أو إذا أخذكم الحنين إلى زمن الدكتاتورية طبّلوا لحركة النهضة (أو قيس سعيّد) وتمادوا في تشويه الصحفيين وتوجيه أقذر النعوت لهم.
تعليقك
Commentaires